«في الواقع عندما تكون ضد الأرسطية فإنك تجعل منها نقطة بداية لهذا الرفض وبالتالي تظل تحتفظ بالأرسطية كمرجع».
فرانسوا دوبون
يُنسب فضل عنوان هذه المقالة إلى الناقدة النسوية سو إلن كيس Sue-Ellen Case الذي استخدمتَه في كتابها النسوية والمسرح Feminism and Theatre ترجمة حجاج أبو جبر، الصادرة طبعته الأولى 2006م عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة، ويحتوي الكتاب على العديد من الدراسات القيّمة المتصلة بعنوانه.
وسيتعارض الفصل الأول من كتاب سو إلن كيس والمعنون: «التاريخ التقليدي للمسرح قراءة تفكيكية من منظور نسوي» مع كتاب (أرسطو أو مصاص دماء المسرح الغربي) لمؤلفته الأستاذة الأخصائية في اللاتينيات فلورانس دوبون ترجمة وتقديم الدكتور محمّد سيف، ومراجعة الدكتور سعيد كريمي، وصدرت طبعته الأولى عن منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة بالمغرب سنة 2019م
إن الكتابين شيقان للغاية، ويثيران من الجدل الكثير حول أرسطو Aristoteles وعلاقته الفعلية بالمسرح، كذلك يهتم الكتابان بفحص تاريخ المسرح الإغريقي الذي اهتّم منظروه في العالم بإثباته وتثبيته. ذُكر في كتاب النسوية والمسرح أن «كتاب فن الشعر، هذا النص ما زال يُدرَّس في مقررات المسرح كأحد المصادر الحاسمة عن طبيعة التراجيديا الكلاسيكية، ويأتي هذا الكتاب ليؤكد طبيعة الكتابة والممارسة المسرحية عند الإغريق-ص47»، فإنّ كتاب (أرسطو أو مصاص دماء المسرح الغربي) يطرح عكس ذلك وينسفه قائلا: «وما ترجمتنا لكتاب أرسطو… إلا خطوة نحو أصل المسرح، الذي كان آنذاك، مثلما يريد أن يقوله الكتاب، أداءً وليس نصًّا أدبيا كما صوره لنا أرسطو[…] لأنّ منظرِّي المسرح هم الذين ارتكبوا، منذ القرن التاسع عشر، ذنبًا عندما بنوا عقيدة كونية وأدبية لمسرح الأصول وأصول المسرح، من خلال فنّ الشعر لأرسطو، الذي نفخوه وعززوه بالمعجزة اليونانية-ص12/24». والناظر إلى أولئك المنظّرين الأوائل الذين نظّروا لكتاب فنّ الشّعر، واستخرجوا معاييره وقواعده وقيمه، هم للتذكير طائفة من الشعراء والفلاسفة والأدباء الكبار أمثال: فريدريش شِلر Schiller، ويوهان غوته Goethe، وفلهلم اشليجل Schlegel، وفكتور هوغوHugo، وكورنيِّ Corneille، الذين أسهموا بعدد وفير من التفاسير والتحليل لشرح بعض كلام أرسطو المُبَهم، بهدف ترسيخ قواعد صناعة المسرحية وكتابتها.
وعطفا على ما تقدم فقد بات من الشائع للمسرحيين التقليديين أو الحداثيين إذا ما رغبوا في قراءة المسرح الملحمي لدى بروتولد بريخت Brecht الدخول إليه عبر نقد فنّ الشّعر لأرسطو، وكذلك العكس، فإذا ما بحث الباحث عن مفاصل التجديد والانقلاب على مجمل التأسيس الإغريقي للظاهرة المسرحية للمأساة؛ فلسفة وتنظيرًا واشتغالا، فإنّ الوقوف مع كتاب الأرغانون الصغير لبريخت هو الأمر الشائع في أدبيات النقد والخطاب المسرحيين. فالاثنان أشبه بالوجهين لعملة واحدة. وعلى هذا الشيوع جرى تأطير كلٍّ منهما في بعض العبارات المترّحلة التعليمية؛ مثلا فنّ الشّعر ترجمة عبدالرحمن بدوي -وسألزم نفسي بهذه الترجمة وجميع الشواهد التمثيلية في المقالة تستند إليها- يُستشهد بتعريف أرسطو للمأساة: «… فالمأساة إذًا هي محاكاة فعل نبيل تام، لها طول معلوم، بلغة مزوَّدة بألوان من التزيين تختف وفقًا لاختلاف الأجزاء، وهذه المحاكاة، تتم بواسطة أشخاص يفعلون، لا بواسطة الحكاية، وتثير الرحمة والخوف فتؤدي إلى التطهير من هذه الانفعالات. -ص18»، أما المعجم المسرحي لحنان قصّاب يرشدنا إلى معنى التجريب عبر هذه التعريف المنفتح: «إنّ كّل مسرح غير أرسططالي هو مسرح تجريبي». وعلى هذا النحو يتم استدعاء هاتين الشخصيتين وتعريفاتهما، تارة للاشتباك معهما، وتارة أخرى لتجاوزهما.
لا أحد في تصوري، يُنكر أهمية كتاب أرسطو فنّ الشّعر ومكانته في النقد الأدبي، ويعرف العاملون بالمسرح أن أرسطو قد دخل إلى المسرح من باب الفلسفة لا العكس، لذلك يحتل كتاب فلورانس دوبون أهمية كبيرة جدًا لمن أراد نقض وتفكيك الهيمنة الثقافية لكتاب فنّ الشّعر ونقد منظومة أرسطو المسرحية حول المأساة على وجه الخصوص. وبعيدا عن فنّ الشّعر وأرسطو أو مصاص دماء المسرح الغربي، سأهتم بالوقوف عند زاوية أخرى تتصل بعنوان المقالة: إهانات أرسطو للمرأة. باختصار؛ قيمة المرأة أدنى من قيمة الرجل! وهذا واضح في الفصل الخاص ببيان تمثيل الأخلاق في المأساة، وتتنزّل الأخلاق في أربع مسائل يذكرها أرسطو بتفصيل دقيق في فنّ الشّعر حيث يقول: «… وكرم الأخلاق يوجد في طبقة من طبقات الأشخاص: فالمرأة يمكن أن تكون خيرة، وكذلك العَبد، وإن كانت المرأة لعلّها أن تكون مخلوقا أدنى مرتبة [من الرجل] والعبد مخلوق خسيس- والمسألة الثانية هي التوافق: فيمكن للشخص أن يتسم بسمة الرجولة، ولكن لا يتفق مع طبيعة المرأة أن تكون كذلك. -ص42»
إهانات أرسطو بدأت في أثينا ولم تنته. هي امتداد للعديد من الإهانات في عصر الكتابة والتدوين والمرويات والأمثال والسوشيال ميديا وخطابات التراث الديني المتأزم والدراما والتسليع وسوق الإعلان ودراسات تفكيك الجندر Gender. في ظل هذا السياق، تجدر العودة إلى مؤلفيِّ الدكتور إمام عبدالفتاح إمام، الكتاب الأول: أفلاطون والمرأة، والكتاب الثاني: أرسطو والمرأة. حيث يقف في الكتاب الثاني وراء الخلفيتين الفلسفية والمعرفية والدعائم المستمدة من الميتافيزيقيا لتأسيس إهانات أرسطو للمرأة وكراهيته لها. واللافت للنظر ما ذكره عبدالفتاح إمام من قوله: «… ولكن خطورة أرسطو تكمن في أنه فلسف هذه الكراهية، وقدَّم لها المبررات العقلية، والسياسية، والأخلاقية، والبيولوجية، وعندها ترسبت هذه الكراهية في أعماق اللاوعي مدعومة بالبراهين والأدلة والأسانيد التي أضفى عليها البعض ثوبا دينيا-ص11».
إن الاشتباك مع فنّ الشّعر لأرسطو، لا يقتصر على فكرة تأصيل أصل المسرح في الأداء بعيدا عن النص وحده، بل يتجاوزه إلى الخطابات الثقافية الظاهرة والخطابات غير المعلنة. ففي عصر يضّج اليوم بفجاجة أفكار ما بعد التنوير، وما بعد الحداثة، وما بعد الكولونيالية، وتهشيم السرديات الكبرى لتأسيس سرديات بديلة قوامها العلم والتقنية والفوبيا من تطور أشكال الهيمنة على البشر، فكل هذا يدفع المتأمل في مجتمعاتنا نحو التفكير في هذا التحوّل السريع إلى قراءة ما استقر في سرديات الليالي والأهازيج وصور المرأة المنحطّة أخلاقيا التي يربطها المؤرخون والمفسرون بالحيوان والعَبد والرّق والفعل المُشين. إذ يظهر معنا أن الأصل الفكري الفلسفي لأرسطو هو المرجعية التأسيسية لأغلب ذلك التراث. والعائد إلى كتب التراث الإسلامي سيدهش من الإهانات التي لحقت بالمرأة في الخطابات الثقافية المختلفة والكيفية السلطوية التي ساهمت في كيفية تلقيها وتوجيهها.