شهر رمضان من كل عام اتخذه استراحة روحانية، فأقلل من نشاطي في كتابة المقالات، وأجده فرصة لأستمتع فيه بصحبة القرآن الكريم، لكن استفزتني مجموعة من مقاطع الفيديو، أرسلها لي صديق عزيز، وكأنَّه يقول لي تصدَّى لهذا التضليل المُتعمد، فرأيتها فعلاً تُقدم خدمات غريبة لفيروس كورونا، ويقوم به أناس يزعمون أنَّهم يريدون إنقاذ البشرية من الإجراءات المتخذة ضد كورونا، فيؤكدون أن كورونا مجرد مؤامرة “ماسونية” دولية، وذلك لضمان سيطرة الحكومات على الشعوب، وقمع حريتها بالقرارات الاحترازية القاسية، ومنعها من العبادة، والصلاة جماعة في المساجد، والمنع كذلك من مناسك الحج والعمرة..
ولولا أنَّ هناك وفيات ومنومين في المستشفيات، ومن هُم في العناية المركزة، وأن الطب يُؤكد وجود الفيروس علمياً، والعقل يؤكد وجوده حسياً، لجنح بي الشك إلى تصديق هذا القائل بفكرة المؤامرة، لما أجهد فيه نفسه من وسائل التضليل، لذلك عزمت على ترك الدعة والراحة، ومُقارعة هذه الشائعات الآثمة، لعل أحد يقف موقفي ونتصدى لهذه الدعاية المغرضة الهدامة.
وأنا لست في محل الدفاع عن فرضية المؤامرة في مجملها، وهناك نقاط ستظل محل تساؤل كبير، فعلى سبيل المثال في الأشهر الأخيرة من عام 2020م، تم تداول منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، فحواها أن شهر مارس من عام 2021م سيكون ذروة انتشار فيروس كورونا، وذلك في موجة جديدة تحل بالسلطنة، فسخرنا من هذه الأخبار، واعتبرناها شائعات مضللة، وتستهدف التنفير من الاستثمار في السلطنة، ولكن ذلك الذي قيل تحقق، وما زلنا نعيش ذروته، فعلى ماذا أعتمد ناشرو تلك المعلومات التي تحققت فعلاً؟! ونحن كنَّا نعتبرها مجرد شائعات بلا هدى!!
وكذلك لست مدافعاً عمّا نشر من معلومات في عام 2003م عن هذا الوباء بالذات، وقد قيل إنَّ عائلتي روتشيلد وروكفلر- واُضيف إليهما لا حقاً بل جيتس- وكل زعامات الماسونية العالمية، لكن لن أشكك أبداً أنَّ هناك يقيناً قاطعاً يثبت أن عائلتي روتشيلد وروكفلر وبل جيتس وسادة الماسونية جميعاً، لا يساوون عند الله جزءا من جزء من جناح بعوضة هم وأموالهم المهولة، وأنه ليس بوسعهم تغيير المقادير الربانية على الإطلاق، وأن الشيطان الرجيم رفض السجود لآدم، فطلب- بعد العصيان- من ربه أن يُنظره (أي يُمهله) وهو عالم بنيته، فقال له عزّ وجلّ:{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} [الحجر:37] وقال تعالى:{قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَٰنُ مَدًّا حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا} [مريم: 75] إذن؛ ربُّ العزة والجلال لن يمنع مخلوقاً عن عمل الشر بعدما منحه العقل والبصيرة، ولكنه لن يعطيه فضلاً يتصرف في ملكوت الله، وقال تعالى عن مثل هؤلاء إن بيدهم الضرر وحسب ولكن لا يملكون حياة أو موتاً، وكل ذلك هم بين كفتي ميزان، يخف في جانبهم ويثقل في جانب المجني عليه.
إذن؛ الإنسان الذي يُجهد نفسه في مقاطع فيديو، يشرح فيها للناس عن فرضية المؤامرة، ويريد أن ينسف بكلامه كل الحقائق عن كورونا، فإنه يُعد إنساناً مضللاً وآثماً، وقد يكون قاتلاً بعلاقته السببية كما قال ذلك الدكتور محمد نوح القضاة الداعية الأردني، وكذلك قال الدكتور سيف بن سالم الهادي في سلسلة تغريدات في تويتر، فإنَّ الإنسان الذي ينصح آخر بعدم التطعيم، فإن تضرر المنصوح وأصيب بأذى، فإنَّ الناصح آثم، وإن توفي فإنه متسبب في قتل نفس، وحقيقة أجد نفسي مع رأي هذين العالمين، وحتى يبرأ الإنسان لنفسه من حمل ثقيل، عليه أن يبتعد عن نصح الآخرين بغير علم، وليس هذا فحسب، فهو نفسه إن لم يأخذ بالأسباب، فإنه أشبه بالمنتحر، والله عز وجل حرم قتل النفس بغير حق، والنفس ليست ملك حاملها فيتصرف فيها بما يشاء، وإنما ملك خالقها وقد أودعت أمانة لدى الإنسان، فلا ينبغي عليه أن يؤذيها، إلا إذا كان هناك شيئا خارج عن الإرادة الشخصية.
فهلاّ حذرنا من شرور أنفسنا، وقدمنا المصلحة العامة على المصلحة الشخصية، والتي ضررها أكبر من نفعها، فهذا الإنسان الذي يُجهد نفسه في مَنْتَجة مقاطع فيديو، يريد أن يوجه الناس بها إلى الانتحار، أكان ذلك بعلم منه أو بغير علم، فنقول له ما أقواك على غضب الله، وكذلك الذي يشارك في تداول هذه المقاطع، ويتسبب في إنتشارها، يُعد شريكاً في الجريمة بالتدخل الفرعي، فلماذا لا يُتْرِك الإنسان ما يريبه إلى ما لا يريبه، وينجو بنفسه من عذاب أليم، والمصيبة أن الجهل يدفع ببعض الناس إلى المعاصي بنية فعل الخير، فقال الله تعالى في مثل هؤلاء:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103- 104].
إذن؛ لو تفكَّر الإنسان في الأمر قبل أن يقدم عليه بلا وعي، لوجد إن بعض الأمور فيها ريبة، لذلك لأستعاض باليقين من الشك، وترك الناس يتحملون مسؤوليتهم بنفسهم، حتى لا يشعر بالندم إذا ما حدث لهم مكروه- لا قدر الله- فهل كففنا عن السبق “الواتسابي” ونجونا من شرور أنفسنا!!
حفظ الله عُمان وشعبها الأبيّ وسلطانها الأمين من الأمراض والأوبئة وسائر الأسقام وكافة المسلمين.
حمد بن سالم العلوي