نشأ الخطيب البغدادي في القرن الخامس للهجرة، في مدينة السلام (بغداد) وارتحل منها إلى دمشق، في عصر اتسم بالحروب والتنافس بين المدارس الفقهية، إلا من الناحية العلمية التي لم تتأثر بالجو السياسي آنذاك، فلم يوقف شيء سير العلم والعلماء أو الحد من نشاطهم.
كان عصر البغدادي عصر علمٍ وكان العلماء يشقون طريقهم غير آبهين بما حولهم، من مبدأ ان العلوم الإسلامية يجب ان تثبت وتنقح وتهذّب، وتصنّف للأجيال القادمة من المسلمين، وأقرب مثال على ذلك أن الخطيب البغدادي ارتحل من بغداد إلى البصرة وإلى خراسان متزوداً بزادٍ علمي غزير، وعن أساتذة كبار كانوا في عصره مثل المحدث الكبير أبو نعيم الأصبهاني، وأبو بكر البرقاني، ومن شيوخه الفقهاء أمثال، أبو إسحق الشيرازي، وأبو الطيب الطبري والمحاملي وابو الصباغ وغيرهم، في عصر البغدادي كان الاهتمام كبيراً بالمصنفات في شتى العلوم الإسلامية، استمت بالدقة والتهذيب والتبويب أعطت العلوم صيغتها النهائية وقعّدت قواعدها، مثل السنن الكبرى والمستدرك على الصحيحين للحاكم والحلية وغيرهم من كتب الحديث والفقه والتفسير التي أصبحت عمدة المتأخرين وأصبحوا لما لهذه المصنفات من معلومات معتمدين.
إن اختياري لشخصية البغدادي ليست من فراغ أو من باب الترف كما كل الشخصيات السابقة، لكن لكل من ترك أثراً في العلوم الإسلامية لا بد من الإضاءة على المنهج الذي سلكه رغم أن شخصية مثل الخطيب البغدادي لا تحتاج لأنها ضوء ونور وقبس من الإسلام بحد ذاتها، وحياته مثالاً للعمل الدؤوب وحب العلم، الخطيب البغدادي رجل علم عاش للعلم، ورحل للعلم، وكانت حياته زاخرة بالحيوية والنشاط العلمي.
ولد البغدادي بالقرب من بغداد في العام (392 هـ)، تعلم القرآن والفقه والحديث وهو لم يبلغ الثانية عشر، لكن في عمر العشرين عقد العزم فرحل إلى البصرة لسماع الحديث ومن ثم الكوفة فبغداد، ثم في عامه الثالث والعشرين رحل إلى نيسابور وأصبهان وهمذان والجبال والدينور وعاد إلى بغداد بعد أن مكث في دمشق وصور، محدثاً وراوياً كبيراً، البغدادي هو أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي ويكنى بأبي بكر واشتهر بالخطيب البغدادي، وفي كتابه “تاريخ بغداد” ذكر أنه من العرب نواحي الفرات.
لم تتوقف رحلة البغدادي عند حد فلم يكن يسمع بمحدث إلا وذهب إليه لغاية في نفسه وهي جمع الحديث من أفواههم، وبعد أن التقى جميع محدثي بغداد وأخذ الحديث عنهم، ليخرج خارجها ويأخذ عن محدثي الأقطار الأخرى، ولكن لا بد من الإشارة هنا للإنصاف أن بغداد في ذلك الوقت كانت عاصمة الخلافة وموطن العلماء، وكان يستمع إلى العلماء القادمين والمغادرين في موسم الحج وكان يسمع الأحاديث بسندٍ أعلى أو برجالٍ أوثق، وهذا إن دل على شيء يدل على أن علم الحديث شغفه حباً، ومن بغداد عكف البغدادي على جمع مادة تاريخ بغداد الكبير مدة طويلة تزيد عن العشرين عاماً، وكونه أراد أن يدفن قرب المحدث الكبير بشر الحافي ذاك الرجل الزاهد الصالح كما ورد في كتاب (العقد اللامع بآثار بغداد والمسجد والجوامع للمؤلف عبد الحميد عبادة)، وفي رثائه قالوا:
فاق الخطيب الورى صدقاً ومعرفة *** وأعجز الناس في تصنيفه الكتبا
حمى الشريعة من غاوٍ يدنسها *** بوضعه، ونفى التدليس والكذبا
جلا محاسن بغداد فأودعها *** تاريخه مخلصاً لله محتسبا
وبعد كل رحلاته، عاد الخطيب البغدادي إلى بغداد حاملاً معه رواياته ومتزوداً بمسموعاته، من خلال الرحلات التي قام بها لجمع الحديث وتصنيف التاريخ، ليبدأ بعد ذلك مرحلة جمع المتفرق وترتيب المتناثر وتهذيب المتكرر والتوفيق بين المختلف من الحديث للإعداد لمرحلة الإنشاء والإخراج، بعد أن نضحت في فكره واستقرت في ذاكرته، لأنها ثمار جهود كل حياته، لتكون إرثاً لكل من سيأتي بعده، وفي دمشق اتخذ المئذنة الشرقية من المسجد الأموي سكناً له وبدأ التدريس فيه بعامة كتبه ومصنفاته والكتب التي رواها عن شيوخه، لقد أخذ البغدادي من كل علمٍ بنصيب جيد، بدءاً من القرآن الكريم والفقه وأصوله حتى صار فقيهاً من كبار الفقهاء، ودرس اللغة والأدب والتاريخ، وكان على جانب كبير من الأخلاق الكريمة والمناقب النبيلة، مخلصاً في علمه وتصنيفه، متواضع وعفيف النفس، كريم وحريص على تطبيق العلم، يقول في كتاب “الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع”: (والواجب ان يكون طلبة الحديث أكمل الناس أدباً، وأشد الخلق تواضعاً، وأعظمهم نزاهةً وتديناً، وأقلهم طيشاً وغضباً، لدوام قرع أسماعهم بالأخبار المشتملة على محاسن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وآدابه، وسيرة السلف الأخيار من أهل بيته وأصحابه، وطرائق المحدثين ومآثر الماضين، فيأخذوا بأجملها وأحسنها، ويصدفوا عن أرذلها وأدونها).
الخطيب البغدادي خصص حياته للعلم وسافر إلى مدن كثيرة للاجتماع بالشيوخ وأخذ الحديث عنهم حيث سمع من أعيان المحدثين كما أشرنا ببغداد أولاً، ثم من مشاهير محدثي البصرة ثانياً ومن نيسابور وأصبهان واجتمع بكبار الحفاظ وأخذ الحديث عنهم، وبالدينور وهمذان والكوفة والري والحرمين ودمشق وصور والقدس وغيرها، ولأنه عالم كبير وإمام حافظ اعتنى بالتصنيف وأملاها إملاءً في كل المدن التي زارها، وهذا أمر طبيعي لإمام متقنٍ لعمله ورواياته ومصنفاته، ووصفه ابن الأثير بأنه (إمام الدنيا في زمانه)، لقد كان الإمام أحد الأئمة المكثرين في الحديث والمجيدين له والبارعين فيه، فكان يكتب عن آثار الأئمة كالإمام مالك والإمام أحمد وسفيان الثورة وكان منهجه أن الدين بالآثار والنصوص لا بالرأي المجرد عن اعتماد النصوص، وقال في هذا الشأن: (فلو أن صاحب الرأي المذموم، شغل نفسه بما ينفعه من العلوم، وطلب سنن رسول رب العالمين، واقتفى آثار الفقهاء المحدثين، لوجد في ذلك ما يغنيه عمن سواه، واكتفى بالأثر عن رأيه الذي رآه، لأن الحديث يشتمل على معرفة أصول التوحيد، وبيان ما جاء في الوعد والوعيد، وصفات رب العالمين تعالى عن مقالات الملحدين، والأخبار عن الجنة والنار، وما أعده الله فيها للمتقين والفجار، .. إلخ).
لقد وفق الخطيب البغدادي بين الفقه والحديث وبين أصحاب الحديث والفقهاء لأنه لا بد لصاحب الحديث من الاستفادة من الفقهاء وسلوك طريقهم في فهم النصوص، كما أنه لا بد للفقيه من الاستفادة من المحدثين الذين يمدونهم بالنصوص، التي هي مجال فقههم واستنباطهم، ووضع البغدادي بعض كتبه لهذه الغاية مثل، (شرف أصحاب الحديث وكتاب نصيحة أهل الحديث)، ومن روائعه أيضاً (تاريخ بغداد) التي وصفها منذ أن بنيت حتى وفاته، ويجد فيه كل طالب علم ترجمة كل محدث عاش في بغداد إذ يعتبر هذا الكتاب ثروة لعلماء الحديث في القرون الثلاثة الأولى إلى منتصف القرن الخامس الهجري، فالكتاب صنف لتراجم أهل الحديث وبيان حالهم وأقوال الأئمة الحفاظ فيهم من مدح وقدح وتعديل وجرح، يلي ذلك ذكر العلماء العلوم الإسلامية الأخرى وبقية أصناف المترجمين فيه، فكان مرجعاً لأهل الحديث توثيقاً وتجريحاً فكان كتاباً شاملاً لتراجم جميع العلوم والفنون.
عاش البغدادي في القرن الخامس الهجري، أي أنه يؤرخ لما يقرب من ثلاثة قرون من تاريخ بغداد منذ أنشأها المنصور وحتى زمنه، يؤرخ لبغداد الرشيد والأمين والمأمون، بغداد الأدباء والمتكلمين والمحدثين والأعلام، بغداد المناظرات الفكرية والجدل، بغداد المدينة بشوارعها وأسواقها وحماماتها ومساجدها، بغداد منارة الثقافة العربية الإسلامية، أو هي باختصار سكة العالم، يؤرخ لكل ذلك من خلال البشر، وإن كان يبدو المنهج قديماً ومرهقاً لمن يقرأ التاريخ الآن، إلا أنه يخفي في العمق رؤية تحترم العلم والعلماء، فمن دونهم لا قيمة للمكان، وهي رؤية تنطلق من فهم للإنسان بوصفه خليفة الله في الأرض، الحافظ للمكان، المنوط به إعماره من خلال العمل المؤسس على علم ينفع كل الناس.
لقد عاش البغدادي حياته كلها مشغولاً بالعلم، دفعه شوقه إلى متابعه شغفه في تحصيل العلوم حتى أنه قرأ صحيح البخاري في خمسة أيام، لم يروِ أحد من بعده إلا واستشهد بأقواله، فمصنفاته تعتبر من النوع الراقي جداً، لقد خاض رحلة علم من ألفها إلى يائها، وثق وتعب وحقق وصنف ووضع الضوابط والشروحات المستفيضة، عندما يٌقال الإمام والحافظ الكبير فلتعلموا أننا في حضرة “أبي بكر البغدادي” رحمه الله تعالى.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان