.. فقدت ولاية الخابورة صباح يوم الأحد ٢٣ مايو ٢٠٢١م أحد رجالها الأفذاذ وركن كبير من أركاناتها، وعندما نقف أمام قامة بحجم هذا الرجل فإننا نتحدث عن رجل يعادل ثلة من البشر، رجل يحمل صفات وقيم نادرة، هذه القيم الحميدة وضعت له موقعا خاصا في قلوب أبناء ولاية الخابورة، وعندما نتحدث عن الشيخ حمد بن راشد الحوسني فقد تتعثر الكلمات التي تفيه حقه، نتحدث عن الانسانية بأجل معانيها، نتحدث الشجاعة بأعلى صورها، نتحدث عن الكرم الحاتمي فلا يخلو بيته ولا تخبو ناره، واذا ذكرنا التواضع وحب الفقراء فهم جلساءه وندماءه يجد راحته بينهم، له مواقف عظيمة لا تنسى من الذاكرة، مواقف ستخلد ذكره الى أمد بعيد، فهو المقدام اذا اصطفت الصفوف وتطلب من يتصدى للموقف، وقد كان رحمه يترجز ببيت من الشعر لعنترة بن شداد: ورميت مهري في العجاج فخاضه, والنار تقدح من شفار الأنصل، هكذا كان وهكذا كانت مسيرة حياته .
الحديث عن تاريخه يحتاج الى مجلدات فقد كرس حياته لمجابهة الحياة بنشاط منقطع النظير، فاقام الدنيا وأقعدها له معارك عظيمة، وغالبية معاركه لم تكن من أجله بل من أجل الآخرين، فكم من المواقف التي تضعه الأقدار أمام لحظات تتطلب المبادرة بالمال والحال، بل قد تتجاوز القوانين أحيانا فهو يدرك أن القوانين لم تسن إلا من أجل الانسان، وأن الرحمة فوق القانون وعَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ · وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ، فليس لتلك المواقف إلا (كريم الذاريات).
لو استعرضنا تلك المبادرات والمواقف لن ينته هذا السياق فكل من يعرفه لا بد أن يعرف له موقف عظيم يتمثل في الشجاعة والمروءة والكرم وهي صفات جليلة ونبيلة تتجلى بأجل معانيها في هذا الرجل، لأن فطرته فطرت على هذه القيم الجميلة فجمع كل شيء جميل، له فلسفة خاصة وعبقرية فذة في تفاصيل الحياة، رجل لم يهزم قط!! والانتصارات التي حققها ليست من أجل نفسه كلها تحت مظلة المبادئ والمثل العليا التي شعشعت فيه، فهو الركن الركين عندما تزعزع الصفوف، وهو الملاذ الموثوق عندما تتراجع الجموع يلجأ إليه الجميع في المحن، ومع كثرة معاركه هو كما قال عنترة في معلقته: لا يحملُ الحقد من تعلو به الرُّتبُ ولا يَنالُ العلى من طبعهُ الغضبُ، وإن غضب فغضبته من أجل المبدأ والاصلاح والخير ولا تتجاوز وقتها، فلسفته في احتواء المواقف استثنائية، إن استشعر عتب الصديق أو الرفيق عرف كيف يحتضنه ويداريه بل ويكرمه.
في أحد المواقف وأثناء مناسبة تجمع فيها عدد من الأعيان ومسئولي الولاية، حدث موقفا له دلالات ورمزيات خاصة وهو من ضمن كثير من المواقف العديدة التي رفعت رايته، كان أن مر بذلك الجمع مسئول كبير بأحد أجهزة الدولة فعنف رجل الأمن على توقف السير على الطريق العام، فلم يتمالك حمد بن راشد نفسه لينهمر كالسيل الجارف دفاعا عن ذلك الواقف منذ الصباح في تنفيذ واجبه الوطني وقد فلتت منه بعض الكلمات، ليتحول المشهد الى قسم الشرطة ولكون القادم أحد قياداتها بل الرجل الثاني حينها وقد كانت الإدانة واقعة على أبي محمود، لكن مع وصوله للمخفر وهو الخبير بمثل هذه المواقف فاجئ الجميع بالقسم بأغلظ الايمان أن لا يقبل أي حديث قبل أن يستضيف الرجل في منزله مع جميع الأعيان المتواجدين في تلك المناسبة وبعدها يأخذ الرجل حقه كيفما شاء، والرجل يتأمل المشهد باستغراب واعجاب وقد كان ما أراده أبا محمود، هنا تظهر براعته في مثل هذه المواقف، فقد تصدى دفاعا عن الآخر وأطفئ النار عندما صعد أوارها بطريقة جعل منها قصة جميلة يتذكرها رفاقه حتى اليوم، فتحول الطرف الآخر من خصم الى صديق، وقصص البطولة والشهامة لا تعد ولا تحصى في تاريخه فكم من المعارك التي خاضها وقدم فيها نفسه بالمال والحال من أجل انقاذ انسان في ظروف انسانية ملحة، وكم من الاشخاص المحتجزين في ظروف مختلفة خلصهم من تلك الظروف، وفي حالات كثيرة سمع عنها فذهب بنفسه مبادرا وبعضها وضعته الصدفة أمامها فكان سببا في انهاءها، ليفرز تشابكها وإلتواء خيوطها، وأحيانا لم تكن بحاجة الى المال فقط بل كانت تحتاج الى الحكمة والشجاعة والاحتواء والعطاء، فلم يدخل معركة وخرج منها خاسرا رحمه الله، ومعاركه كلها من أجل الانسان فسجل تاريخه بأحرف من نور .
يأتي المساء ليجتمع مع رفاق دربه أمام المسجد الذي بناه – جعله الله في عليين مع النبيين، فيجلس على كثبان الرمال مسامرا مداعبا الضعفاء والفقراء والصغار والكبار بعد عناء يوم مليء بالاحداث ليجد راحته وسعادته وارتياح ضميره، ويقدم الطعام للصغير والكبير ويتبادل أطراف الحديث وأغلب هؤلاء الجلساء من المساكين الذين يفرح بلقاءهم ويحقق مآربهم لا ينتظر جزاء” ولا شكورا، ورفاقه جميعا ما زالوا يتذكرون تلك الليالي والأيام بفيض من الحنين، وربما يمر المساء وقد استشفى بدنه على تلك الرمال الناعمة واستقرت نفسه بالرضى ليجد راحته في تلك الرمال وينام قرير العين، هكذا كان طوال مسيرة حياته، سيذكر سخاءه وصدقاته أبناء قريته والقرى المجاوره عندما يأتي رمضان، سيتذكره القاصي والداني سيذكر مروءته وشهامته ومعاركه الانسانية .
لقد اراد الله أن يكرمه بما أحبه فيه من تلك المعاني والقيم، ومن أحبه الله ابتلاه فكان طريح الفراش طوال ثماني سنوات ليخفف الله برحمته كل الاوزار والذنوب ويرفع درجته في الصالحين ويجعله من ورثة جنة النعيم، ويكتب خاتمة حياة الدنيا في صباح الأحد ٢٣ مايو ٢٠٢١م، نسأل الله أن يجعله في روح وريحان وجنة نعيم وأن يجمعنا به في دار القرار والحمد لله رب العالمين .
خميس بن عبيد القطيطي