وكلٌّ في فلكٍ يسبحون
عالمٌ مسلم، ورحالةٌ وفيلسوف، وجغرافيّ وفلكيّ وصيدليّ وجيولوجي ومؤرخ، وأحد مترجمي ثقافات الهند، متقنٌ للعربية ولليونانية والسريانية وغيرهم، كل هذه المسميات من الفنون العلمية الواسعة، حملها شخص واحد، أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني من أعظم العقول التي عرفتها الثقافة الإسلامية.
أتى أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني في أَوْج العصر الذهبي للحضارة الإسلامية ليُمَثل أعلى مدٍّ وصلت إليه العقلية العلمية، كانت عقلية البيروني مصبوبة في أُطُر المنهجية العلمية، حيث وصل إلى درجة لا نحسب أن بلغها علم آخر من أعلام تاريخ العلوم عند العرب، كان المنطلق الأساسي للبيروني أن كان من أعظم العقول المُفَكرة وعلى مستوى كل العصور، لقد كان القرن العاشر والحادي عشر، بلا منازع “قرن عصر البيروني”، ومن خلال 164 مؤلفاً له وضع يده على كل مفاتيح العلوم، إذ أن النظريات قد يرسو بها المطاف في متاحف التاريخ، أما المنهج العلمي يمضي السير قُدماً في طريق التقدم والتطور المعرفي، إن البيروني أبرز علماء الحضارة العربية في الرياضيات وفي الفلك الذي عرفه العرب باسم “علم الهيئة” وعدوه فرعاً من الرياضيات. وظل الفلك دائماً وثيق الاتصال بالرياضيات، وهما مجالات يطلق عليها في قديم العلم وحديثه مصطلح “العلوم الدقيقة المنضبطة” وكان هذا من العوامل التي أكسبت عقلية البيروني منهجية مقننة، إنه أكثر أقطاب الحضارة العربية تكرساً للمباحث والعلوم العقلية.
يقول البيروني: (ما إن سأل الحكيم لماذا يتدفق العلماء دائماً إلى أبواب الأثرياء، بينما لا يقترب الأثرياء إلى أبواب العلماء.. فأجاب: العلماء يدركون جيداً استخدام المال، لكن الأثرياء يجهلون نبل العلم).
هذا العالم العالمي إن جاز التعبير، لم يكن كسلفه عالم الرياضيات الخوازرمي، أو غيره، بل يتقاطع مع قُطْب الرياضيات والفلك قطبٌ آخر، هو التاريخ والحضارات والأنثربولوجيا، ثم ما يستتبع تقاطعهما من مباحث تجريبية أنجز فيها البيروني، هي الجغرافيا والجيولوجيا والمعادن وأيضاً الطب والصيدلة، لكنه وضع الفلك والرياضيات أولاً وقبل كل شيء، والتاريخ والحضارة ثانياً، ثم العلوم الطبيعية التجريبية، أما الأبعاد الدينية والفلسفية والأدبية كانت حاضرة عنده، وكان يعتبرها روافد تغذيه وتصقله، وكان عشقه الأول والأخير هو العلم، حتى إنه كان يرفض عطايا السلاطين.
العلم عند البيروني ينصب في رافد الحضارة العربية ويخدم القيم الإسلامية واحتياجات المجتمع الإسلامي، وقيم العلم عنده ودوافعه وبواعثه يمكن أن نجدها في تعاليم القرآن الكريم التي تحث على التأمل في السموات والأرض التي خلقها الله تبارك وتعالى بالحق، وكثيراً ما استشهد البيروني في مقدمات أبحاثه بالآيات الكريمة الدالة على هذا، ولا شك أن البعد الإيماني من العوامل التي زرعت في شخصيته عشقاً للعلم، قال تبارك وتعالى: (وهو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقومٍ يعلمون).
