على مدى عمرها الزمنى الذى لم يتجاوز حالياً أكثر من 73 عاماً كانت الحكومات الائتلافية بين الأحزاب والتكتلات السياسية تكاد تكون العامل المشترك أو العلامة الفاقعة للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ، كان هذا يعنى غياب قوة سياسية قائدة للمشروع الصهيونى فى فلسطين وغياب التوحد حول هذا المشروع وهذا بالطبع نتيجة طبيعية لخصوصية مكونات المجتمع الإسرائيلى الذى هو مجتمع هجرة من عشرات الدول بلغات وثقافات وبالتأكيد أيضاً بأهداف متباينة .
فى مرحلة كانت الغلبة لتيار الوسط واليسار بزعامة “حزب العمل” ورموزه الكبار مثل بن جوريون وأشكول وجولدا مائير وموشيه دايان وغيرهم، وبعد هزيمتهم عام 1973 سقط حكم “حزب العمل” وجاء اليمين ليحكم بزعامة الليكود وقيادة مناحيم بيجن ثم أرئيل شارون ومن بعهدهما بنيامين نتنياهو . رغم ذلك كانت الحكومات الائتلافية الإسرائيلية تتمتع فى معظم الأحيان بأغلبية برلمانية تؤمن لها الاستقرار وتنفيذ سياستها، لكن الحكومة التى عرضت أمس الأول الأحد (13/6/2021) على الكنيست تكاد تكون متفردة فى هشاشتها وضعف تماسكها، ناهيك أنها جاءت لتحكم فى ظروف انقسام سياسى واجتماعى غير مسبوق يراه البعض مقدمة لحرب أهلية واغتيالات سياسية، لكن الأهم أنه يجئ فى ظل ثلاثة تحديات أخرى خارجية أولها أن الشعب الفلسطينى، وهو الطرف الآخر فى معادلة الصراع، آخذ فى التوحد والتماسك وجعل القدس عنواناً لمشواره النضالى القائم على قاعدة أن المقاومة وليست المساومة هى الطريق السليم لاسترداد الحقوق المغتصبة. توحد فلسطينى يجمع أبناء فلسطين داخل الأرض المحتلة عام 1948 (أى داخل إسرائيل) بأبناء فلسطين فى الأرض المحتلة عام 1967 (الضفة الغربية وقطاع غزة) بأبناء فلسطين خارج الوطن الفلسطينى فى كافة مناطق اللجوء الذين يتعيشون ليلاً ونهاراً مع أمل العودة إلى فلسطين. ثانى هذه التحديات أن الشعب العربى عاد مجدداً بعد كبوة استمرت أكثر من عقد من الزمان إلى جعل فلسطين بوصلته، وازدراء تسول الحلول السلمية لا يعرف للسلام أدنى المعانى، وأضحى مستعداً للانخراط مع أشقائه الفلسطينيين فى معادلة الصراع من أجل تحرير الأرض واسترداد الحقوق، بعد أن أخذ يعى، بتتابع الدروس القاسية، أن هذا العدو ليس عدواً للشعب الفلسطينى وحده بل هو عدو للأمة بأكملها.
أما التحدى الثالث الخارجى فهو يتمثل فى عودة الوعى للعقل العالمى وللرأى العام العالمى الذى أضحى متأكداً فى كافة مناطق العالم ، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية وكثير من الدول الأوروبية ناهيك عن دول وشعوب العالم الأخرى والمنظمات الدولية أن كيان الاحتلال الإسرائيلى كيان غاصب ويمارس أسوأ فصول الفصل العنصرى فى العالم، ما أخذ يؤدى، مع كل يوم صمود فلسطينى فى القدس والضفة الغربية وغزة ومع كل تسلط واستبداد إسرائيلى، إلى تآكل المكانة الإسرائيلية وتزايد المطالب الشعبية وبالذات فى أوساط النخب المثقفة من أكاديميين وكتاب وفنانين بضرورة حدوث تغيير فى مواقف الحكومات ضد إسرائيل وبالذات بعد معركة الـ 11 يوماً الأخيرة مع قطاع غزة وبعد صدور تقرير منظمة “هيومان رايتس ووتش” الذى اتهم إسرائيل بارتكاب جرائم ضد الإنسانية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة.
واقع جديد يواجه حكومة ممزقة قبل أن تبدأ لا تحظى بأغلبية تذكر فى الكنيست (61 مقعداً فقط من إجمالى 120مقعداً هى عدد مقاعد الكنيست)، لكن الأسوأ أنها لم تؤسس على برنامج سياسى للحكم رغم أنها تسمى نفسها “معسكر التغيير” وأن كل ما يعنيه التغيير هو إنهاء حكم بنيامين نتنياهو الذى استمر 15 عاماً منها 12 عاماً متصلة منذ عام 2009 ، وأنها تجمع خليطاً متناقضاً من الأحزاب السياسية المتصارعة وليست المتنافسة فقط من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وأنها سوف تحكم وهى تواجه بمعارضة قوية يقودها رجل جريح لا يشغله غير الانتقام مما يعتبره “خيانة” من جانب أهم حلفائه الذى عمل يوماً ما مديراً لمكتبه وتولى أكثر من حقيبة وزارية فى حكوماته المتعاقبة .
نتنياهو فى حاجة إلى صوت واحد إذا استطاع أن يوحد المعارضة كى يعود للحكم فى حال سقوط الحكومة الجديدة، ولن يهدأ له بال حتى ينتقم من غريمه الجديد نفتالى بينيت الذى يراه قد أهدر قيمه اليمينية وتحول للتحالف مع “اليسار” الذى يراه تهديداً لأمن ومستقبل إسرائيل.
مشاهد الانقسام الحاد فى الشارع السياسى الإسرائيلى التى وصلت فى أوساط أحزاب اليمين المتطرف والفاشية إلى التهديد بارتكاب جرائم اغتيال بحق رموز قادة اليمين المنشقين المشاركين فى الحكومة الجديدة، والتى وصلت فى صفوف أنصار الحكومة الجديدة إلى درجة الاحتفال بالطبول مساء السبت الفائت بالقرب من منزل نتنياهو، وظهر أمس الأول الأحد بالقرب من الكنيست أثناء التصويت بالثقة على الحكومة وهم يهتفون “بالسلامة يا بيبى مع السلامة”، فى إشارة إلى اسم التدليل الذى يطلقه أنصار بنيامين نتنياهو عليه.
ما يحدث الآن داخل إسرائيل واقع غير مسبوق يجب الوعى به جيداً من الطرف الآخر فى معادلة الصراع وأعنى الطرف الفلسطينى والعربى الذى عليه أن يعى جيداً المعانى ويستخلص الدروس ليؤسس صياغة جديدة للمواجهة مع هذا الكيان، فهذه أهم لحظة للمواجهة شرط أن تكون واعية بالواقع الإسرائيلى والدولى كما هو، وقبله الواقع الفلسطينى بكل مآسيه وبكل ملاحمه النضالية فى وقت واحد، إلى جانب الوعى بالواقع العربى الذى مازال منقسم على معنى الصراع هل هو صراع فلسطينى – إسرائيلى، أم هو صراع عربى – إسرائيلى، هل هو صراع على حدود مختلف عليها وأشكال دولة فلسطينية مأمولة أم هو صراع على أرض ووطن بين مشروعين متعارضين تماماً خاصة فى ظل الانحدار فى الحكم الإسرائيلى إلى أسوأ الانحدار نحو اليمين الذى ينكر بالمطلق وجود شعب فلسطينى ووجود حقوق فلسطينية ويقاتل من أجل جعل قانون “القومية” عنواناً لمستقبل فرض مشروع “الدولة اليهودية” فى كل فلسطين.
من أدق قراءات واقع إسرائيل المتدهور، وما يمثل علامة فارقة لمستقبل قادم ما تحدث عنه من استشراف لمستقبل الكيان البروفيسور ديفيد باسيج أستاذ الدراسات المستقبلية فى جامعة “بار إيلان” الإسرائيلية الذى توقع أن تشهد بلاده حرباً أهلية ضارية على المدى القريب بين اليهود أنفسهم، ووقوع حوادث عنيفة بين اليهود، ويقتل خلالها العديد من الإسرائيليين خلال الاحتفال بأحد الأعياد اليهودية.
ديفيد باسيج الذى أفصح لهيئة البث العبرية “كان” يوم أمس الأول اعتزامه إصدار كتاب جديد بعنوان “السقوط الخامس” أن إسرائيل سوف تشهد حالة من التفكك والانهيار بعد ثلاثة أجيال على المدى القريب وبعدها تعدد حالات الاغتيال لشخصيات يهودية بارزة، ثم انتفاضة داخلية بين الإسرائيليين أنفسهم، وهو ما يؤدى فى النهاية إلى الهجرة المعاكسة للنخب اليهودية والكفاءات الإسرائيلية إلى الخارج.
هل يمكن أن يكون “السقوط الخامس” عنواناً للمرحلة القادمة من الصراع؟
إجابة السؤال مسئولية فلسطينية- عربية قبل أن تكون إسرائيلية، شرط أن تتضمن الإجابة مشروعاً جديداً للصراع .
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الأهرام 15 / 6 / 2021 م