من قرأ ويقرأ التاريخ لا بد له من ملاحظة دور العلماء الكبير في بناء وتطور نهضة الأمة الإسلامية خاصة في حالات الضعف، فكانوا كالمرابطين على ثغور حماية الدين والعقيدة من براثن الاستشراق واللادين المدمرتين لسلوك الإسلام إن لم يتم صدهما وصد كل الحركات المشابهة لهما صداً دينياً منيعاً لوقف مد كل الشبهات.
ومن الصالح العام للجميع، وصالح وحدة الأمة الإسلامية، ولن أدخر جهداً في كل مناسبة أن أكرر أن الأمة الإسلامية مستهدفة من أشباه العلماء وأدعياء الثقافة، ومن دار في فلكهم، في دينها، الذي هو مصدر العزة والكرامة، والآن المسجد الأقصى المبارك يتعرض لهجمة شرسة وتدنيس، ترى المثقفون العرب المناصرين للقضية للفلسطينية وبحجة العروبة يتكلمون عن القدس كمدينة وحي الشيخ جراح، كحي من هذه المدينة، لكن لا أحد منهم يتكلم عن المسجد الأقصى كي لا يُحسبون على الإسلاميين وكأنهم خجلين من دينهم، مع العلم نحن مسلمون لا إسلاميين، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على حالة من الوهن والارتباك بات يسيطر على العقول، المسجد الأقصى هو فلسطين وهو القدس، وإن لم تتحرك شهامتكم ها هنا، لا خير فيكم، هذا الوهن تحول إلى استهداف للأمة الإسلامية وقتل كل ما هو إسلامي، من قتل وتدمير ممنهج واعتقال لعلماء الدين والمفكرين الإسلاميين وحفظة القرآن الكريم، كل ذلك مقدمة للتطبيع ووهن الأمة والقائمة تطول.
هذا الأمر مرتبط بشكل مباشر في محاولة لتدمير دعائم الدين الإسلامي ووضع دين بديل يتماشى مع الغرب وأفكارهم لتدمير آخر قلاع الأمة الإسلامية، من خلال محاولة تفتيتها وإضعافها ليُصار التحكم أسهل وأسهل، لكن بالدراسة واعتماد القواعد الإسلامية الصحيحة نصحح المسار ونضع أبناء الأمة الإسلامية على الطريق الصحيح، ولعل أبرز ما يمكننا تقديمه هو تدعيم الأسانيد كعلم قائم يبين الحقائق من الزيف من خلال القرائن التي تبين صحيح الأحاديث من ضعيفها، وهذا أساس علم الأسانيد كما أشرنا في موضوعاتٍ كثيرة سابقة، إذ أن أهمية الإسناد أنه وسيلة لتمييز ما يُضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صحيحه من ضعيفه، لنفي الكذب والتدليس عن النبي، فلولا هذا العلم، لتمكم منّا أهل البدع والإلحاد بقلب الأسانيد وضياع موروث الأمة الإسلامية الذي تعب فيه الكثير من رجال الدين على امتداد العصور الإسلامية.
وكان عصر الصحابة، عصر سبّاق في حماية الأحاديث النبوية وقال الذهبي عند ترجمة أبي بكر الصديق: (وكان أول من احتاط في قبول الأخبار)، كذلك في عهد عمر بن الخطاب الذي كان قد أوعز للمحثين التثبت في النقل، وكذلك علي بن أبي طالب الذي كان يستحلف من يروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبالتالي هذا يضعنا على السكة الصحيحة في أن الإسناد علم لا بد له من ضمانات في النقل والتثبت والرواية، وكان من سبب توسع هذا العلم، كثرة المدلسين في كل العصور، إلى جانب توسع الأمة الإسلامية بعد الفتوحات الإسلامية الكثيرة واندماج ثقافات مختلفة إلى جانب النزاعات السياسية وغير ذلك، كلها كانت سبباً مهماً أيضاً في حماية الحديث، فأصبح لا يُقبل أي حديث بدون إسناد ومعرفة ثقاته من الرواة، ففي صحيح مسلم، نبه الإمام مسلم إلى أهمية الإسناد، كذلك روى بالسند الإمام محمد بن سيرين الذي قال: (إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف)، وبالتالي هذا التدقيق إنما مسؤولية تنم عن الجيل الأول الذي كان مسؤولاً شرعياً تجاه حفظ السنة النبوية الشريفة باعتبارها المصدر الثاني للتشريع، ما لبثت أن نمت هذه المسؤولية وأصبحت أسس منضبطة توارثها العلماء على مر العصور الإسلامية.
وللتعمق أكثر لا بد من التوقف قليلاً عند أقسام الإسناد، فهو يقسم باعتبار كثرة الطرق وقلتها، كما وصل إلينا، في علم مصطلح الحديث، وأوله الحديث المتواتر والذي هو ما رواه عدد كثير تحيل العادة تواطؤهم على الكذب وجعلوه متواتر لفظي، ومتواتر معنوي، فالحديث الآحاد ما رواه شخص واحد، أما اصطلاحاً فهو الخبر الذي لم يجمع شروط الحديث المتواتر، فيشتمل على ما رواه واحد أو اثنان أو ثلاثة فصاعداً ما لم يصل إلى عدد التواتر في طبقة واحدة أو في جميع الطبقات، وبدوره انقسم إلى ثلاثة أنواع: الحديث المشهور وهو ما رواه ثلاثة فأكثر ولم يبلغ حد المتواتر، والنوع الثاني، هو الحديث العزيز وهو ما لم يقل عدد رواته عن اثنين في كل طبقاته، والنوع الثالث والأخير، الحديث الغريب الذي رواه واحد فقط.
ولقد نصوا آنذاك على أن المتواتر يفيد العلم الضروري، اليقيني الذي يضطر الإنسان إلى التصديق به تصديقاً جازماً كأنه شاهد الأمر بنفسه، وعليه كان المتواتر مقبولاً ولم يكن هناك حاجة إلى البحث عن أحوال رواته، أما خبر الآحاد فيفيد العلم النظري فقط، أي العلم المتوقف على النظر والاستدلال، وكما يقول علماء الدين إن التقسيم الثنائي (متواتر وآحاد)، ليس على رسم المحدثين وإنما هو تقسيم أصولي بحت، ويعد الخطيب البغدادي أول من أدخله في كتب مصطلح الحديث، من هنا، يقسم علم الإسناد باعتبار القبول والرد على قسمين رئيسيين، أولهما، الحديث المقبول وهو الذي ما يجب العمل به عند الجمهور، والثاني هو الحديث المردود الذي فقد شرطاً من شروط القبول، فلم يرجح صدق المخبر به، لتوقف الاستدلال بها على البحث عن أحوال رواتها.
وهنا وربطاً مع ما ورد أعلاه، وتحديداً في الجزئية التي تتعلق بخبر الآحاد، اليوم أصبح كل من هبّ ودب يتكلم في الدين وعلومه، وقديماً كان الحكام والساسة لا يقمحون أنفسهم في الأمور الدينية لأن لها رجالاتها والمختصين فيها، أما اليوم يخرج البعض منهم ويتكلم من باب القوة من خلال المنصب السياسي، وهناك مسؤول خليجي خرج علينا قبل أيام في مقابلة تلفزيونية حول الأوضاع السياسية، لكنه انتقل وبضرسٍ قاطع وبكلام الواثق من نفسه للحديث حول الحديث النبوي الشريف والتشريع الإسلامي، مستخفاً بمسألة خبر الآحاد، الخبر ليس هنا، بل لمن انبرى لهذا الأمر، وأثنى عليه خاصة أولئك الذين لا أريد أن أذكرهم والذين كانوا يكفرون من يتناول هذه المسألة التي لها أهلها من أصحاب التخصص، ولا يتم تداولها من عامة الناس أي خارج الصفة الدينية، خاصة وأن هذا الحديث هو حديث ثابت عن النبي وما تلا ذلك من مفردات أو مصطلحات جاءت من المتأخرين وليس من المتقدمين، وهذا يأخذنا إلى الغاية والهدف من ذكر هذه المسألة من هذا المسؤول، خاصة وأن ذلك استخفاف من السنة الشريفة وأسقط هيبتها ومكانتها من نفوس المسلمين، وعليه يكون القصد النيل من القرآن الكريم، لأن في القرآن والسنة النبوية عزة الأمة الإسلامية ولو كنا متوحدين لما تكالبت علينا الأمم، وفعل فعلهم شذاذ الأرض من الصهاينة وغيرهم.