أتقن البيروني علوم اللغة العربية، شأن كل أعلام الحضارة الإسلامية التي تتمركز حول محورها الثابت ألا وهو القرآن المبين. أما لغته الأم؛ أي اللغة الخوارزمية فهي لهجة من لهجات اللغة التركية، لأنه من مواليد خوارزم – أوزبكستان حالياً، وتحديداً في مدينة كاث، ولكن مسقط الرأس ليس هو دائماً دامغ الهوية. فقد عاش البيروني في رحاب الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، وصدق إيمانه بدينها، ودان بالولاء العميق لها، وانتمى لزمرة أعلامها، وساهم في مدّها العلمي، أخذ منه وأعطاه، وكتب بلسانها وآثره على سواه، حيث أجاد البيروني العربية وبرع فيها وهو القائل: (إن الهجو بالعربية أحب إليّ من المدح بالفارسية)، فقد دان البيروني بالولاء العظيم والعميق للعروبة، وعلى هذه الأسس يمكن أن نتفهم نصاً بالغ الأهمية والدلالة، قاله البيروني في مقدمة كتابه “الصيدلة في الطب” واستهله بتأكيد أن كل أمة من الأمم “اليونان والعبرانيين والنصارى والهنود والمغاربة” موصوفة بالتقدم في علم أو عمل، حيث يقول أبو الريحان:
(ديننا والدولة العربية توأمان، يرفرف على أحدهما القوة الإلهية، وعلى الآخر اليد السماوية، وكم احتشد طوائف من التوابع وخاصة منهم الجيل والديلم، في إلباس الدولة جلاليب العجمة، فلم تنفق لهم في المراد سوق، ما دام الأذان يقرع آذانهم كل يوم خمساً، وتُقام الصلوات بالقرآن العربي المبين خلف الأئمة صفّاً صفّاً، وَيخطب به لهم في الجوامع بالإصلاح كانوا كاليدين والفم، وحبل الإسلام غير منفصم وحصنه غير منثلم، وإلى لسان العربية نقلت العلوم من أقطار العالم وسرت محاسن اللغة منها في الشرايين والأوردة، وإن كانت كلّ أمة تستحلي لغتها التي ألفتها واعتادتها واستعملتها في مآربها مع آلافها وأشكالها، وأقيس هذا بنفسي وهي مطبوعة على لغة لو خلد بها علم لاستغرب استغراب البعير على الميزاب، والزرافة في المكراب، ثم منتقلة إلى العربية والفارسية، فأنا في كل واحدة دخيل ولها متكلف، والهجو بالعربية أحب إليَّ من المدح بالفارسية).
إذاً، التسامح والانفتاح على تراث كل الأمم، وراءه إيمان العالِم بوحدة العلم وتكامل الجهود في طريقه، ولم يتعارض هذا مع إيمان معتزّ بالدين الإسلامي، جعله يرفع من شأن العروبة ولغتها الجميلة التي ترجم إليها أسفاراً، ثم تعود موضوعية العلم لتؤكد أن كل اللغات سواسية من الناحية الموضوعية، متفاضلة على أسس ذاتية. فينحو على ذاته ويتذكر لغته الخوارزمية التي هي غريبة ومغتربة عن العلم لكنه اقتحم لغتي الثقافة؛ أي العربية والفارسية وللأسباب الدينية والحضارية المذكورة تعلو الأولى على الثانية إلى أبعد الحدود.
وعلى الرغم من عشق البيروني للغة العربية جاءت كتاباته بعيدة عن الزخرف اللفظي والتنميق بغير داع، ومكسوة مع هذا بمسحة جمالية عذبة، والأهم أنها أنموذج لمنهجية التفكير وتسلسل الأفكار، متحرية الضبط عن طريق استعمال مصطلحات دقيقة أو على الأقل محدّدة. إنها على الإجمال كتابة علمية لأقصى حد يمكن أن يسمح به العصر الوسيط، خصوصاً وأن عالِمنا كان يكتب دائماً واضعاً نصب عينيه أنه عالِم متبحر، لا يكتب للدهماء، ولكن لصفوة العلماء، فيتعمد البعد عن الأمثلة التي توضح بقدر ما تبسط وتسطح، يقول البيروني: (إني أُخْلِي تصانيفي من المثالات، ليجتهد الناظر فيها ما أودعته فيها، من كان له دراية واجتهاد وهو محبٌّ للعلم، ومن كان من الناس على غير هذه الصفة فلست أبالي فهم أم لم يفهم).
دأب البيروني على جمع ما للقدماء والمحدثين من رؤىً ونظريات في القضية المطروحة للبحث، خصوصاً حين يطرح برهانه الهندسي لا بد وأن يسبقه بالبراهين التي طرحت قبله، ولا يخلو الأمر من مقارَنة موضوعية، وكان مولعاً بالجدل ونقد العلماء السابقين عليه والمعاصرين له وتبيان أخطائهم وتصحيحها. فهكذا فعل مع الكندي وثابت بن قرة وإبراهيم بن سنان وأبي الحسن البصري، وبطليموس وأرشيمدس وإرازموس، وغيرهم، كما كان ينقد ويُصحح نظريات أصحابها غير معروفين. وديدنه في هذا ألا يعمد أصلاً لدراسة موضوع إلا بعد أن يحيط بكل ما كتب عنه، ويقيمه وينقده، ورائده عدم التسليم بأية قضية مهما كانت مشهورة إلا بعد امتحانها وإثبات أنها جديرة بالتسليم، ثم لا يتوانى عن تقدير آراء الغير، وتحري الأمانة في إثبات الفضل لذويه، قائلاً أنه تعلم من أساتذته إعمال الرأي والبعد عن التعصب وطلاقة الفكر ليمزج بينها وبين ما أخذه عن الفارابي فتكون يقظة العقل ووثبة الذهن وسلامة المنهج.
