تعرض العرب في يونيو عام ١٩٦٧م إلى خسارة كبيرة في إحدى حروب الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وينبغي قراءة التاريخ بواقعه الحقيقي لا من خلال توجُّهات خاصة، وكذلك قراءته من خلال الظروف السياسية والمواقف التي سبقت الحرب والوضع العام للمنطقة منذ عام ١٩٤٨م، مرورا بعام ١٩٥٦م، وصولا إلى حرب ١٩٦٧م. فهناك عدة أسئلة منطقية لا بُدَّ من طرحها في قراءة هذا الحدث التاريخي، وأهمها ما يتعلق بالنظام الدولي والدول الكبرى و”إسرائيل” وظروف المنطقة العربية في ذلك الوقت، إضافة إلى مستوى المواجهة السياسية بين العرب بقيادة جمال عبدالناصر والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، كذلك مستوى وحدة الجبهة العربية قبل الحرب، ومدى استعداد القوات العربية لهذه الحرب؟ والسؤال الأهم: هل الحرب العربية ـ الإسرائيلية كانت لأسباب وقتية؟ أم أنها مخططة قبل ذلك، وقد افتعلت الأسباب التي قادت نحو الحرب وذلك في ظروف لم تكن في صالح العرب؟؟ وأخيرا، كيف استطاع العرب استعادة زمام المبادرة في ظرف زمني وجيز ليسهم ذلك بتحقيق انتصار ١٩٧٣م في معركة العبور وكسر أسطورة الجيش الذي لا يقهر؟
للأسف تمكن الأعداء من تحريف بعض الحقائق وتشويه الذاكرة العربية حول كل ما يتعلق بالعروبة والقومية ومفاهيم المقاومة والتحرير والوحدة والعزة والكرامة والصمود، فكثفت قوى الصهيونية وقوى الاستعمار والرجعية منظوماتها الإعلامية، حتى أن بعض النظم السياسية العربية التي جاءت بعد هذه المرحلة تراجعت عن تلك المفاهيم، فحدثت ردة عربية تفشَّت لاحقا وأدت إلى انقسام وتشرذم الوطن العربي، ما جعل الفرصة سانحة لاجتياح عاصمة عربية أخرى (بيروت) بعد القدس الشريف في عام ١٩٨٢م، وأصبح الوضع العربي يسير من سيء إلى أسوأ.
يعتقد البعض أن حرب ١٩٦٧م حدثت بين العرب و”إسرائيل” ولكن الحقيقة هي أن اختيار موعد الحرب وتحريك الأسباب الظاهرية الكأمنة خلفها كانت مدبرة ومخططة قبل ذلك، وعليه فإن التقرير الوهمي للحشود الإسرائيلية باتجاه سوريا، والاعتداءات المتكررة من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي على القرى الفلسطينية في الضفة أعمال مستفزة لدفع العرب نحو تسخين الجبهة، لذا فقد استثمر العدو إعلان عبدالناصر رفض عبور سفنه لقناة السويس باعتباره إعلان حرب، فكانت هذه كلها إرهاصات ظاهرية دفعت العرب نحو التصعيد، والطلب من القوات الدولية المغادرة، لكن الحقيقة أن تلك الأسباب كانت مفتعلة من قبل القوى الدولية التي كانت تخطط لضربة عسكرية ضد العرب لا يقوم بعدها لهم قائمة في ظل تهديدات عبدالناصر، وتحقيق نجاحات سياسية كبيرة وتنمية إنتاجية وصناعية كبيرة على الساحة المصرية، وظهور مصر كدولة محورية قوية على الساحة الدولية، وهكذا دائما الاستعمار في مخططاته الشيطانية على المنطقة، وهو ما ذكرته الوثائق في أكثر من مصدر، لعلَّ أبرزها كتاب “العملية سيانيد” الذي نشره الكاتب البريطاني “بيتر هونام” في عام ٢٠٠٣م والذي يمكن الاطلاع عليه لمعرفة حجم المخطط الغربي المعدِّ لمصر عبدالناصر، وقصة المدمرة الأميركية “ليبرتي” التي أغرقت في البحر الأبيض المتوسط، وما تم تداوله من مشاركة عدد من الطائرات الأميركية والفرنسية والبريطانية التي انطلقت من قواعد مختلفة في حرب ٦٧م، وبالمقابل لا يمكن أن ننكر مسؤولية القيادة السياسية والعسكرية عن تلك الحرب، وقد أعلن الرئيس جمال عبدالناصر تحمُّل كامل المسؤولية بالفعل، أضف إلى ذلك حالة الانقسام العربية القائمة في ذلك الوقت، ومدى جاهزية الجيوش العربية للحرب، والضربة الاستباقية الخاطفة لتدمير القوة الجوية لمصر بانتهاز العدو الساعات الأولى لبدء الحرب وتدمير كل القواعد العسكرية، فأصبحت الجيوش العربية عارية في الجبهات دون أي غطاء جوي، كل تلك الأسباب التي لا بُدَّ من التطرق إليها في الحديث عن حرب يونيو ٦٧م، وماذا بعد؟؟
نعود إلى السؤال الرئيس وهو: كيف استطاع العرب استعادة زمام المبادرة سريعا بعد الحرب؟؟ لقد كانت القوى الاستعمارية الدولية تسعى لتحقيق ما هو أبعد من الهزيمة العسكرية، فكانت تهدف إلى إحداث حالة انهيار عربي تام على مستوى القيادة والتنمية والوحدة واحتلال أراضٍ عربية جديدة، وإحداث زعزعة ثقة الجماهير بالرئيس جمال عبدالناصر، وكذلك ضرب وحدة الموقف السياسي العربي، وضرب التنمية والنهضة الصناعية التي تشهدها مصر، وتكريس تفوق عسكري لكيان الاحتلال الإسرائيلي من حيث العدَّة والعتاد، فهل رفعت مصر والعرب راية الاستسلام؟! ما حدث بعد الحرب هو العكس تماما، ففي يوم ٩ يونيو أعلن عبدالناصر تحمُّل كامل المسؤولية عن الهزيمة وأعلن تنحيه عن السلطة وتعيين زكريا محيي الدين خلفا له، لكن الجماهير العربية انطلقت في مختلف المدن المصرية ومختلف الساحات العربية متمسكة بقيادة عبدالناصر، وهتفت مطالبة باستمرار عبدالناصر في منصبه كقيادة عربية محورية قادرة على تجاوز الهزيمة والتجديد والاستعداد لمعركة التحرير، ما يمثل أضخم استفتاء في التاريخ، فتجددت الثقة في قيادة عبدالناصر، وفي يوم ١١ يونيو مباشرة بدأ الرئيس عبدالناصر أولى عمليات التجديد في قيادات الجيش المصري واستبدال القيادات القديمة وتحديث الجيش، كما استثمر عبدالناصر علاقاته مع الاتحاد السوفييتي في تسليح الجيش المصري، وحدثت عمليات عسكرية شرق القناة. ففي ٣٠ يونيو جرت معركة رأس العش التي كبدت قوات العدو خسائر كبيرة في الأرواح والدبابات، وبقيت السيطرة المصرية على منطقة رأس العش حتى حرب ٧٣م. وفي الخرطوم اجتمع القادة العرب في أهم وأشهر مؤتمر قمة عربي رافعين اللاءات الثلاث: لا صلح لا تفاوض لا اعتراف، وما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالقوة، واتفق العرب على إعداد وتجهيز القوات المسلحة، وبدأت حرب الاستنزاف التي أرهقت العدو واستمرت حتى أغسطس ١٩٧٠م مما أنهك قدرات القوات العسكرية طوال أكثر من (١٠٠٠) يوم حدث فيها كثير من الضربات المدفعية وعمليات داخل خطوط العدو الخلفية، منها تفجير قطار للجنود الإسرائيليين، ومنها عملية إيلات التي دمرت السفينة الإسرائيلية في ميناء إيلات بواسطة لنشات يقودها مجموعة الصاعقة المصرية، وتشكلت المجموعة ٣٩ بأوامر من الرئيس عبدالناصر التي قادها العميد إبراهيم الرفاعي، وكان ذلك بعد استشهاد الفريق عبدالمنعم رياض وقد نفذت عمليات في عمق أراضي العدو، فاستنجدت “إسرائيل” أكثر من مرة بالولايات المتحدة طالبة السلام مقابل إعادة سيناء كاملة، وهو ما ذكره رئيس حكومة “إسرائيل” شمعون بيريز لاحقا ومؤكدا أن هناك (٥) محاولات جادة لعقد اتفاقية سلام وإيقاف حرب الاستنزاف مع مصر، لكن عبدالناصر كان يرفض تلك المبادرات ويؤكد على أن الجولان والقدس والضفة قبل سيناء، وحدثت محاولات عدَّة للضغط على مصر لدفعها نحو التفاوض والسلام الناقص لكن دون جدوى لأن الجواب كان بتطبيق القرار ٢٤٢ كاملا والعودة إلى حدود ٥ يونيو ١٩٦٧م وإلا فإن ما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالقوة، وهكذا تحشدت الأمة العربية خلف قيادتها لإزالة آثار العدوان فجرت عدَّة اجتماعات بين رؤساء الأركان العرب بهدف تخصيص قوات وأسلحة مساندة للحرب القادمة، وتدفقت مساهمات مالية كبيرة لدعم جبهات القتال وإسناد الحرب لاسترداد الكرامة العربية دلالة على وحدة الموقف العربي، واستعد العرب للحرب فأجريت تجارب عدة لخطة العبور والتي صادق عليها الرئيس عبدالناصر وقد سميت (جرانيت) ثم استبدلت بخطة (المآذن العالية) كل ذلك وضع “إسرائيل” أمام حقيقة واحدة وهي الحرب لا محالة، فهناك أمة عربية واحدة على قلب رجل واحد تريد استرداد كرامتها بقيادتها المحورية المتحدة مع الأنظمة السياسية العربية على موقف واحد، تعززها قدرات عربية متكاملة من تدريب وتسليح وتخطيط وتقدير موقف شامل حدد كل تفاصيل الحرب، كما استثمر الرئيس جمال عبدالناصر (مهلة) مبادرة روجرز واستطاع خلال (٦٠) يوما تحريك حائط صواريخ الدفاع الجوي إلى خط القناة ليسمح بدفاع جوي قريب، وهو ما اعتبرته “إسرائيل” تجاوزا لمبادرة روجرز، لكنها مبادرة وليست معاهدة، ولم تكن أعمالا قتالية بل تحريك قوات في مناطق تحت السيطرة المصرية، والأهم من ذلك أن النمو الاقتصادي المصري في أعوام ٦٨ إلى ٧٠م قفز من ٦% إلى ٨% وارتفعت عجلة الإنتاج، وتقدمت الصناعة وكل جوانب الحياة التنموية والصناعية وعلى مختلف الأصعدة الأخرى في التعليم والصحة والزراعة والخدمات الأساسية. هكذا كانت حركة التاريخ التي سمحت للعرب باستعادة زمام المبادرة سريعا بعد حرب ٦٧م، فجعلت الاحتلال على المحك.
لقد كسب العرب زمام المبادرة فكانوا على استعداد تام لمعركة التحرير القادمة التي كانت بوجود قيادة محورية يتصدرها الزعيم عبدالناصر، واشتعلت حرب الاستنزاف التي أنهكت العدو لأكثر من ١٠٠٠ يوم في المواجهة، وجرى إعداد وتحديث وتسليح وتدريب الجيش بفضل وجود نخبة من القيادات العسكرية، وتم إعداد خطة الحرب القادمة، وأسهم الموقف الجماعي العربي في دعم جبهات القتال، ووحدة الأمة باتجاه معركة التحرير، كذلك استمرت عجلة الاقتصاد والتنمية بشكل أفضل مما كانت عليه قبل الحرب، لذا لم تكن حرب ١٩٦٧م إلا جولة من جولات الصراع مع العدو استطاع العرب بعدها مباشرة استعادة زمام المبادرة بتوظيف كل العناصر المادية والمعنوية ليقود ذلك إلى تحقيق انتصار أكتوبر ١٩٧٣م.
رحم الله أولئك المناضلين الأبطال في تاريخ هذه الأمة الذين أعادوا الكرة على العدو، وسجلوا علامة فارقة في التاريخ العربي الحديث، وما أحوج الأمة العربية اليوم إلى استنهاض الهمم واستعادة وحدة الموقف العربي، وتحقيق مشروع عربي متكامل يعيد العرب كرقم مهم في الدائرة الدولية، والتنسيق مع قوى المقاومة والاستفادة من الموقف اليوم بعد معركة سيف القدس، وضخ جرعات منبهة للوعي القومي العربي ومعرفة من هو الصديق، ومن هو العدو استنادا إلى حركة التاريخ.
خميس بن عبيد القطيطي