عمّان، في 3 مايو/ العمانية/ يواصل الكاتب د.سميح مسعود تأثيث الذاكرة بأعماله الأدبية
والسيرية المتنوعة التي بدأها بثلاثيته “حيفا برقة.. البحث عن الجذور”، مرورًا بـ”على
دروب الأندلس” و”تطوان وحكايا أخرى” و”هوشيلاجا” و”أنطونيو التلحمي”، وانتهاءً
برواية “الكرملي” التي صدرت مؤخرًا.
وإذا كان الكثير قد كُتب عن التاريخ الفلسطيني خلال الأعوام المائة الفائتة، إلا أن هذا
التاريخ يبقى سجلًّا مفتوحًا، لأن لكل حياة قيمتها، ولكل حدث أهميته، وكل عمل يُكتب في
هذا المجال يسهم في استكمال الصورة عن المرحلة التي مرّت من تاريخ فلسطين بكل
ألوانها.
في رواية “الكرملي” التي اختار صاحبها، ابن حيفا المدينة العريقة، المتقدمة ثقافيًّا
وحضاريًّا، شخصيات تنتمي إلى المدينة وتعكس تطورها الثقافي والاجتماعي والسياسي،
يبرز اسم نجيب نصار، مؤسس جريدة “الكرمل” ورشيد الكرملي، ذو المواهب الأدبية،
وتوفيق أبو غيدا، المقاول المثقف صاحب النزعة الوطنية، والشيخ مناور الزعبي الوطني
بالفطرة وصاحب النزعة القومية.
وتقدم الرواية أيضًا شخصيات ثانوية، على غرار ظاهر العمر الزيداني، والي حيفا الذي
حوّلها من قرية للصيادين إلى مدينة “يتمطّى حولها سور عال لحمايتها”. وكذلك الملك
فيصل بن الحسين، الذي استقبلته حيفا بعد أن خذلته بريطانيا وأخرجه الفرنسيون من
دمشق، والذي يظهر في الرواية مثقفًا، عالمًا بالتاريخ، سياسيًّا بارعًا، مدافعًا عن حق
العرب بالنهضة والوحدة.
وتحضر في هذه الرواية شخصيات لورانس، والمطران جريجوريوس حجار، والشاعر
وديع البستاني، والشاعر سليمان أيوب، وراغب النشاشيبي رئيس بلدية القدس، والمفتي
محمد أمين الحسيني. ويظهر للقارئ أن الروائي يمزج عمدًا بين الشخصيات التاريخية
الحقيقية والشخصيات المتخيلة، لاستكمال البنيان الفني للرواية. فضلًا عن أنه يقدم توثيقًا
تاريخيًّا لعدد من الأمكنة، ويورد أحداثًا مفصلية مثل بناء خط سكة الحديد، والمؤتمر
العربي الأول، وتأسيس الهيئة العربية العليا، والإضراب الفلسطيني العام، والثورة
الفلسطينية الأولى (1936)، والحرب العربية الإسرائيلية الأولى (1948)، ما يضفي
على الرواية بُعدًا توثيقيًّا، ويجعلها تتراوح ما بين الرواية التاريخية والرواية الدرامية.
تدور أحداث الرواية في مرحلة زمنية دقيقة وحاسمة من تاريخ المنطقة بشكل عام وتاريخ
فلسطين بشكل خاص، وهي بداية القرن الماضي التي اتسمت بضعف الدولة العثمانية
وتفككها وصعود التيار القومي التركي الذي بدأ يُسيء للمكونات الأخرى في الدولة،
وتجلى ذلك بحملة القمع لطموحات الأحرار العرب، وإعدام العديد منهم في بلاد الشام،
الأمر الذي استدعى ظهور الجمعية العربية الفتاة، تلبيةً لطموح العرب بالاستقلال.
وشهدت تلك المرحلة أحداثًا تاريخية واجتماعية مهمة، منها بناء خط سكة حديد الحجاز،
وخط سكة حديد حيفا درعا، وهما الخطَّان اللذان كانت تسعى الدولة العثمانية من خلالهما
إلى ربط أجزاء الإمبراطورية بعضها ببعض. وقد وعدت سكة الحديد بتطورات اجتماعية
واقتصادية عكست الروايةُ جزءًا منها، مثل زيادة التبادل التجاري وتعزيز التواصل
الاجتماعي بين الحواضر الأردنية ونظيرتها الفلسطينية، وبالتالي التقارب على المستويين
السياسي والفكري.
ومن الأحداث المهمة التي مرّت عليها الرواية وتركت صدىً في المنطقة: حرب البلقان
التي استفزت أحلام العرب بالاستقلال وتحقيق الوحدة العربية من تطوان إلى بغداد،
والحرب العالمية الأولى، ودخول العرب بقيادة الشريف الحسين بن علي في تحالف مع
الإنجليز للقضاء على الدولة العثمانية، واتفاقية سايكس-بيكو، ووعد بلفور الذي قدم
فلسطين ليهود العالم ليقيموا على أرضها دولة يهودية.
هذه الأحداث وسواها أعطت الرواية التوتر المطلوب، فتفجير خط سكة الحديد أعاد الناس
لاستخدام الجِمال في التجارة، وخروج الملك فيصل من دمشق أعاد النضال القومي إلى
جذوته الأولى، والحياة الرتيبة الهانئة آلت إلى توتر وصراع في ظل تزايد الهجرة
الصهيونية إلى فلسطين. يقول الكاتب: “كانت فلسطين كلّها في تلك المرحلة كبيتِ النار،
ترتجّ مصابيحها مع الأحداث كارتجاج أشرعة سفينة تائهة في بحر الظلمات، وكان
اختلاف الآراء حول طوق النجاة الأفضل يُفقِد السفينة القدرة على الصمود في وجه
الأنواء”.
ومع انطلاقة الثورة الفسطينية ضد سياسات الانتداب والهجرات الصهيونية، أيّدتها جريدة
“الكرمل”، وأصبحت شبه ناطقة باسمها، لكن مصير الجريدة كان يتماهى مع الأوضاع
التي لا تسرّ، فوصلت في النهاية إلى طريق مسدود، تمامًا كما وصلت الثورة إلى طريق
مسدود، وانتصرت المليشيات الصهيونية المدعومة من الإنجليز على الجيوش العربية
غير الجاهزة للحرب، وسقطت حيفا بعد استشهاد القائد الأردني محمد الحنيطي، وتحول
توفيق أبو غيدا ورشيد الكرملي إلى لاجئَيْن في مخيم في ضواحي دمشق.
تنتهي الرواية التي صدرت عن الآن ناشرون وموزعون بعمّان، بلقاءات بين عدد من
الشخصيات الوطنية والقومية، يجري خلالها تقييم تجربة الحرب، وتفضي إلى خروجهم
من “الظلام الحالك الذي حدّثهم عنه العمّ توفيق إلى ظلام أقلّ منه”.
/العمانية /174