لا غنى لنا عن الثقافة القرآنية، لأن الثقافة القرآنية وباختصار، بحر من العجائب، يحوي الكثير من الأسرار، والفتوحات والتربية وكافة العلوم نجدها في هذه الثقافة التي لولاها يضيع الإنسان في غياهب الفوضى والمجهول.
ولو يبعد الإنسان عن صخب الحياة ومادياتها ويتأمل القرآن الكريم ويتدبر الآيات العظيمة بقراءة تدبّر، ويضع ضغوطات الحياة جانباً، سيشعر بالفرق، سيشعر بالراحة التي لا تعلوها راحة، ويبحر في رحلة تأمل في رحاب الآيات الكريمة حتى ولو كانت كلمات قليلة، ستشعر أنها انعكست عليك شخصياً كسلوك ونفسية وهدوء وسكينة وصفاء، هذه الأمور كل الناس تواقة لها اليوم لأننا لا نعيشها ومبتعدين عنها، لنأخذ على سبيل المثال، سلوك الإنسان، وتحديداً اكثر لنأخذ مثال عن إنسان يتبوأ منصباً سياسياً أو إدارياً، ودوره هو خدمة الناس والمجتمع والأهل والأصدقاء، هنا نقول إن الله تبارك وتعالى أعطى هذا الإنسان وخصه بمكانة اجتماعية أو سياسية أو أياً كانت، هذا ببساطة واختصار شديدين هو الإحسان ليس من أحد بل من الخالق عز وجل، وإذا عكسنا هذا الإحسان في سلوك الأفراد كما أحسن الله تبارك وتعالى إليك أيها المسؤول، أحسِن بدورك إلى الناس، لأن هذا الإحسان حكماً سيُرد بأمر إيجابي ولهو أمر رائع أن يكون الجزاء من جنس العمل، قال تبارك وتعالى في محكم كتابه العزيز: (للذين أحسنوا الحُسنى وزيادة ولا يزهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون).
إن الإحسان نعمة مقدمة من الله تبارك وتعالى، وكما أشرت، هذه النعمة وتقديرها، هي العمل بأن نحسن إلى الناس، لننتبه إلى الآية الكريمة المباركة الجميلة بسورة القَصص، قال تبارك وتعالى: (وأحسِن كما أحسَن الله إليك)، هنا الإحسان إلى كل شيء وليس فقط الإحسان إلى الإنسان، (حيوانات وطيور ونبات وغير ذلك)، ومن يلجأ إليك أياً كان طلبه وهناك مقدرة للمساعدة، هكذا يكون الإحسان خاصة وأنه حاجة للآخر، فصاحب المنصب مسخر لخدمة الناس وكيف وإن كانوا مستضعفين وفقراء ومحتاجين، فالجزاء والثواب أضعاف مضاعفة، هكذا يكون الخير وهكذا يتحقق السلام من النفس إلى المجتمع ككل.
حتى في الأدب العربي وإن أردنا أن نغوص فيه، وأن نقرأ للأستاذ محمود درويش، مع الإشارة أنه لا غنى عن الثقافة القرآنية، لكن لا بأس من ذكر هذا المثال لما له من صلة بموضوعنا الرئيسي، حيث قال في قصيدة مشهورة له: (وأنت تعد فطورك فكّر بغيرك “لا تنسَ قوت الحمام”.. وأنت تخوض حروبك فكّر بغيرك “لا تنس من يطلبون السلام”.. وأنت تعود إلى البيت، بيتك، فكّر بغيرك، “لا تنس شعب الخيام”.. وأنت تنام وتحصي الكواكب، فكّر بغيرك “ثمة من لم يجد حيّزاً للمنام”.. وأنت تحرر نفسك بالاستعارات، فكّر بغيرك “من فقدوا حقهم في الكلام”.. وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكّر بنفسك “قل: ليتني شمعة في الظلام”).
هذا يأخذنا لكل الفقراء في العالم، اللاجئين السوريين والعراقيين والفلسطينيين واليمنيين، وكل المشردين حول العالم والمستضعفين، كل هذه حالات يجب أن نتوقف عندها ونعرف كيف يمكن أن نساعدها ونهيئ لها كل سُبل الإنقاذ لأن ذلك واجبنا والله تعالى إن كنا قادرين ولم نفعل سيحاسبنا على صمتنا هذا، هذا الأمر إن فكرنا فيه هو الإحسان ولا منّة لأحد فيه، وأفضل الإحسان هو التفكير بالغير، من لم يستطع تدبر قوت يومه علينا أن نساعده بما أوتينا من مقدرة واستطاعة، من الممكن والجائز أن يجعلك الله تبارك وتعالى سبباً في سد رمقهم بصمتٍ وإحسان، حتى الطير من كسرات خبزك تصنع الإحسان وما أجمله من إحسان عندما يكون بنية خالصة لله عز وجل، وهذا كله رزق من الله تبارك وتعالى.
إن الله سبحانه وتعالى يضعنا على سكة معينة يريد منا أن نسير فيها، ومن هنا نتذكر إحسان الله تبارك وتعالى إلينا وعبرنا إلى الغير، ونحن عبد الله الفقراء، قال تبارك وتعالى في محكم كتابه العزيز: (وقولوا حطّة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين)، وآيات الإحسان آيات مباركة وجميلة، لو تأملت قوله تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسِن كما أحسَن الله إليك)، وأحسِن كما أحسَن الله إليك، هل هناك أبلغ وأجمل من هكذا تعبير وبيان وحكمة إلهية، هذا الإحسان عائد إليك، وهذا يؤكد لنا أن الإحسان إلى الآخرين سيرجع إلى صاحب الخير بأحسن منه، ومن يتأمل هذه الآية المباركة، ليفعلها في دنياه ويجعلها قاعدة قرآنية في الحياة كلها، الأجمل من ذلك أن نرددها ونجعلها ملازمة في سلوكنا وتصرفاتنا ومن ضمن مبادئنا في الحياة في البيت والعمل والمجتمع وكل مكان وأن نذكر بعضنا بهذه القاعدة الجميلة، هذا يعني إن تم تفعيله في دنيانا، سينشر الثقافة القرآنية فيما بيننا.
أيضاً تأمل الجذر اللغوي لكلمة إحسان تجد فيها من البلاغة والتعبير الكثير، وهذا ما جاء في الآية التي ذكرناها أعلاه، (وأحسِن كما أحسَن الله إليك)، خمس كلمات فيهم من المعنى العميق الكثير ومن يستشعر ذلك أصحاب الأرواح الصافية والنقية والنظيفة والمقبلة على الله تبارك وتعالى، لنتذكر دائماً إحسان الله تبارك وتعالى إلينا، ولنحسن إلى الناس، قال تبارك وتعالى: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، لنعزز التكافل الاجتماعي والترابط والرحمة والحب فيما بيننا، ولنجعل ثقافة السلام هي السائدة كأمة عربية وإسلامية وإنسانية، والإنسان أخ الإنسان، لننعم بما أنعم الله به علينا ونتشاركه جميعاً.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان