القرآن الكريم نزل لهداية البشرية وإرشادها، غهو هدية الله تبارك وتعالى، ونور الحياة ودستورها الأول والأخير، وما من شيء يحتاجه البشر إلا وبيَّنه الله عز وجل، فيه إما نصاً أو إشارة، عَلِمه من عَلِمه، وجهله من جهله، وقد أنزل الله القرآن وأمرنا بتدبره والتفكُّر في آياته وفهمها لتستقيم بها حياتنا وليس مجرد تلاوته أو حفظه فقط.
والتدبر كما أشرنا في المقالات السابقة هو التفكُّر المنطقي في المعنى الحقيقي للآية أو العلاقة بينهما وآية أخرى أو الإطلاع على ما يُستنبط منها من معانٍ، ويؤكد على أنَّ دعوة التدبر قائمة إلى يومنا هذا وإلى الغد القريب والبعيد، إذ أنَّ التدبر في القرآن والتفكُّر في معانيه: أمر يحكم به العقل، لأنه نظام إلهي، قال تبارك وتعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كبيرا).
اليوم واستكمالاً للآثار المحمودة المتوقفة على تدبر آيات الذكر الحكيم، بعد أن شرحنا تفاصيل مهمة مثل، زيادة الإيمان وعظم الأجر والثواب، شفاء القلوب وحصول البركة والخيرات من الآثار العظيمة المترتبة على تدبر آيات الذكر الحكيم، وتوقف مدة ختم القرآن على مدى تدبره وفهمه، اليوم نستكمل هذه السلسلة ونبدأ بالحديث عن الصوارف التي تمنع وتحول دون تدبر آيات الذكر الحكيم.
كما قلنا ونقول، إن التدبر يحتاج إلى استحضار القلب واستجماع الفكر وحسن الإصغاء وأمور أخرى كبذل الجهد في مطالعة التفسير، ومعرفة الأحكام وغير ذلك، وللأسف الشديد فإن واقعنا يكشف عن غياب وضعف التدبر عند كثير من الناس، إلا من رحم ربي، وهذا واقع، فانشغال الناس بالمسلسلات أهم عندهم من الاستفادة من مكارم هذا الشهر الفضيل، وليس الشعب فقط، بل الحكومات القيّمة على كل ما هو هابط، دون مراعاة حرمة الشهر الفضيل، إذاً هناك أسباب متعددة تصرف عن التدبر وتبعد عنه، ولا بد من ذكرها للعمل على اجتنابها، ومن أبرزها:
*ارتكاب الذنوب والمعاصي والإصرار عليها وأمراض القلوب: وهي من أعظم ما يصد القارئ عن اتعاظ قلبه وانشراح صدره لمواعظ القرآن وحِكمه وأحكامه، ومن المعلوم أن للذنوب أثراً في قسوة القلوب وظلمة النفوس وقلة الفهم، والله جل وعلا أوضح طريق العلم والفهم بقوله: ( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل)، كما بيّن مقابل ذلك، بقوله تبارك وتعالى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق)، في هذا الإطار، قال ابن قدامة المقدسي في مختصر منهاج القاصدين: (وليتخل التالي عن موانع الفهم، ومن ذلك أن يكون مصراً على ذنب أو متصفاً بكبر أو مبتلى بهوى مطاع، فإن ذلك سبب ظلمة القلب وصدئه، فالقلب مثل المرآة، والشهوات مثل الصدأ، ومعاني القرآن مثل الصور التي تتراءى في المرآة، والرياضة للقلب بإماطة الشهوات مثل جلاء المرآة)، وتتطابق الفكرة مع الإمام الزركشي، كما جاء في كتابه “البرهان في علوم القرآن”: (اعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي ولا يظهر له أسراره وفي قلبه بدعة أو كبر أو هوى أو حب الدنيا أو وهو مصرّ على ذنب أو غير متحقق بالإيمان أو ضعيف التحقيق أو يعتمد على قول مفسر ليس عنده علم أو راجع إلى معقوله وهذه كلها حُجب وموانع بعضها آكد من بعض)، ولا شك أن من أعظم المعاصي التي تصد القلب عن تدبر القرآن تعلقه بشهوات الدنيا، فإن القلب لا يمكنه أن يسمو إلى المعالي وعظيم الفضائل ويشتاق ويطمئن إلى كلام الله وهو يعيش مع ما يصرف قلبه من شهوات الدنيا عن إيمانه وعقيدته السمحة، فمن أراد أن يمن عليه ربه بتدبر آياته عليه أن يخلي قلبه من أمراض القلوب والشهوات والإصرار على المعاصي التي تحول بينه وبين التدبر، فمن اليقين أن المعاصي والشهوات تحدث ظلمة في قلب العبد فيحرم من رزق التدبر والخشوع لآياته سبحانه وتعالى بشؤم المعاصي والذنوب.
*ابن قدامة: (موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة بن مقدام، العدوي، القرشي، المقدسي، 541 هـ – 620 هـ).
*الإمام الزركشي: (بدر الدين الزركشي أبو عبد الله، بدر الدين، محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي المصري، فقيه ومحدث، 745 هـ – 794 هـ).
وكنا قد ذكرنا في وقت سابق عن فضل التلاوة ولكن مما ينبغي إيضاحه أن التلاوة قنطرة التدبر، وأن التلاوة الحقة هي التي تكون مع التدبر، وقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن، وفقاً لابن القيم، فلا ينبغي حصر الهمة في كثرة التلاوة وعدد الختمات دون أدنى التفات للتدبر والفهم، ويضيف ابن القيم، فالتلاوة مع انشغال الذهن بأمور الدنيا أو القراءة في أوقات وأماكن يكون فيها ناس كثيرون وحركة كثيرة وأحاديث متنوعة كل ذلك لا يساعد على التدبر بل يعلق القلب بما يرى ويسمع ويشغل الذهن بالتفكير في أمور بعيدة عن دلالة الآيات، ومما هو جدير بالذكر أن انشغال الذهن والقلب يصرف عن تدبر القرآن والتأثر به وذلك لغفلة القلب ولو كان حيا لكنه مشغول عنه بغيره، فمن كان حاله كذلك فهو غائب القلب ليس حاضراً فهذا لا تحصل له الذكرى مع استعداده ووجود قلبه، ومثله البصير الطامح ببصره إلى غير المطلوب، ومن أكثر الشواغل التي تذكر حين التلاوة أن يكون هم القارئ إتمام السورة دون أن يكون همه الفهم والاتعاظ والعبرة التي تحويها الآيات، ولهذا قال الحسن البصري: “يا ابن آدم كيف يرق قلبك وإنما همتك في آخر السورة”.
*ابن القيم: (أبو عبدالله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن سعد بن حريز الزرعي الدمشقي، 691 هـ – 751 هـ).
*الحسن البصري: (الحسن بن يسار البصري إمام وقاضي ومحدّث من علماء التابعين ومن أكثر الشخصيات البارزة في عصر صدر الإسلام، 21 هـ – 110 هـ).
بالتالي، هناك أيضاً صنف من الناس من يقصر الخشوع في رمضان أو في القنوت، أو عند خشوع الإمام، أو عند آيات العذاب وذكر النار وأهوال القيامة، ومعلوم أن أسباب الخشوع ودواعيه متعددة، ففعله صلى الله عليه وآله سلم عند التلاوة فيه خشوع وتدبر، فهو ينزه ويسبح عند آيات الأسماء والصفات، ويسأل الله من فضله عند ذكر جنته وإنعامه وفضله ورحمته، ويستعيذ عند ذكر النار والعذاب، كما أن هناك صنف من الناس من يقصر قراءة القرآن على أحوال خاصة كمن لا يسعى إلى سماع القرآن إلا عند مرضه أما في حال صحته وكمال عقله وصفاء ذهنه فإنه لا يتشوق إلى سماع القرآن أو قراءته حيث حرم نفسه السبيل إلى تدبر القرآن، وكذلك حال من لا يعرف القرآن إلا تلاوة عند العزاء أو عند افتتاح البرامج، أو في المناسبات العامة ولا يعرف له وقتاً آخر لسماع القرآن أو قراءته، فأنى له التدبر والتأمل والاعتبار والتأثر وهذه حاله.
من هنا، لن ينتفع بالقرآن الكريم وآياته إلا من أخلص له قلبه ونيته وتدبر الكتاب في عقله وسمعه وعمَّر به قلبه وأعمل به جوارحه وجعله سميره في ليله ونهاره وتمسك به وتدبره، وحينما غفلت الأمة عن هذا التدبر والخشوع ابتليت بالأمراض والأزمات الأخلاقية ولا علاج لها من تلك الأمراض والأزمات إلابالتمسك بكتاب الله تعالى وتدبر آياته والتخلق بها، وها هي فرصة الآن للجميع أن نتدبر القرآن في شهر القرآن، فهي فرصة ذهبية للجميع.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.