فمن يتحدث عن الحديث وخبر الآحاد، لا بد أن يكون متمكناً لا من العامة سواء كان مسؤولاً أم لا خليجياً أو عربياً أو أياً كان، ويجب أن يعلم الله سبحانه وتعالى شرّع قبول خبر الآحاد في كتابه، وجعله قاعدة معمول بها، وقبول خبر الآحاد فقد جعله تبارك وتعالى بالواحد، فعندما بُعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بُعث لوحده وإذا كان نبينا معصوماً بالتالي نصوصه الثابتة عنه معصومة أيضاً، قال تبارك وتعالى في كتابه العزيز: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى)، كما في سورة ياسين، وعليه إن قبول خبر الآحاد ليس من سنن النبي، بل من السنن الإلهية التي عمل بها جميع الأنبياء والمرسلين، لذلك لم يبعث الله تعالى نبيان مرسلان لأن لدى الخالق عز وجل خبر الواحد الحجة مقبول فكلف بالرسالة أفراد آحاد (آدم ونوح وعيسى وإدريس … إلخ) عليهم السلام.
ولكل من يتطاول على السنة النبوية، يجب العلم أن كل مذهب لا يمثله شخص، بل مجموعة علماء وكل طبقة كان فيها جهابذة وسأعرج على بعض الأمثلة في موضوعي هذا، من حفاظ للقرآن الكريم والسنة بأسانيدها ومتونها، وكل ما يخرج اليوم من أي كان، لقد رد على هذه الشبهات علماء الأمة منذ قرون، لأنهم موجودين في كل زمان ومكان، ومن يثير الشبهات لا مكان له في التاريخ بل يبقى للعلم أهله ما بقي هذا الدهر، وكل من يروج إلى إسلام حر من خلال طرح الأفكار التنويرية والتي هي في حقيقتها هدامة للفكر الإسلامي لأنهم باختصار مأجورين، ومن يثني على أي مسؤول من رجال الدين، هؤلاء ليسوا إلا علماء وعملاء السلطة والسلطان لا علماء دين، وهذا يأخذني إلى إمام دار الهجرة مالك بن أنس عندما قال للخليفة أبو جعفر المنصور عندما يرفع صوته، فيقول له الإمام، اخفض صوتك يا هذا أنت في حضرة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فكان الخلفاء يخافون من العلماء.
إن مكانة السنة النبوية في الإسلام، كبيرة جداً وهنا اوجه كلامي لشباب الأمة وأقول لهم، لا تغترون بكلام المستشرقين والغلاة من العلمانيين ومن يسمون أنفسهم (القرآنيين) وهم آفة العصر، ولا تستمعون لكلامهم، وعلى سبيل المثال، كل ممارساتنا العبادية عرفناها من السنة النبوية من صلاة وأحكام الزكاة وفقه المعاملات والعبادات والأحوال الشخصية من طلاق وزواج وأمور أخرى، والأهم أننا من خلالها عرفنا سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهديه وشمائله، لكن الموروث ونقده يكون عند أهل الاختصاص.
من هذا التمهيد المبسط، ندخل في القسم الأهم والأشمل والأوسع وهو أقسام الصحيح، بحسب ما ذكر أئمة المصطلح أن أقسام الحديث ومراتبه بالنسبة لمصنفاتهم المعروفة، أولها ما أخرجه الإمام البخاري ومسلم جميعاً وكله متفق عليه، والثاني ما انفرد به البخاري في صحيحه عن مسلم، أما الثالث ما انفرد به مسلم في صحيحه عن البخاري، والرابع ما كان على شرطهما لم يخرجاه في صحيحيهما، والخامس ما كان على شرط البخاري لم يخرجه في صحيحه، والسادس ما كان على شرط مسلم لم يخرجه في صحيحه، والسابع، ما صح عند غيرهما وليس على شرط واحد منهما، وفي هذا الخصوص، قال الحافظ الحازمي في شروط الأئمة: (أن شرط البخاري أن يخرج ما اتصل إسناده مع كون رواته ثقات متقنين ملازمين لمن أخذوا عنه ملازمة طويلة في السفر وفي الحضر، وأنه قد يخرج أحياناً عن أعيان الطبقة التي تلي هذه في الإتقان والملازمة لمن رووا عنه، فلم يلازمه إلا ملازمة يسيرة، وإن شرط مسلم أن يخرج حديث هذه الطبقة الثانية، وقد يخرج حديث من لم يسلم من غوائل الجرح إذا كان طويل الملازمة لمن أخذ عنه كحماد بن سلمة وثابت البناني، وأيوب..)، وبالتالي يكون الصحيح ما اتفق عليه الإمامان البخاري ومسلم، وما انفرد به البخاري، وما انفرد به مسلم، وما اتفق الأئمة النقاد المتقدمون على تصحيحه، وما صححه إمام ناقد بلا مخالف.
ويدور الإسناد على أهم من صنف هذا العلم، فكان من مصنفي أهل المدينة، مالك بن أنس، ومحمد بن اسحق، ومثلهم في مكة والبصرة والكوفة والشام وأهل واسط، ولا يعد الحافظ حافظاً إن لم يدر في هذه الأفلاك كلها، ويعرف حديث أهل المدينة ومكة والبصرة وغيرهم، ونقل الخطيب البغدادي عن الإمام عثمان بن سعيد الدارمي: (يقال من لم يجمع حديث هؤلاء الخمسة فهو مفلس في الحديث: سفيان وشعبة ومالك بن أنس، وحماد بن زيد وابن عيينة وهم أصول الدين..)، ومن المهم على المتخصص بعلم الحديث عموماً وعلم العلل على وجه الخصوص معرفة اختلاف أصحاب كل راوٍ من الرواة الثقات الذي تدور غالب الأحاديث عليهم، وبيان مراتبهم في الحفظ وذكر من يرجح قولهم منهم عند الاختلاف، فأشهر طبقات من روى عن أم المؤمنين السيدة عائشة، عروة بن الزبير والقاسم بن محمد وعمرة بنت عبد الرحمن وغيرهم، وأما أشهر طبقات أصحاب ابن عباس ، سعيد بن المسيب وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح وغيرهم، وغيرهم الكثير من الأئمة الرواة، وبالتالي معرفة الاختلاف في طبقات أصحاب الراوي، ييسر على المشتغل بالعلل المقارنة والترجيح بين الطرق المختلفة عند التعارض في سندٍ أو متن.
من هنا، إن الأصل في الحديث، الاستقامة ويعيّن على دارسي هذا العلم كثرة القراءة خاصة في كتب الرجال والعلل، الإسلام عملاق ولن يقدروا أن يدنسوه، ولعلم الحديث ومصطلحه رجال وفي هذه الأمة رجال، وكما تصدى في يوم من الأيام الرجل الذي كان بحجم أمة، الجهبذ أحمد بن حنبل، للخليفة المأمون في قضية خلق القرآن، وتصدى للمعتزلة وأبطل فتنتهم واليوم لا أحد يذكر عالماً واحداً منهم إلا ويجب أن يذكر بن حنبل، نحتاج إلى مثل هكذا رجال لسمو ورفعة أمتنا الإسلامية كما كانت، وسيبقى القرآن الكريم والسنة النبوية في صدور المؤمنين، ولن يستطيع أحد هدم ركن من أركان الدين.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان