الإمام جعفر الصادق عليه السلام من عظماء أهل البيت عليهم السلام وأشرافهم، ذو علوم جمة وعبادة موفورة وأوراده متواصلة وزهادة بينة وتلاوة كثيرة يتتبع معاني القران الكريم ويستخرج من بحره جواهره ويستنتج عجائبه ويقسم أوقاته على أنواع الطاعات بحيث يحاسب عليها نفسه رؤيته تذكر بالآخرة واستماع كلامه يزهد في الدنيا والاقتداء بهداه يورث الجنة نور قسماته شاهد أنه من سلالة النبوة وطهارة أفعاله تصدع بأنه من ذرية الرسالة نقل عنه الحديث واستفاد منه أعيان الأمة وعلمائها.
ومما لا شك فيه أن الله تبارك وتعالى أراد كل الخير لأمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، واختارها من بين جميع الأمم لتكون مهبط القرآن الكريم، والذي هو ليس بمعجزة وقتية تنتهي بوفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل حظي بعناية بالغة جداً، وهناك من سخّر حياته كلها في خدمة هذا الكتاب العظيم، ومنهم الإمام جعفر الصادق عليه السلام، الإمام الذي وعائلته وكل آل البيت عليهم السلام لهم قدرهم ومكانتهم العالية عند جميع المسلمين دون استثناء.
وشهد القاصي والداني والجميع أن الإمام صاحب المقام العلمي الرفيع الذي لا ينازعه أحد. حتى توافدت كلمات الثناء والإكبار والإعجاب عليه من قبل الحكام، وأئمة المذاهب، والمؤرخين وأصحاب السير، من أمثال الطبرسي والنيسابوري، وبدأ الإمام الصادق ثورته الفكرية بين المسلمين بأساليب متعدّدة ومختلفة حسب اختلاف عقليّة السائلين والمجادلين، وانتشرت أحاديثه انتشاراً هائلاً، وكثُر الرواة لها في جميع الطبقات، لا سيما وقد أصبح الحديث والرواية علماً مستقلاً بذاته في ذلك الوقت.
لكن لا بد من التعريج على الفترة التي كان فيها الإمام جعفر الصادق عليه السلام، هذه الفترة الحساسة جداً، على الصعيد السياسي، لكن الإمام نأى بنفسه عن هذه الأمور وترك نفسه للعلم وطلبه ونشره، حتى ولو أن أحد أولاده شارك بالثورات التي حدثت في تلك الحقبة، لكن الإمام اشتهر بالفقه أكثر من انشغاله بالحديث وهذا الكلام يجده كل من يريد التحقق في كل الكتب الإسلامية المحققة والموثوقة، الجدير بالذكر هنا، أن بعض الفرق الإسلامية اعتمدت التدوين في القرن الخامس الهجري، لكن القرن الثاني والثالث للهجرة كان الأمر مختلفاً حيث كان هناك الكثير من علماء الحديث الذين رووا عن الإمام وما كل رواية هي صحيحة، منها مثلاً “لماذا الإمام البخاري لم يروِ عن الإمام؟” وهذه ردوا حولها علماء كثر لكن أستطيع تلخيصها بكلمتين، ان الإمام الصادق عليه السلام كان مشهوراً بالفقه أكثر من الحديث، فضلاً عن أنه كان صاحب مقامٍ عالٍ ويأتيه الناس من كل حدبٍ وصوب للاستفادة منه بسبب مكانته وعلمه وللفتاوى الصحيحة وغير ذلك.
الإمام جعفر الصادق عليه السلام، قمر من أقمار بني هاشم، وإمام من أئمة المسلمين الفطاحل بلا منازع، لكن هنا المنهج العلمي لا بد لنا فصله عن العاطفة، فهناك الكثير ممن يروي عن الأئمة الكبار، دون تحقق، وهذا خطأ شائع وقع به الكثير من الفرق الإسلامية، وهذا ما ننادي إليه دائماً، التحقق من كل رواية من خلال القواعد الصحيحة لعلم النقل والجرح والتعديل والرجال والسند الصحيح، فكلما دعمنا الرواية بضوابط شرعية محققة، كلما كنا نقدر هؤلاء الأئمة ونجلهم، فالحديث الذي يجب أن نأخذه يجب أن يكون مسنداً وثابتاً وأن تكون متصلة السند إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، المشكلة اليوم ليس مع الأئمة بل مع من ينقل عنهم بعاطفة دون تراجم وشروط النقل الصحيحة المعروفة للقاصي والداني.
ولد الإمام الصادق عليه السلام سنة “80 هـ”، وقيل سنة “83 هـ”، وهو أبو عبدالله جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، ووالدته فروة ابنة القاسم بن محمد بن أبي بكر، وكان من ألقابه الفاضل والطاهر وأما الصادق فجاءت لصدق مقاله، كما كان سخياً كثير العطاء، شجاعاً لا يخشى إلا الله تبارك وتعالى، الإمام الصادق عليه السلام نشأ في أسرة هي أعظم أسر العرب، فهي الأسرة التي أنجبت خاتم النبيين، وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ينتمي الإمام الصادق من جهة أبيه إلى بني هاشم، ومن جهة أمه إلى بني تميم بن مرة، والده هو الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام كاَنَ من قراء وفقهاء المدينة المنورة، نشأ جعفَر في مهد العلم، ببيت النبوة الّذي توارث علمها، وأشرق في قلبه نور الحكمة بم درس، وكان قوة فكرية في عصره، فلم يكتف بالدراسات الإسلامية وعلوم القرآن والسنة النبوية والعقيدة بل درس الكون وحلق في أفلاكه وعني بدراسة النفس البشرية، حتى ملأ الدنيا بعلومه وهو القائل: “سلوني قبل أن تفقدوني فإنه لا يحدثكم أحد بعدي بمثل حديثي”، ولم يقل أحد هذا الكلام سوى جده الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
قِبلة العلم
الإمام الصادق عليه السلام، ممن تفتح قلبه للعلم، كان يقظاً بصيراً، حتى أن ما أفيض على قلبه من التقوى، أن الأحكام كانت لا تدرك عللها، والمسائل التي تقصر الأفهام عن الإحاطة بها، مدركة لديه، وقيل إن أربعة آلاف من الرواة قد ارتوا بعلومه، وقد نشروا العلم والثقافة في كل الأمة الإسلامية ونشروا معالم الدين وأحكام الشريعة، منهم أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل، فالإمام الصادق هو الإمام الوحيد من أهل البيت عليهم السلام الذي أتيحت له الإمامة دامت أكثر من ثلث قرن، تمحض فيها مجلسه للعلم، دون أن يمد عينيه إلى السلطة، حيث لم يكن الوضع السياسي في أفضل حالاته حينها، فكانت فترة تجاذبات سياسية شهدتها نهايات الدولة الأموية وصدر الدول العباسية، بمواقف سياسية مختلفة، وبهذا التخصص سلم الأمة مفاتيح العلم النبوي، ومنه يبدأ التأصيل الواضح لمنهج علمي عام للفكر الإسلامي، نقلته الأمم، فمدرسة الإمام الصادق عليه السلام هي المدرسة التي ربطت العلم بالدين.
ولقد كان أول ما عني به الإمام الصادق تفسير القرآن الكريم وعلومه وقراءاته وبلاغته وازداد اهتمام الإمام الصادق بحديث جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، اهتماماً عظيماً بعد أن كثر الكذب والوضع على رسول الله صلى الله عليه وآبه وسلم، وعلى الرغم من كثرة الرواة والتلاميذ عن الإمام جعفر، إلا أن مروياته التي نقلت في كتب أهل الحديث والأثر المعتمدة ليست بالكثرة بسبب الأحوال السياسية التي كانت سائدة في عصره.
والجدير بالذكر هنا، أني اعتمدت ربط هذا الموضوع بمدرسة أهل الحديث والأثر، كمرجع قويم معتمد، هذه المدرسة العلمية الأصيلة، فأي حديث يجب أن يعرض على القرآن، وأن يكون متواتراً، وأن يكون مسنداً ورجاله معروفين غير مجهولين لهم تاريخ ميلاد ووفاة وترجمة ومن ثم نقرأ ما قاله عنه أهل الحديث، هذه هي الشروط المعتبرة، وبالتالي الإمام عالماً فقهياً من علماء المدينة المنورة الكبار، ويجب أن نحترم مكانته باتباع الشروط الصحيحة بعيداً عن الغلاة والجفاة.
