كل المذاهب الإسلامية والمدارس الإسلامية يرجعون إلى أصول الفقه، حتى وإن لم يتم ذكر ذلك علناً، ولا بد للتأكيد مرة جديدة على أن لهذا العلم قواعد وأسس وضع دعائمها علماء جهابذة أصبحت مصدراً ترجع إليه كل المدارس، وما ذكري لكل ما أذكر إلا لغاية سامية ونبيلة، تبين عظمة علمائنا وديننا الإسلامي لأننا نريد إحياء هذه الحضارة وصناعة أمة ليس عبر تقديس العلماء بقدر ما هي رسالة امتنان لعطاءاتهم اللامحدودة ولينظر الجميع خاصة أولئك الذين يتطفلون على موائد أهل العلم وكبار العلماء، المغترين منهم بالغرب، الذي أخذ أغلب علومه عن العلماء الأمة العربية والإسلامية، يكفينا فخراً أن نبقي على هذا الوصل وعلى هذا العلم الذي أخرج لنا الآلاف من المجلدات التي هي مصادرنا شاء من شاء وأبى من أبى، كل عالم منهم أمة مستقلة بحد ذاتها.
وبالتالي، كل ما يعنيني اليوم هو عظماء أمتي وإبرازهم بما يليق بهم، لإيماني بوحدة الشعوب وأبناء الأمة الإسلامية، وبعيداً عن السياسة وأهلها، والغاية تفكيك شيفرات أسرار رموزنا الإسلامية وتلمس مواطن القوة فيهم، الإمام الشافعي والإمام الغزالي والإمام الطبري وغيرهم الكثير من علماء أمتي الذين أفتخر بهم وأجلّهم.
وهنا لا بد من ذكر نقاط غاية في الأهمية قبل الولوج إلى الموضوع الرئيسي والذي هو استكمال موضوع إمام المفسرين، الإمام الطبري، من هذه النقاط التفسير القرآني بين المنطق والعقلانية وهذا كان أسلوب الكثيرين، والبعض نحا باتجاهاتٍ أخرى، وكان بعيداً عن الحقيقة العلمية والشرعية في هذه المسألة، وبالتالي برز دور الباحثين والمشتغلين بعلوم القرآن والدراسات القرآنية أن يقوموا بيان وجه الحق في هذه المسألة وفقاً لاجتهاداتهم البشرية مقرونة بالأدلة العلمية والشرعية فيما يقررون ويذهبون إليه في هذه المسألة، فالمفسر الذي ينهج هذا المنهج في تفسيره يكون هدفه ربط دلالات بعض الآيات القرآنية على ضوء ما وصل وانتهى إليه العلم من الحقائق العلمية اليقينية، لا الفروض والنظريات، بغرض إبراز عظمة الخالق في هذا الكون وبيان إعجاز القرآن الكريم على أنه من لدن حكيم خبير، هذه الحقائق هي التي نعتمدها في هذه العلوم، وإلا لما اختلفنا عن كتّاب الإسرائيليات، أو غلاة العلمانية والإلحاد.
وبالعودة إلى استكمال موضوعنا الشيق عن الإمام الطبري، الذي كانت له منزلة عظيمة عند أهل الإسلام في وقته وبعده، وإلى زمننا هذا، وكما أسلفت لقد وضع قواعد وأسس التفسير التي نعتمدها، ونحن بعد ألف ومائة سنة من وفاته، وهذا أمر من الله تبارك وتعالى من القَبول الذي يوضع للعبد في الأرض، ودوام ذِكره والترحم عليه؛ كان حافظاً مجوداً للقرآن، قارئاً له بالروايات، محسناً لها؛ حيث أحاط بها، واختار لنفسه منها قراءة، وألف فيها كتاباً حافلاً في ثمانية عشر مجلداً، جمع فيها المشهور والشاذ، وعِلل وتوجيه القراءات وأسانيدها، وقال عنه الخطيب البغدادي: (أنه جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره؛ فكان حافظاً للقرآن، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن).
وفي التفسير تبوأ شيخ المفسرين أعلى مكانة، وأصبح تفسيره أوفر كتب التفسير وأشملها، في تفسيره، تجد أقوال الصحابة والتابعين موثَّقةً بالإسناد، وتجد تفسيرَ الآية بنظيراتها من آيات القرآن، وبحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسند منه سنداً، كما تجد فيه حكايات الإجماع عن العلماء من أهل عصره ومن سبقوه في الأحكام الفقهية وغيرها، وتفسيره للآيات اعتماداً على لغة العرب من خلال شعرها ونثرها، مع العناية بالنواحي النحوية وخلاف النحاة في الإعراب، خصوصاً أهل الكوفة والبصرة، وهو في المباحث الكلامية والأدلة العقلية صاحب الحجة الباهرة، فهو إذا وجد مناسبة لهذا البحث، تطرق إليه، ورد على مُنتَحِلي الكلام من بضاعتهم، كغلاة اليوم الذين ينكرون واقعهم ببضعة كتب غربية استبدلوا فيها عطاءً إسلامياً غير محدود.
