لستُ مع “ديناصورات الوظيفة”، والسيرة المُمِلة الكئيبة، والدوران في الحلقة المفرغة، ولكن الحياة لا تدور بشكل طبيعي إلا بالتجديد، وتبادل الأدوار بين القديم والجديد، وهناك مهنٌ أرى من وجهة نظري أن يُتمَّهل في التقاعد بها؛ لأن التَّسرع في تطبيق نظام التقاعد عليها فيه خسران كبير، ويُشكل خللاً في الخدمة التي تُقدَّم من خلال أشخاصها، وأقصد هنا على سبيل المثال لا الحصر: مهن الأطباء ذات التخصُّصات الدقيقة، وفئات القضاة العاملين، وكافة العلماء كالخبراء العلميين والفيزيائيين، والعلماء الحرفيين، وخبراء البحث الجنائي والمختبر الجنائي ومسرح الجريمة، والبحوث العلمية في كافة المجالات، وعلماء الفقه والدين، وخبراء التشريع، وخبراء الإعلام والسياسة والاقتصاد، وكلُّ عمل عام يعتمد الفكر والعقل والخبرة نتيجة للممارسات العملية المكتسبة.
لأنَّ الأمر المُلاحظ أنه يتم الاستعجال في بعض التقاعدات، فيُنظَر إلى سِنيِّ الخدمة والوظيفة والدرجة أو الرتبة، ولكن يجب أن يُنظر كذلك إلى الأثر السلبي الذي سيُحدِثه تقاعد “فلان” من الناس عن الوظيفة العامة؛ فعلى سبيل المثال: عندما يتقاعد طبيب ما في تخصُّص نادر، سينتج عنه إغلاق مُستشفى بأكمله، ليس غلقًا فعليًّا، وإنما مجازيًّا؛ لأن هناك مستشفيات يشهرها طبيب واحد، وطبعاً لا يحدث العكس مهما كانت حال المستشفى من نظافة وكياسة ورونق بشكل عام، ومهما ما كان يتمتع به من إدارة جيدة، وملتزمة بالوقت والمواعيد، ولكن دون وجود طبيب متميز فإنه مجرد بناء رائع لا أكثر.
وكذلك عندما تُفرَّغ المحاكم من القضاة العاملين الفاعلين، وأصحاب الثقة والخبرة الكبيرة، طاعة لـ”حرفية قانون التقاعد” وغض الطرف عن روح القانون ومبتغاه، ومن ثمَّ الذهاب للبحث عن قضاة من خارج الوطن، فستكون المسألة جد مكلفة، ليس من الجوانب الإدارية والمالية، وإنما القاضي العُماني يعرف طبائع الناس، ولهجاتهم ولغتهم الخاصة التي يخاطبون بها فهمه وعقيدته، وهنا لا أقصد اللغة العربية نصًّا وروحًا، وإنما ما أقصده مكامن النَّخوة فيهم، وسُنن البلاد وأعرافها وتقاليدها، فبعض القضايا تُحل بكلمة، وبنفس الكلمة تتعقَّد الأمور ولا تُحل بسهولة، وهكذا الأمر دواليك.
وهو الأمر نفسه الذي يحدث في الكثير من المهن والتخصصات النادرة التي تعتمد على الخبرة والممارسة الطويلة؛ إذن لا بد من مُراعاة جوانب كثيرة ومتنوِّعة، وكذلك المهن ذات الأهمية قبل أنْ يُوكل إلى الحاسب الآلي استخراج قائمة بالذين حان تقاعدهم وفقاً للزمن، هذا إذا تجاوزنا التصفيات الشخصية التي يتخذها بعض المديرين، وهي قرارات يسمح بها القانون، ولكن إنْ أمعنتَ فيها العقل ستجدها تشفِّيًا من بعض الأشخاص الذين يغيظون هذا الرئيس بجُرأتهم في إثبات الحق بالحق، ولا يغضون الطرف عن الباطل الذي هو عليه، ومن هم على شاكلته.
إنَّ علوم الموارد البشرية الحديثة، تُقر بوجود مسار للخدمة في الوظائف العامة، وذلك من خلال التأهيل والتدريب، فتُهدِر أموالاً ومواردَ كثيرة في هذا الخصوص، ولكن بمجرد أن يتولى رئاسة العمل شخص فاقد للضمير والإنسانية، فإنه يبدأ التشفي من خصومه، مستغلاً السلطة التي وصلت إليه، فيبطش بمن لا تهواه نفسه، وذلك بغض النظر عن أهمية قراراته تلك للوظيفة. ومثالاً على ذلك؛ قال لي صديق؛ إن جهة ما أرسلت ثلاثة مديرين لحضور دورة تخصصية نادرة، والبلاد في حاجة ماسة لها، وقد اجتهدوا وعادوا بتقارير متميزة، فوافق عودتهم وجود رئيس عمل جديد، فأتى مسؤول آخر من “أصحاب الغفلة الزمنية إياهم”؛ ففي الأيام الأولى طار أحدهم بالتقاعد، ثم الثاني، ولحق بهم الثالث، واليوم لا أحد يأتي على سيرة ذلك التخصُّص، وهو يُمثل صناعة مهمة، والبلاد مُقْدِمة عليها، ولها إيجابيات بالغة للاقتصاد والأمن.
إنَّ المصلحة العامة، يجب أن تظل دائمًا مُقدَّمة على مصلحة الأفراد؛ ذلك عندما يكون الضمير حيًّا، ومخافة الله تَسكُن القلوب، والوطن فوق أي اعتبار؛ فيظلُّ النظر عندئذ مركّزًا على مصلحة الوطن. وبالنسبة للمهن النادرة والمؤثرة في خدمة الوطن، فيجب الحرص على المهن التي تخدمه، حتى لو يتم إحضار الخبير إلى العمل على كرسي مُتحرك، فهو أفضل ألف مرة من أن يؤتى بشخص كالحصان للعمل، ولكن لا يهتم إلا بمصلحته الشخصية، فلا يقدّم شيئًا للوطن، بل يُؤخر ويضُر بالعمل، ويكون سببًا في تعسه ونحسه، حتى لو كان لا يعلم بسوء فعلته.
إذن.. يجب أن نُمعِن التفكير في الأمور الأفضل للعمل الوطني، وأنَّ المساواة لا تمثل العدالة المطلقة، مهما تراءت الأمور للناظرين بصحة الشكل، وانتظام الأجسام وتناسقها، فإنَّ ذلك متساو في الشكل، لكنه مُختلف في المقدار والمعيار.. حفظ الله عُمان وشعبها الأبيّ، وأعز الله سلطانها الفذ الحكيم.
حمد بن سالم العلوي