تلامذة الإمام
من الصعوبة بمكان على باحث أن يستطيع حصر عدد تلاميذ الإمام، في شتى مناحي العلوم، وكان منهم أبو حنيفة النعمان وكانوا قد نسبه له قولاً هو: “لولا السنتان لهلك النعمان” أي المدة التي قضاها في الدراسة لدى الإمام الصادق عليه السلام، وهنا لا بد من التأكيد أن هذه الرواية غير صحيحة وغير موجودة ونسبت للإمام النعمان، لكن لم تذكرها كتب السير والتراجم أبدأ، ثم مالك بن أنس، كان مالك أول من انتقى الرجال من الفقهاء بالمدينة، وأعرض عمن ليس بثقة فِي الحديث، ولم يكن يروي إلا ما صح، ولا يحدث إلا عن ثقة، وهناك سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري، وابن جريح والقطان وغيرهم.
وأما رواة الحديث، منهم إسماعيل بن جعفر، وحاتم بن اسماعيل وزهير بن محمد التميمي وغيرهم، وقال أبو حنيفة عن الإمام الصادق عليه السلام، “ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد”، وقال أبو حاتم “ثقة لا يسئل عن مثله”.
نقل الآراء الفقهية لجعفر الصادق عليه السلام الأئمةُ أبو حنيفة ومالك والشافعيّ وغيرهم من كبار العلماء، مما يدلّ على أنّ رواياته ومقولاته ساهمت في تشكيل الشخصية العلمية لمؤسسي المذاهب الفقهية الكبرى، شأنه في ذلك شأن غيره من كبار أئمة التابعين، كما ظل الفقهاء عبر العصور ينقلون فتاويه في كتبهم الفقهية، فأبو حنيفة روى كثيراً عن جعفر واستدلّ برواياته في صياغة مسائله، وبالنسبة للإمام مالك بن أنس؛ نقل عنه في كتابيْه الحديثي “الموطأ” والفقهي “المدونة”، آراءه ومروياتِه عن آبائه من أهل البيت عليهم السلام وغيرهم من الصحابة، ففي الكتابيْن المذكوريْن نلقى بكثرة أسانيد من قبيل: “عن مالك عن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي عن أبيه”، أو “عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه.
ونجد كذلك روايات جعفر عند الإمام أحمد بن حنبل، في “المسند”، وفي “السنن” لكل من الترمذي والنسائي.
لكن يبدو أن العوامل السياسية التي سبق وأشرنا إليها لعبت دوراً كبيراً في التضييق على آل البيت عليهم السلام، وأثرت سلباً على مروياتهم، فمثلاً الإمام مالك بن أنس صاحب دار الهجرة أحد تلامذة الإمام جعفر الصادق عليه السلام لم يروِ عنه حتى انتهاء الخلافة الأموية، ولذلك الأمر روى النسائي في سننه: عن ابن عباّس قوله: “قد تركوا السّنة من بغض علي”، وللأسف ما حدث في أيام الخلافة الأموية، تكرر في الخلافة العباسية، فهذا العلامة الثقة نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي، من كبار الأعلام، كما يقول الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء، عندما أمر الخليفة المتوكل العباسي بضربه ألف سوط لأنه روى حديثاً عن آل البيت عليهم السلام.
وفي خاتمة هذه اللمحة المقتضبة في حياة الإمام جعفر الصادق عليه السلام وأثره في الحياة الدينية الفقهية والعلمية في الإسلام؛ فإن خير ما ننهي به هذا المقال هو أن نؤكد على أن هذا المقال غيض من فيض واسع سنسعد بتقسيمه على سلسلة مقالات في المرحلة الأولى، وعند الانتهاء منها، سنطبعها في كتيب يستفيد منه كل طالب علم ومحب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته عليهم السلام، ومروياتهم الصحيحة المسندة بالسند المتصل إلى جدهم المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ونختم بهذه الحكمة البليغة لأن نكون أمة واحدة عربية ومسلمة، قوله عليه السلام يحث فيه على نبذ الجدل والخصومة في الدين، ومما أورده الذهبي منها في “تاريخ الإسلام” قوله: “إياكم والخصومة في الدين؛ فإنها تشغل القلب وتورث النفاق”. وقوله: “لا زاد أفضل من التقوى، ولا شيء أحسن من الصمت، ولا عدوّ أضل من الجهل، ولا داء أدوى من الكذب”.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان