من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث، نموذج مقاوم بالفكر والقلم والإنسانية، كرّ س حياته لهذه الغاية والدفاع عنها، لتغدو درساً تعلّم منه العالم أجمع، عن موهانداس كرمشاند غاندي، المعروف باسم المهاتما، والتي تعني “الروح العظيمة”، أتحدث.
لقد زار الرحالة العربي ابن بطوطة (1) الهند في القرن الرابع عشر، تحدث عن هذه الرحلة واصفاً البلاد والناس، والعادات والتقاليد والأديان، ما يعكس مدى الارتباط الحضاري التاريخي بين الثقافات حول العالم، لكن أن تذكر الهند في العصر الحديث، يعني أن تذكر المهماتا غاندي مباشرةً، إذ يرتبط تاريخها الحديث بهذا المحامي الذي درس القانون في بريطانيا، ولعب دوراً قيادياً في استقلال الهند التي كانت ترزح في أربعينات القرن الماضي تحت نير الاستعمار الانكليزي، وكانت الهند في ذلك الوقت جزءاً تابعاً للإمبراطورية البريطانية، وهي مجموعة من الدول كانت تحكمها بريطانيا، وكانت هي صاحبة القول الفصل في قوانينها.
من دراسة القانون، ألهم غاندي، حزب المؤتمر بملاحقة طلبه بالاستقلال، برفض التعاون مع الانكليز، وتجنب الشعب طاعتهم، لكن دون عنف، إلا أن العنف وقع، ليتخلى المحامي الشاب الذي تدرب على الدفاع عن حقوق المجتمع في جنوب أفريقيا، عن اللباس الأوروبي، ليرتدي ثوبه الأسطوري (الدوطي) المصنوع من القطن، واعتمد دليله الروحي من الأديان الكبرى في الهند، وهكذا ارتبط غاندي برمز الهند البسيط والقوي، حيث ساند الطبقة الفقيرة وساعد ودافع عن حقوق الحرفيين والفلاحين القرويين، مع أن حركته لم توقف النزاع بين الصراعات الدينية، لتتوج في العام (1930) حركة عصيان غاندي، حيث بدأ في حركة عصيان مدني كبيرة كتلميح رمزي، وخرق القانون الذي تنادي به انكلترا.
ولد موهندس كرمشاند غاندي الملقب بـ”المهاتما” (أي صاحب النفس العظيمة أو القديس) في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 1869 في بور بندر بمقاطعة غوجارات الهندية من عائلة محافظة لها باع طويل في العمل السياسي، حيث شغل جده ومن بعده والده منصب رئيس وزراء إمارة بور بندر، كما كان للعائلة مشاريعها التجارية المشهورة. وقضى طفولة عادية ثم تزوج وهو في الثالثة عشرة من عمره بحسب التقاليد الهندية المحلية ورزق من زواجه هذا بأربعة أولاد، سافر غاندي إلى بريطانيا عام 1888 لدراسة القانون، وفي عام 1891 عاد منها إلى الهند بعد أن حصل على إجازة جامعية تخوله ممارسة مهنة المحاماة، ثم أسس غاندي ما عرف في عالم السياسية بـ”المقاومة السلمية” أو فلسفة اللاعنف (الساتياراها)، وهي مجموعة من المبادئ تقوم على أسس دينية وسياسية واقتصادية في آن واحد ملخصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمحتل عن طريق الوعي الكامل والعميق بالخطر المحدق وتكوين قوة قادرة على مواجهة هذا الخطر باللاعنف أولاً ثم بالعنف إذا لم يوجد خيار آخر.
(لست أقدم تعاليم جديدة للبشرية؛ فالحقيقة واللاعنف قديمان قدم التاريخ)، يُقال إن من رحم المعاناة يولد الألم، لكن في حالة غاندي، من رحم المعاناة ولد الأمل، تتسم كلمات غاندي تلك، المنقوشة على أحد جدران مؤسسة الساتياراها التي أسسها في أحمد آباد، بالدقة والتواضع الشديد، ولا شك أن مبدأي الحقيقة واللاعنف اللذين وهب حياته لهما ليسا بمستحدثين، فلطالما أكدت عليهما جميع التعاليم الأخلاقية والدينية العظيمة، إلا أنه كان يمتلك شيئاً جديداً تماماً ليعلمه للبشرية عن هذين المبدأين، ألا وهو كيفية تطبيقهما على نطاق واسع لممارسة مقاومة سلمية وفعالة أطلق عليها اسم الساتياراها. (2)
لقد ظل غاندي يطور أساليب الساتياراها ويوضحها ويبين هدفها وسماتها حتى وافته المنية، وقد سألته لجنة تحقيق بريطانية في عام ١٩٢٠م عما إذا كان هو مؤسس حركة الساتياراها التي أصبحت معروفة للعالم أجمع بكونها أول حملة عصيان مدني قومية تظهر في التاريخ تحت تلك الراية، وكيف يمكن أن يوضح كنهها. فأجاب بالإيجاب وأكد أنه مؤسس الحركة. أما توضيح كنهها، فيكمن في الغاية التي تنشدها الحركة، وهي “الاستعاضة عن أساليب العنف (وأن تكون) حركة تعتمد كليّاً على الحقيقة، فبعد اختبار غاندي في البداية لمنهج تولستوي فيما يتعلق بالمقاومة السلبية في حملاته في جنوب أفريقيا، توصل إلى أنه غير كاف، ووجد أن المقاومة السلمية ينبغي ألا تنبذ اللجوء للعنف بالكلية فحسب، بل السلبية المجردة أيضاً بحيث تضطلع المقاومة بدور قوي وفعال ومقاتل. ومن خلال تفسير الساتياراها على ذلك النحو، سعى غاندي إلى إحداث تحول اجتماعي وفردي عميق دون وجود مشاعر التعصب والكره وأحداث القتل التي تلازم الكثير من الصراعات العنيفة. وكما أوضح جواهر لال نهرو، نجد أن غاندي أدخل روحاً جديدة تماماً تهدف إلى التغيير على الصعيدين السياسي والاجتماعي. وتلك القوة لم تؤدِ إلى تغيير تاريخ الهند وحدها، بل تغيير حياة جميع من اشتركوا في حملاته، وقد ظلَّ نموذج غاندي وكتاباته ومبدأ المقاومة السلمية الذي دافع عنه بمنزلة “درس يتعلمه العالم أجمع” حتى بعد موته في عام ١٩٤٨م. وقد أثر على حركات التحرير المختلفة، مثل حركة الدفاع عن الحقوق المدنية الأمريكية، وحركة التضامن البولندية، وثورة سلطة الشعب بالفلبين، التي أطاحت بنظام الرئيس ماركوس.
من هذا السرد، نجد أن القانون لعب دوراً مفصلياً ليس على صعيد دارسه فقط، بل على صعيد استقلال الدول، فكما لعب مؤسس دولة باكستان، محمد علي جناح كما شرحنا في مقالٍ سابق، دوراً مفصلياً في استقلال بلاده معتمداً على مبدأ السلام، وفي ذات الفترة كان يلعب المهماتا غاندي ذات الدور لكن كل على طريقته، وخاصة بمسألة السلام بين الأديان، وإنصاف الفقير ومساعدته، فإن وظّف الإنسان مهنة المحاماة في مكانها الصحيح، هي أم المهن التي تنصف المظلوم وتساعد الفقير والمحتاج، وتجعل من صاحبها يفكر بالآخر، وفي أحيانٍ كثيرة يفضله على نفسه، لأنه عاش الظلم ويشعر بحرقة الفقير والمظلوم، فلم تكن الأمم في عهود الاستعمار تعيش الرفاهية، بل مورس عليها أبشع انواع الظلم والقهر والاستبداد بما فيه الاستغلال وسرقة ثروات الشعوب، لقد أبرز غاندي ظلم الاستعمار للرأي العام، وكانت حركته التي أسسها، بمثابة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين.
وضح غاندي أن اللاعنف لا يعتبر عجزاً أو ضعفاً، ذلك لأن “الامتناع عن المعاقبة لا يعتبر غفراناً إلا عندما تكون القدرة على المعاقبة قائمة فعلياً”، وهي لا تعني كذلك عدم اللجوء إلى العنف مطلقاً “إنني قد ألجأ إلى العنف ألف مرة إذا كان البديل إخصاء عرق بشري بأكمله”. فالهدف من سياسة اللاعنف في رأي غاندي هي إبراز ظلم المحتل من جهة وتأليب الرأي العام على هذا الظلم من جهة ثانية تمهيداً للقضاء عليه كلية أو على الأقل حصره والحيلولة دون تفشيه، وتتخذ سياسة اللاعنف عدة أساليب لتحقيق أغراضها منها الصيام والمقاطعة والاعتصام والعصيان المدني والقبول بالسجن وعدم الخوف من أن تقود هذه الأساليب حتى النهاية إلى الموت، يشترط غاندي لنجاح هذه السياسة تمتع الخصم ببقية من ضمير وحرية تمكنه في النهاية من فتح حوار موضوعي مع الطرف الآخر.(3)
إن تجارب غاندي الشهيرة في المجال الجماعي والتربوي والسياسي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمساعيه للتغير على المستوى الشخصي. وبغض النظر عن الاختلاف بين تجاربه في تلك المجالات المتعددة، يرى غاندي أنه لا يمكن الفصل بينها لأنها جميعاً في الأصل تجارب أخلاقية. وأنها اندمجت جميعاً تحت مظلة نمط من أنماط البحث والتجريب أكثر شمولاً: وهو البحث المستمر، وفقاً لنشأته وخبراته، في المبادئ التي يمكن أن يتبناها أو ينبذها على المستوى الأخلاقي، مثل المعاملة الظالمة للمنبوذين في الهند. وفي الوقت ذاته، كان دائماً ما يفكر في المبادئ التي يمكن أن يتقبلها من تعاليم الديانات الأخرى، مثل المسيحية والإسلام، والمبادئ التي يجب عليه التخلي عنها. وكانت كتابة “السيرة الذاتية” التي كتبها غاندي في حد ذاتها تجربة تضمنت جميع التجارب الأخرى الخالدة في الذاكرة وأعادت تدبرها، وعند النظر إلى حياة غاندي وأهميتها، ونحن في القرن الحادي والعشرين وبعد مرور ما يقرب من خمسة عقود على وفاته؛ نجد أنه ينبغي علينا أن نتبنى نفس الاتجاه إلى التجريب، واختبار أي التجارب يمكن أن تتجاوز الفحص الدقيق من عدمه، وأيها يمكن أن تخضع للتعديل لتتناسب مع الظروف المعاصرة. فيمكننا أن ننتقي من آرائه كما انتقى هو من آراء الآخرين. فعلى سبيل المثال، علينا أن نؤكد، أسوة به، على مبدأي الحقيقة واللاعنف المتلازمين إذا ما أخذنا منهجه في فض النزاعات والتغير الاجتماعي على محمل الجد. وذلك لا يعني أن علينا أن نتفق معه بيقين تام فيما يتعلق بآرائه الذاتية، والتي تتصف في بعض الأحيان بالمغالاة، حول الغذاء أو الحياة الجنسية أو العادات الصحية. وليس لزاماً علينا أن نلتزم بالحقائق الاقتصادية التي توصل إليها، والتي تم تبسيطها وصياغتها على نحو رديء حتى في عهده لأنها لا تتماشى مع وقتنا. ويحق لنا ألا نأخذ بمعارضته لجميع وسائل تنظيم الأسرة وإن قبل منها العزوف عن ممارسة الجنس، وذلك ما كان هو نفسه سيفعله إذا ما عاش ليشاهد النمو السكاني غير المسبوق الذي تشهده الهند والعالم بأسره.
إن الحقيقة واللاعنف اللذين سعى غاندي إلى تعزيزهما يتمثلان ببساطة في إيمانه القوي بأن البشر جميعاً يمكنهم تخطيط حياتهم وتوجيهها وفقا للغايات الأسمى، بغض النظر عن مدى شعورهم بالضآلة أو الضعف. لقد عاش غاندي منذ طفولته مقتنعاً بأن قراراته المتعلقة بأسلوب حياته ذاتُ أهمية، وأنه يمتلك القدرة على جعلها تتوافق مع ما يراه صواباً، كذلك يعنينا الآن أكثر من أي وقت مضى؛ نظراً لما نشهده من وحشية تُرتكب ضد المدنيين باسم العرقية والدين كما حدث في يوغسلافيا السابقة وفي العديد من دول العالم، ولا سيما الهند، مسقط رأس غاندي. إن غاندي يقدم نموذجاً لشخص متعمق في ميراثه الثقافي والديني، ولا يزال معارضاً تماماً لجميع صور التعصب الاجتماعي والعرقي والديني. وقد أصر على أن وسائل الشر لا تفسد الغايات التي تهدف إلى تحقيقها وتحط من قيمتها فحسب، بل تحط من قدر الأشخاص الذين يلجؤون إليها. إن التغلب على الرغبة الملحة في اللجوء لمثل تلك الوسائل يبلغ ذروة الصعوبة عندما يروم الإنسان إصلاح ما أفسده الظلم. ويرجع سبب “انتشار سم الكراهية في العالم” إلى ندرة الالتزام بالقاعدة السلوكية “ابغض الخطيئة وليس مقترفها”، كما أن غاندي أصر على ارتباط التغير الشخصي بالقدرة على إحداث تغير اجتماعي. ويحذر أيضاً من عدم جدوى السعي إلى تطبيق مبادئ مثل اللاعنف والعدالة في القضايا العامة ما دام الفرد يتجاهل تطبيقها في حياته الشخصية. ومن الحكمة أن يبدأ المرء تطبيقها تدريجيّاً وبقدر صغير. يستطيع كل إنسان إذا أراد أن يخلق “مناطق سلمية” في حياته، حيث يبذل قصارى جهده بغية التخلص من العنف والزيف. وبذلك، سيمهد الفرد الطريق إلى “عالم الغد” الذي سيكون بلا عنف.
لا شك أن أفكار غاندي تلك، خلاصة تجارب كثيرة وقراءات أكثر، لقد تأثر غاندي بعدد من المؤلفات كان لها دور كبير في بلورة فلسفته ومواقفه السياسية منها “نشيد الطوباوي” وهي عبارة عن ملحمة شعرية هندوسية كتبت في القرن الثالث قبل الميلاد واعتبرها غاندي بمثابة قاموسه الروحي ومرجعاً أساسياً يستلهم منه أفكاره. إضافة إلى “موعظة الجبل” في الإنجيل، وكتاب “حتى الرجل الأخير” للفيلسوف الإنجليزي جون راسكين الذي مجد فيه الروح الجماعية والعمل بكافة أشكاله، وكتاب الأديب الروسي تولستوي “الخلاص في أنفسكم” الذي زاده قناعة بمحاربة المبشرين المسيحيين، وأخيراً كتاب الشاعر الأميركي هنري ديفيد تورو “العصيان المدني”. ويبدو كذلك تأثر غاندي بالبراهمانية التي هي عبارة عن ممارسة يومية ودائمة تهدف إلى جعل الإنسان يتحكم بكل أهوائه وحواسه بواسطة الزهد والتنسك وعن طريق الطعام واللباس والصيام والطهارة والصلاة والخشوع والتزام الصمت يوم الاثنين من كل أسبوع. وعبر هذه الممارسة يتوصل الإنسان إلى تحرير ذاته قبل أن يستحق تحرير الآخرين.
أخيراً، بانتهاء عام 1944 وبداية عام 1945 اقتربت الهند من الاستقلال وتزايدت المخاوف من الدعوات الانفصالية الهادفة إلى تقسيمها إلى دولتين بين المسلمين والهندوس، وحاول غاندي إقناع محمد علي جناح الذي كان على رأس الداعين إلى هذا الانفصال بالعدول عن توجهاته لكنه فشل، وتم ذلك بالفعل في 16 أغسطس/آب 1947، وما إن أعلن تقسيم الهند حتى سادت الاضطرابات الدينية عموم الهند وبلغت من العنف حدا تجاوز كل التوقعات، كما زاد من ألمه تصاعد حدة التوتر بين الهند وباكستان بشأن كشمير وسقوط العديد من القتلى في الاشتباكات المسلحة التي نشبت بينهما عام 1947/1948وأخذ يدعو إلى إعادة الوحدة الوطنية بين الهنود والمسلمين طالبا بشكل خاص من الأكثرية الهندوسية احترام حقوق الأقلية المسلمة.
لم ترق دعوات غاندي للأغلبية الهندوسية باحترام حقوق الأقلية المسلمة، واعتبرتها بعض الفئات الهندوسية المتعصبة خيانة عظمى فقررت التخلص منه، وبالفعل في 30 يناير/كانون الثاني 1948 أطلق أحد الهندوس المتعصبين ثلاث رصاصات قاتلة سقط على أثرها المهاتما غاندي صريعاً عن عمر يناهز 79 عاماً.
*كاتب ومفكر – الكويت.
- ابن بطوطة: حمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة، حالة ومؤرخ وقاض، (703 – 779 م).
- المهاتما غاندي.. داعية اللاعنف – الجزيرة.
- غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة – مؤسسة هنداوي.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان