قامت ثورة يوليو على ستة مبادئ وهي: القضاء على الإقطاع، والقضاء على الاستعمار، والقضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، وإقامة عدالة اجتماعية، وبناء جيش وطني، وبناء حياة ديمقراطية سليمة..
تحتفل الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج بالذكرى السبعين لثورة الضباط الأحرار التي قامت في ٢٣ يوليو عام ١٩٥٢م، ويأتي الاحتفاء بهذه الذكرى في ظل حالة تشويه واستعداء تعرضت وما زالت تتعرص له هذه الثورة العظيمة ومهندسها جمال عبدالناصر، وللأسف هناك محاولات مستميتة من قبل قوى الاستعمار وأذنابه لطمس كل تجربة وطنية قومية مشرفة في الوطن العربي، وطال هذا التشويه مختلف الأجيال صاحب ذلك حالة من الجدل لم تستند إلى حقائق التاريخ وحقيقة التجربة بل تغلبت عليها النظرة الأيديولوجية المسبقة وارتهنت بالتوجهات والميول الشخصية وطغى نمط المحاكمة التاريخية وتصفية الحسابات بعيدا عن واقع التجربة وذلك في حالة تجاوز لمعايير التقييم، وهي للأسف قراءات غير عادلة لتحليل هذه الثورة، لذا ينبغي التجرد من هذه التصنيفات والتوجهات في تقديم حكم عادل لثورة يوليو، بل يجب تحليل ثورة يوليو كتجربة حاكمة ما لها وما عليها في إطار سياقها الزمني والمكاني والظرفي. لذا سنحاول تسليط الضوء عليها وتقييم نتائجها بإنصاف وأمانة، وسوف نتطرق لأهم الحقائق التاريخية خصوصا الإيجابية والسلبية منها، وأهم منجزاتها وهل حققت مبادئها، ومقارنتها كتجربة تجاوزت الحدود الإقليمية وصولا إلى التأثير العالمي، ثم قياس مستوى الأداء العربي بعدها.
قد لا يتسع السياق للحديث عما سبق ثورة يوليو والأوضاع السائدة في مصر والوطن العربي عموما ولكن سنعرج باختصار على أهم ملامح تلك المرحلة في مصر والوضع الاجتماعي والسياسي والمعيشي وهي المرتكزات الرئيسية للحكم على النظام القائم، وهنا نعود للوراء قليلا عندما وطئ الإنجليز أرض مصر بعد استنجاد الخديوي توفيق بهم للقضاء على ثورة أحمد عرابي ١٨٨١م فبقي الإنجليز في مصر كسلطة احتلال، وكان بإمكانهم عزل الملك كما حدث مع الخديوي عباس حلمي الثاني ١٩١٤م، وتغيير الوزارات عندما حوصر الملك فاروق في قصر عابدين لتعيين مصطفى النحاس رئيسا للوزراء، وكان النظام السائد في مصر نظاما طبقيا شكله القصر وملاك الأراضي والباشوات من رجال المال الذين كانوا لا يتجاوزون ٥.% من شعب مصر، أما بقية فئات الشعب فقد كانت موزعة بين الفلاحين وفئات الشعب العامل في مجتمع يسود الغالبية منه الجهل والفقر والتخلف مع تجاهل السلطة للفئات الكادحة من أبناء الشعب، وبرزت الصراعات في الداخل بين الإخوان المسلمين وحكومة النقراشي باشا والتي انتهت بمقتله، وفي حرب فلسطين التي دخلتها مصر دون استعداد بصفقة فاسدة بينت تردي الحالة العربية وظروف الشقيقة الكبرى الواقعة تحت ظل التاج البريطاني!! فكانت هذه أبرز القضايا التي رسمت صورة النظام القائم، وحدثت أحداث مأساوية في العام الذي سبق الثورة ١٩٥١م مثل حريق القاهرة ومذبحة الإسماعيلية على أيدي قوات الاحتلال الإنجليزي ما أدى إلى التعجيل بقيام الثورة، فكانت مجموعة الضباط الأحرار بقيادة جمال عبدالناصر في سباق مع الزمن لتحديد ساعة الصفر، فقامت بالفعل فجر الأربعاء الساعة الواحدة يوم ٢٣ يوليو ١٩٥٢م حيث تمت السيطرة على قيادة الجيش ومبنى الإذاعة وأذيع بيان الثورة الذي أعلن عن فجر جديد أطل على مصر والوطن العربي عموما وتميزت ثورة يوليو أنها لم يرق فيها قطرة دماء واحدة، كما يجدر الإشارة إلى أن تقارير الإنجليز المرسلة إلى لندن حول ما سمي حركة الجيش لم تمتلك الصورة الكافية لتلك الثورة فنأوا بأنفسهم عن التدخل لحماية القصر باعتبار أن نتائج الثورة لن تصل إلى مستوى التغيير الشامل لبنية النظام، ولن تصل إلى أبعد مما يتصور الإنجليز، ويحسب لمجلس قيادة الثورة نجاحهم بإخفاء نشاطها ويعود ذلك إلى التخطيط السليم والأمانة الوطنية التي حملها هؤلاء الضباط، ومما ساعد في نجاح الثورة وصول البلاد إلى حالة من الغليان الشعبي، لذلك استقبلت أنباء الثورة باحتفاء منقطع النظير .
قامت ثورة يوليو على ستة مبادئ وهي: القضاء على الإقطاع، والقضاء على الاستعمار، والقضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، وإقامة عدالة اجتماعية، وبناء جيش وطني، وبناء حياة ديمقراطية سليمة، هذه المبادئ الوطنية كانت كفيلة للاحتفاء بها واحتضانها من قبل أبناء الشعب المصري الذي مثل غالبيته الساحقة الفلاحون وطبقات الشعب العامل، هذا الشعب الذي عانى البؤس والمرارة بسبب الفقر والمرض والأمية، فكان مؤهلا لاحتضان هذه الثورة. ووفقا للأرقام المسجلة قدرت البطالة في النظام الملكي بنسبة ٤٦% من أبناء الشعب، وكانت الأمراض تعم قرى وأرياف مصر حيث سجلت معدلات مرض البلهارسيا وحدها نسبة ٤٥% من أبناء الشعب المصري، أما الفقر والأمية فقد بلغت ٩٠% وربما تزيد على ذلك نظرا لسيادة النظام الطبقي ومجتمع النصف في المئة التي شكلها رجال المال والإقطاع والباشوات، وسجلت أرقام التلاميذ إجمالا في مختلف المراحل الدراسية قبل الثورة مليونا و٨٥٠ ألفا، لكن هذا الرقم تجاوز (٥) ملايين بفضل مجانية التعليم التي أنجزها نظام الثورة، بينما بلغ نسبة النمو الاقتصادي لاحقا ٧% سنويا، كما بلغ فائض الميزان التجاري عام ١٩٦٩م ٤٦ مليونا رغم الظروف المحيطة بمصر، فقد امتلك مجلس قيادة الثورة الاستقلال الوطني والإرادة وانطلقت التنمية في مختلف الجوانب الوطنية فصدر قانون تحديد الملكية الزراعية وقوانين الإصلاح الزراعي التي وسعت رقعة المساحة الزراعية والإنتاج رافقها ثورة صناعية كبرى، فلم تكن ثورة يوليو ثورة واحدة بل كانت ثورات متعددة الاتجاهات، حيث أفرزت ثورة صناعية وزراعية وتعليمية وعمرانية واجتماعية ونفذت أضخم مشروع هندسي في القرن العشرين وهو السد العالي الذي حمى مصر في فترات الجفاف، كما حققت الثورة نجاحات كبرى بتأميم قناة السويس وتوقيع اتفاقية الجلاء مع الإنجليز، وأسهمت في بناء جيش وطني قوي، واستقبل الأزهر الشريف الآلاف من الطلبة حول العالم شاملا الدراسة والإقامة والمعيشة ومصاريف نثرية، بينما كانت القرآن الكريم تبث في مختلف الأرجاء ووصل القرآن الكريم مسموعا بصوت كبار القراء إلى مختلف الأرجاء، وبالتالي فقد شكلت ثورة يوليو حالة مشرفة تجاوزت الحدود العربية، كما تصدت لقوى الاستعمار حيث ساهمت في دعم حركات التحرر في الوطن العربي، وهنا نستطيع القول إن ثورة ٢٣ يوليو كانت ثورة كبرى غيرت مجرى التاريخ.
قد لا يتسع المقام لذكر ما حققته ثورة يوليو من منجزات، لكن أبرز ما حققته الثورة في النطاق الجغرافي العربي الوحدة مع سوريا، والمساهمة بشكل كبير في دعم ثورات العراق واليمن وليبيا، ومساندة حركات التحرير في الجزائر وتونس والمغرب وغيرها، فكانت القاهرة قبلة للثوار والأحرار حول العالم، بل كانت مقاومة أبناء مصر في وجه الاستعمار قدوة لثوار التحرير في دول أميركا اللاتينية، كما ذكر بن جوريون في رسالته لفرنسا قبل العدوان الثلاثي: “على أصدقائنا المخلصين في باريس أن يقدروا أن عبدالناصر الذي يهددنا في النقب وفي عمق (إسرائيل) هو نفسه الذي يواجههم في الجزائر”. فشاركت فرنسا في حرب السويس أو العدوان الثلاثي بعد تأميم عبدالناصر قناة السويس، وساهم الزعيم عبدالناصر في إطلاق الدعوة لتأسيس حركة عدم الانحياز مع كل من رئيس يوغسلافيا تيتو ورئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو، وشكلت زعامة عبدالناصر شبكة من العلاقات والتحالفات الدولية ساهمت بوقوف عدد من دول العالم مع القضايا العربية وما زالت حتى اليوم تتناغم مع كل قضايانا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
يمكن القول إن المبدأ الأخير من مبادئ ثورة يوليو لم يتم تطبيقه بالشكل الصحيح وهو بناء حياة ديمقراطية سليمة حيث لم تتح الظروف حينها تطبيقه وربما لم تكن البلاد مؤهلة لتطبيق الديمقراطية ولعبت الظروف السائدة دورها أيضا، أما عن أخطاء تلك المرحلة فقد كان انزلاق مصر في حرب ٦٧م دون جاهزية حقيقية من الأخطاء التاريخية الكبرى التي أعلن عبدالناصر مسؤوليته عنها وأعلن تنحيه بل كانت ضربة قوية تعرضت لها مصر والأمة العربية، إلا أن اللافت أنها عجلت بتصحيح المسار والمعالجة وتهيئة مصر بجيشها وشعبها والأمة العربية من خلفها للإعداد لمعركة الكرامة، وكان خروج الجماهير يومي ٩، و١٠ يونيو في مسيرات مليونية مطالبة عبدالناصر بالعودة إلى استكمال قيادة مصر والأمة العربية من خلفها تمثل أعظم استفتاء في التاريخ لم تحدث من قبل أو من بعد، وهنا بدأت بالفعل الاستعدادات لاستعادة الكرامة بحرب الاستنزاف التي تعد الأساس العملياتي الذي بنيت عليه معركة العبور في أكتوبر ١٩٧٣م، كما أعلنت لاءات مؤتمر الخرطوم ووحدة الموقف العربي وتوحيد الجهود العربية في دعم جبهات القتال بوجود القيادة المحورية للرئيس جمال عبدالناصر الذي أخلص لوطنه وأمته ونجح في تلك التجربة الحاكمة وفي قيادة ثورة يوليو المجيدة وهذا النجاح هو أحد أسرار حب الملايين للزعيم الخالد جمال عبدالناصر.
وللتاريخ نسجل أن ما حققته ثورة يوليو من منجزات وترسيخها لقيم الكرامة والعزة في الوطن العربي وتأسيسها لمدرسة سياسية فكرية ما زالت خالدة حتى اليوم، رغم غياب قائدها ومفجرها جمال عبدالناصر إلا أن حضوره دائما يطغى على كل مناسبة عربية رغم مضي أكثر من نصف قرن على رحيله فهو الخالد في ذاكرة الملايين من المحيط إلى الخليج، وهو الحاضر في كل قضايا الأمة وهو الوحيد الذي ترفع صوره عاليا في كل مناسبة عربية، ذلك لأنه أخلص واجتهد وآمن بوطنه وأمته ومقدراتها فشكل علامة فارقة في تاريخ الوطن العربي فقد كان يمثل حجر عثرة أمام المشاريع الاستعمارية بالمنطقة التي لم تستطع اختراق المنطقة العربية طوال عهده بل سادت حالة تحررية عربية شاملة، لذلك بقي الزعيم جمال عبدالناصر خالدا في الذاكرة العربية.
اليوم نتأمل منجزاته ونستعيد ذكرى ثورته ونستأنس بتجربته كتجربة رائدة نادت بقواعدها الثلاث (حرية – اشتراكية – وحدة) وأنتجت مشروعا قابلا للتحقيق متى ما توافرت الظروف الملائمة، وما جعل ثورة يوليو ١٩٥٢م من أعظم الثورات في التاريخ هو عناصر القوة التي تميز أي ثورة وطنية لا سيما وجود القيادة المحورية الجامعة والتفاف الجماهير والشعوب العربية حول قيادتها، وأثبتت تلك الحالة الجماهيرية قوة الرهان عليها في عدة قضايا دولية إحداها حادثة السفينة كليوباترا الشهيرة وكانت الأداة الإعلامية “صوت العرب” هي الذراع الرابط بين القيادة والجماهير، وكذلك اتساع دائرة الوعي القومي، كما كان من أهم عناصر القوة لهذه الثورة اعتمادها على الذات الوطنية، وبالتالي فمتى ما توافرت تلك العناصر والأسباب فأمتنا العربية حية وقابلة للانطلاق مجددا رغم حالة التراجع العربي الراهنة وهيمنة قوى الاستعمار في هذا الظرف الدقيق حيث فقدت الأمة مشروعها وغاب العمل العربي المشترك، وافتقدت القضية الفلسطينية عناصر الدعم، وتم إجهاض القوة العراقية، وحشدت قوى الشر على سوريا وكبلت مصر بالقيود وانكفأت بقية الأقطار العربية على قضايا الداخل، فأصبحت الأمة العربية في وضع حرج تتطلع نحو استعادة الوحدة والتحرر من جديد، لكن الأمة العربية تسجل دائما لمحات فاصلة في التاريخ عندما تتوافر لها أسباب النهوض، وأملنا يتجدد أنها ستعود ذات يوم كأعظم الأمم ستعود بالتوراة والإنجيل والقرآن.
إن الأمة العربية من المحيط إلى الخليج ترنو ببصرها نحو تلك التجربة العظيمة التي حملت من المبادئ ما جعل الملايين من العرب ينادون بها في كل ذكرى وفي كل مناسبة قومية، كما أن اللافت اليوم أن المقاومة تسجل نجاحات كبرى وتعيد تصويب بوصلة أبناء الأمة نحو فلسطين ونحو التحرير، ولكن يبقى الأمل معلقا في بناء المشروع العربي، وهو أمل مشروع لهذه الجغرافيا العربية، ولا بد من إيجاد شراكة عربية لمجابهة مهددات الأمن القومي العربي وإبراز مواقف عربية مشرفة فالأمن القومي العربي واحد لا يتجزأ، وهذه الأمة رغم الغياب ستظل حبلى بملاحم النصر بعون الله .
خميس بن عبيد القطيطي