يُلاحظ المُتابع للوضع المحلي أنَّ هناك حالة عامة من عدم الرضا بصورة غير عادية وغير معهودة لأسباب معروفة؛ وأهمها تراجع الوضع الاقتصادي لمستويات لم نسجلها من قبل، وقد تزداد هذه المستويات لو لم يتم تداركها في قادم الأيام، فضلًا عن تداخل الظروف ببعضها البعض وتكالبها على كثيرٍ من الأفراد والمؤسسات، فمنهم من طاله التسريح عن الوظيفة أو التقاعد أو انخفاض دخله المالي أو الاستدعاء إلى المحكمة أو الإفلاس أو العجز عن سداد التزاماته المادية، أو تغير مكانه ومكانته في الهيكل الإداري الجديد، أو انخفاض مبيعاته التجارية لسبب أو لآخر..
لقد تعددت منغصات الحياة، والنتيجة واحدة في اتساع رقعة الإحباط حتى إلى الفئات غير المذكورة أعلاه، ولو بشكل غير مُباشر، وذلك لأنَّ الإحباط ينتشر ويعدي غيره حال بقية الأمراض والفيروسات المُعدية.
وتظهر هذه المشاعر السلبية من عدم الرضا واضحة عبر منصات التواصل الاجتماعي عند صدور بعض القرارات الحكومية في صور عديدة؛ سواء كان عن طريق التندر أو الاندهاش الساخر أو نشر بعض المقاطع التي تصل في أحيانٍ كثيرة إلى الإساءة، وهذا مُتوقع في منصة افتراضية عالمية تضم الكبير والصغير والواعي والمتهور والمتسرع والمتعلم والجاهل والمتأزم مالياً ونفسياً، والناقم والراكب على الموجة، وعشرات- إن لم تكن المئات- من الشخصيات المتزنة أو المتهورة أو المنزلقة أو حتى المندسة أو الإمّعات وغيرهم الكثير.. فهذه المنصات عالم متنوع وضخم ومتشابك ويتسع لحظة بلحظة، ولا يُمكن تعقب الجميع أو السيطرة عليهم بشكل نهائي مهما تم توفير الإمكانيات التقنية أو البشرية أو المالية، لذلك من الضروري دراسة منهجيات بديلة حضارية وعصرية للتعامل مع رواد هذه المنصات.
الأساس في القرارات الحكومية هو إعلام المتعاملين معها بالمستجدات، والهدف الذي يراد إيصاله أن هذه القرارات هي لصالح المتعاملين معها، ولكن في كثيرٍ من الأحيان تصل الرسالة ناقصة أو مشوهة أو غامضة، مما يزيد من استياء واحتقان فئات من الناس، وتمكن البعض من التصيد في الماء العكر، ولتفادي ذلك لا بُد من تبني الإخراج الاحترافي للقرارات الحكومية، ومراعاة بعض النقاط لكي يكون إخراج هذه القرارات لعامة الناس خاصة للقرارات التي تمس حياة الناس اليومية إخراجاً احترافياً، وأهمها:
الشرح الوافي: بحيث لا يكون هناك مساحات للمناورة، وثغرات واضحة يستطيع المتصيدون اختراقها واللعب في المياه العكرة.
التوقيت: لا بُد أن يتمتع أصحاب القرار ومستشاريهم بتوفر حاسة تستطيع أن تقرأ المشهد الميداني، ويمكن لها أن تقرر التوقيت المناسب لإصدار القرار، فمن غير المناسب أن يكون هناك استياء واسع ضد قرار معين، ويصدر قرار آخر يمس حياة الناس، ويتوقع من الناس ردات فعل سلبية، ويصدر في ذات الوقت، وتكون نتيجته اتساع رقعة السخط والسلبية.
قانونية الطرح: لابد من استشارة الدوائر القانونية بوقت كافٍ قبل إصدار بعض القرارات، لربما أنها تتعارض مع بعض المراسيم السلطانية أو القرارات السابقة أو اللوائح التنظيمية، والنظر بجدية إلى ملاحظاتهم، وتحميلهم المسؤولية في حال تمريرهم لأي خطأ.
الحساسية: مراعاة النفسيات المختلفة للمتلقي، فهناك المتصيد، وهناك الناقم، وهناك المتأزم، وهناك الحاقد، وهناك الجاهل، وهناك المتضرر، لذلك لابد أن تكون الكلمات المختارة والإيحاءات المستخدمة في أي قرار حكومي أو أثناء شرح القرار فيما بعد، لا تثير حفيظة مثل هذه النفسيات أو حساسيتهم، وتراعيهم قدر الإمكان، وعلى المسؤول الحكومي أن يستوعب أن أي قرار حكومي جديد سوف يقابل بالمقاومة، وأن أي عملية تصحيحة تعني في عقليات البعض أن هدفها التأثير السلبي على حياة الفرد أو المؤسسة، عليه، فإن طريقة إخراج القرار الحكومي أما سوف تبعث برسالة طمأنينة أو عكس ذلك تمامًا.
الاختبار الداخلي: يمكن للمسؤول الحكومي أن يجري اختبارات داخلية لتأثير القرار من خلال طرحه تجريبياً لشرائح مختلفة للموظفين من داخل الوزارة نفسها من خلال ورشة عمل يديرها احترافيون متمكنون من استخراج أفضل مكنون من المشاركين، ومن ثم رصد كافة الملاحظات، والتعامل معها بجدية.
الاختبار الخارجي: من خلال دعوة عدد من الصحفيين والمفكرين والكتاب والمغردين والمؤثرين، وإقامة ورشة عمل (focus group) وطرح صيغة القرار، والاستئناس بآرائهم وملاحظاتهم إن وجدت.
التسويق: من خلال التسويق الاحترافي الجيد يمكن أن تصل الرسالة ويتقبلها الناس ويتفاعلوا معها إيجابيا، وبدون تسويق جيد يمكن إيصال نفس الرسالة وتخيفهم وتهز مشاعرهم، وتزيد من استيائهم وسخطهم وتضعف من ثقتهم بالحكومة وتزيد الفجوة فيما بينهم.
الاستعداد المبكر: بمعنى أن يكون الفريق المسؤول عن القرار جاهزاً لكل ردات الفعل المتوقعة والسيناريوهات المختلفة، وكيفية التعامل معها، وأن تكون هناك خطة شاملة مكتوبة لكيفية التعاطي مع الإعلام التقليدي والإعلام البديل، وألا تغيب عن هذه الخطة الإعلامية أي شاردة أو واردة، وأن تكون كافة الأجهزة الإعلامية الحكومية والخاصة والمؤثرين في الإعلام الحديث على اطلاع، وبكل ثقة على أتم الاستعداد لمساندة القرار والدفاع عنه، خاصة وأنه تم التعامل معهم بأنهم فريق عمل ميداني وشركاء مند نشأة القرار في بدايته إلى لحظة خروجه لعامة الناس.
جاهزية الإجراءات: سوف يحمل القرار الحكومي إن لم يكن متكاملا وشاملا كثيرا من الانتقاد واللغط، لذلك لابد أن يشتمل على كل الأجوبة لكل الأسئلة في عقل المتلقي من أفراد ومؤسسات بشكل كاف وواف، وتوضيح كافة الخطوات والمراحل التطبيقية.
التنسيق والتكامل: بحيث لا يكون هناك أي إصدار لأي قرار حكومي إلا وهناك تنسيق كامل وتوافق ومساندة من كافة أعضاء مجلس الوزراء، فالمسؤولية لم تعد تخص وزارة بعينها، وإنما مسؤولية جماعية تخص الحكومة كاملة.
رسائل الطمأنينة: المقاومة متوقعة وطبيعية، لذلك من الذكاء أن يحمل القرار الحكومي رسائل طمأنينة ويعظمها، ويركز عليها، ويفندها ويوضح أبعادها وفوائدها ونتائجها المرجوة على المدى المتوسط والطويل، وفوائدها للجيل الحالي وجيل المستقبل وضمان استدامة التنمية للجميع، والموازنة في استخدام الكلمات العملية والشاعرية، على ألا يطغى أحدهما على الآخر.
الخلاصة.. إن إخراج القرارات الحكومية لعامة الناس بطريقة احترافية أصبح جزءا أصيلا من عملية اتخاذ القرار، وربما أهمها، ولا بُد لكل مسوؤل حكومي وفريقه التخطيطي والتنفيذي والاستشاري أن يكون ملماً بأهمية هذه الخطوة، ومدى ثأثيرها الإيجابي أو السلبي على المحيط المحلي والإقليمي، لذلك يبقى “الإخراج الاحترافي” لأي قرار حكومي في غاية الأهمية.
خلفان الطوقي