البيروني تأثر بالفارابي وبالرازي وابن سينا وبالكندي والمسعودي والفلكي الهندي فاراهميرا وسواهم ممن سبقوه، فمثلاً كتابه “تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة”، ذو مكانة فريدة تجعل البيروني بحق مؤسس علم الأديان المقارن، فرغم أنه عالم مسلم فإنه يبحث في العقائد الوثنية وتاريخها، خصوصاً وأن هذا الكتاب يسبق كتاب الشهرستاني، ثم إنه لا يقتصر على المِلَل والنِّحَل، فهو دراسة منهجية فذَّة بقدر ما هي شاملة، وللبيروني قدرة على التأليف بين تراث الحضارات المختلفة ولأنه ممثل لمسار التقدم العلمي في عصره، فليست قصة العلم إذن خطاً مستقيماً من اليونان إلى غرب أوروبا، بل هي ميراث أممٍ شتى. وكان البيروني عميق الاستيعاب لتراث الإغريق، ولكن ما يؤكد عالمية العلم أن الهند التي كانت فاتحة اتصال العرب بالرياضيات والفَلك منذ القرن الثاني الهجري، كانت أيضاً الرافد الدافق الذي ساهم بقوة في تشكيل عقلية البيروني، فقد مكث فيها سنيناً طويلة، وبذلك عمل البيروني طوال مدة مكوثه على نقل علوم الإسلام والإغريق للهند. وإتقان لغة الهنود السنسكريتية واستيعاب العلوم الهندية ونقل صورة علمية دقيقة عن الهند للمسلمين، في مؤلفات متعددة.
وفي كتابه “تحقيق ما للهند…”، تعمق في وصف الهند من كل النواحي لكنه اشتمل أيضاً على عادات الهنود وأديانهم كمسألة “التناسخ”، وشرائعهم وأساطيرهم، وقال البيروني في هذا الخصوص: (نقلت إلى العرب كتابين؛ أحدهما في المبادئ وصفة الموجودات واسمه “سنك” “وهو كتاب مفقود” والآخر في تخليص النفس من رباط البدن ويُعرف ﺑ “باتانجل”، حققه المستشرق ريتر وهو يحمل خلاصة مذهب اليوغا وفلسفة الهند الصوفية، وفيها أكثر الأصول التي عليها مدار اعتقادهم، به فروع شرائعهم).
وأما في كتابه “الصيدنة” والتي تعني الصيدلة، أما الأولى فتأتي لمركب العطور، بينما الثانية لجامع الأدوية، حيث استقصى البيروني في هذا الكتاب “تراث العرب” بالمفهوم الحضاري الشامل للعلم العربي المستوعب لكل الدوائر الحضارية التي دخلت في الإسلام، وهو مفهوم يصدِّق عليه البيروني قبل غيره، وتراث العرب ذو شأن في تاريخ علم العقاقير، كالرازي في كتابه الحاوي الذي أبدع فيه بالوصفات الطبية وتركيباتها، حيث أن الصيدلة كمؤسسة قائمة ظهرت لأول مرة في بغداد.
أخيراً وليس آخراً، ومع نهاية جزئنا الأول، لا بد أن نتفق على أن العلم عن البيروني يصب في نهر الحضارة الإسلامية من أجل قيمها وأهدافها، نتفهم لماذا تتبدى منهجية البيروني بوجه خاص في حساب المثلثات. فقد اهتم به الإسلاميون؛ لأنه ضروري لحساب مواقيت الصلاة، كما أنه أساس علم الفلك الذي هو اهتمام البيروني الرئيسي، فقد عُني بالأرصاد الفلكية على اختلاف أنواعها، والتي تعتمد على معرفة الجهات الأصلية الأربع، من أجل تحديد أوقات وتعيين اتجاهاتِ أماكن العبادة، ووضع جداول للتقاويم وحساب أوائل السنين والشهور، سألخص بعضاً من الكلام بجملة، من لديه هكذا علماء يجزم أن الحضارة الإسلامية وجوارها، هي المدرسة الأولى التي نقلت كل التعاليم للغرب، والتاريخ يشهد، وللحديث بقية.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان
المصادر والمراجع: كتاب “بحوث في تاريخ العلوم عند العرب” – يمنى طريف الخولي.