جامع البيان عن تأويل القرآن
يسود هذا الكتاب إجماع في المشرق والمغرب، بحسب المستشرق المجري، إجناتس جولدتسيهر، وأما المستشرق نولدكه فقد كتب في العام 1860: (ولو حصلنا على هذا الكتاب لاستطعنا أن نستغني عن كل كتب التفسير المتأخرة لقد كان مثل كتب التاريخ الكبير)، وأما الخطيب البغدادي يقول عن هذا الكتاب: (وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك، وكتاب في تفسير القرآن لم يصنف أحد مثله)، أما الذهبي فقال: (وهذا تفسير الإمام مشحون في آيات الصفات على الإثبات لها، لا على النفي والتأويل، وإنها لا تشبه صفات المخلوقين أبداً)، وللعلم أن العلامة محمود شاكر وأحمد شاكر قد حققا بعضاً منه ويقع التحقيق في 16 مجلداً، والإمام الطبري على الرغم من اعتماده على التفسير بالمأثور أساساً، جمع إلى جانب الرواية جانب الدراية، واهتم بالقراءات القرآنية أيّ اهتمام، وكان له اعتناء بعرض وجوه اللغة، فضلاً عن آرائه الفقهية واجتهاداته التي أودعها كتابه المذكور، حيث اعتمد أساساً على التفسير بالمأثور الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو صحابته، أو التابعين؛ وهو لا يكتفي بذلك، بل نجده يشدد النكير على من يفسر القرآن بمجرد الرأي فحسب. ولا يُفهم من هذا النهج أن الطبري لم يكن يُعمل الرأي في تفسيره، بل الواقع خلاف ذلك، إذ إننا كثيراً ما نجده يُرجّح أو يصوب أو يوجّه قولاً لدليل معتبر لديه.
من هنا، إن التفسير كما أشرنا هو القواعد والأسس التي يقوم عليها هذا العلم، وهو العلم الذي يتوصل به إلى الفهم الصحيح للقرآن الكريم، وبالتدقيق في مقدمات كتب التفسير عند الإمام، نجد أن القضايا والمسائل والمباحث، التي تناولها الإمام الطبري يمكن اعتبارها مقدمة تأسيسية تأصيلية من حيث العموم والإطلاق، والشمول والاستيعاب، ومن حيث التخصص والتدقيق؛ يتكشف أن مقدمته تناولت علوماً وفنوناً، وبيّن طرقه وموارده ومنهج تناول تفسير النص القرآني، كما صدق الأمر على قضايا القراءة والتلاوة والنزول على سبعة أحرف وما يتعلق بذلك من تدقيقات نفيسة، وتحريرات رصينة، إضافة إلى طرقه لعلوم تعتبر من الأدوات الضرورية والعناصر اللازمة للتفسير، من حيث تحليل الخطاب وإيضاح مكنونات الألفاظ وفهم المعاني، ففي غيابها يحصل الخلط والاضطراب، أيضاً، إن تطرق الإمام الطبري إلى لعلوم تعتبر من موضوعات وقضايا التفسير، على اعتبار أن النص القرآني تناولها أصالة في تعاليمه وأحكامه الفقهية والشرعية بالأدلة والحجج.
وبالتالي إن القواعد التفسيرية لشيخ المفسرين، تتسم بالتعدد والتنوع، لاسيما المتعلقة بجوانب البيان والتفسير للخطاب، وإدراك خصائص التعبير القرآني وبلاغة نصه المعجز لفظاً ومعناً، وفقه مقاصده وتشريعاته، وتلمس معالمه التربوية والإصلاحية.
من هنا، إن مجال الكتابة عن إمام المفسرين لا تسعه بحوث ودراسات، بل تلزمه التعبئة الجماعية لفرق من أهل البحث والاشتغال في العلوم الإسلامية، ولا يتأتى ذلك إلى بعقد ندوات ومؤتمرات وملتقيات تتخصص في بيان الفكر الجامع للإمام الطبري في تراثه، وإبراز أثره في خدمة العلوم، وتجلي إلى أي مدى ساهم الطبري بصنيعه بالارتقاء في ذلك، من حيز الجزئية التفريعية إلى الكلية التأصيلية، المنيرة طريق الباحثين في المادة التفسيرية خصوصاً والعلمية عموماً.
العظماء خالدون، مهما خرج علينا من حاول نقد هذا الموروث، أو اللعب على أوتار هجينة على الأمة الإسلامية، لا ينكر هذا الموروث إلا كل من كان إسلامه اسماً لا فعلاً، المواقف لا تتجزأ، لا يمكننا إلا التباهي بعلماء أمتنا ولو كانت كما يدّعي البعض أنها ماتت واضمحلت، لما كنا هنا اليوم نناقش ونبحث ونوثق، عالم من أمتنا، وأكرر كما ذكرت في المقدمة أعلاه، العطاء للعلوم لا للشخوص، التقدير للموروث والبحوث، ومرجعنا الأول والأخير ودستورنا هو القرآن الكريم، وطالما نعمل بتعاليمه، نحن الظافرون.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان

