لا شك بأن علم الجرح والتعديل يحظى باهتمام الباحثين في العالم الإسلامي، وفي وقتِنا هذا، بعد جمود ممنهج إن جاز التعبير، من خلال الهجمة الشرسة على القرآن الكريم والدين الإسلامي، إلا أن نشاط حركة تحقيق المخطوطات في مكتبات العالمين الإسلامي والغربي، في ظل وجود محققين أجلّاء حموا تراثنا من الضياع وبالأخص من التحريف، خاصة الكتب المصنّفة في طبقات رواة الحديث ونقلته بكل أمانة وتجرد والأهم بطرق أكاديمية، فليس من باب الترف اختياري لشخصيات إسلامية من أعلام الحديث والقرآن، بل من باب التجديد والتعريف بعظماء الأمة، ومن باب صد كل الحركات التي تحاول النيل من هيبة ديننا وأعلامنا لتمرير المشاريع الاستعمارية، وتمرير مشروع صفقة القرن التي من أهدافها (تمييع الدين وتحويل الإسلام إلى إسلام فلكلوري وانتزاع الإسلام من المسلمين وكذلك انتزاع موروثهم الإسلامي).
واستكمالاً لسيَر عظماء أمتنا العربية والإسلامية، أعلامنا البارزين الخالدين بعلمهم وتراثهم العريق، اخترت الإمام ومحدث البصرة الكبير، يحيى بن سعيد القطان، الذي أثنى العلماء عليه، ثناءً كبيراً، في علمه ودينه وحسن ضبطه وعلمه بالرجال على وجه الخصوص، فلقد زخر القرن الثَّاني الهجري بحركة نقدية نشِطة في دائرتي دراية الحديث وروايته، وكان الإمام يحيى ين سعيد القطّان من رواد هذه الحركة وجهابذتها، الإمام يحيى بن سعيد القطان، هو الحافظ، إمام النقَّاد، أبو سعيد، يحيى بن سعيد بن فرّوخ، التميمي (مولاهم)، البصري، القطّان، الأحول، (120 هـ – 198هـ)، عُني بالحديث أشدّ عناية، فلازم الإمام شُعبة بن الحجّاج عشرين سنة، يسمع حديثه ويدوّنه في أصوله، دون أن يزيد على سماع أكثر من ثلاثة عشر حديثاً في كل يوم، واستفاد من علمه في صيرفة الرجال، وقد رحل في طلب الحديث، وانتهى إليه الحفظ والإتقان، ما جعله بارعاً في علمي علل الحديث ونقد الرِّجال.
قبل الخوض في رحاب رحلة هذا المحدث الكبير، لفتني أمر غاية في الأهمية، وهنا أشدد على نقطة غاية في الأهمية، خاصة فيما يتعلق بالحركات الإسلامية التي اتبعت خطاً سياسياً، قديماً كان أم جديداً، هذا شأنها، ولها أتباعها في كل مكان، وسواء اتفقنا أم اختلفنا معها، لكل حركة أو حتى مدرسة، عالم دين يسيرون على تعاليمه، لكن أن يخرج اليوم من ينقد أعلام الأمة، بعد قرون هذا أمر نضع له مئات علامات الاستفهام، من يريد تشويه صورة هؤلاء؟ وما المخطط الجديد من وراء ذلك؟ وهل للتطبيع مع الكيان الصهيوني صلة؟ كله مرتبط وهنا يأتي دور المثقفين ورجالات الدين في كل مكان من العالمين العربي والإسلامي، إن لم يتم صد هذه الهجمة، سيدمرون هذا الدين وأعلامه، إن لم نصد الهجمة، سيعلمون على تحريف التاريخ وما خطه علماء الأمة القدماء، عبر هذا الاستشراق الجديد الذي لا يخدم سوى المشاريع الاستعمارية.
إن تحدثنا عن يحيى بن سعيد القطان اليوم، نجد من أجيال اليوم من لا يفرق بين كبار الأئمة، فلا يعرف يحيى بن سعيد القطان من يحيى بن سعيد الأنصاري، او يحيى بن معين، فلا بد من التعريف بكل إمام وبكل الإنجازات التي قدمها، منعاً للخلط ولتوعية أبناء هذه الأمة من الجهل والضياع، فإن وردت عبارة منقولة عن يحيى، نُلحق إما بالأول أو بالثاني أو بالثالث، دون النظر إلى من نُقلت عنه الرواية أو طبقته! وهنا مكمن الخطورة.
إن يحيى بن سعيد القطان هو إمام كبير ومحدث قدير وعمدة هذا الفن إن جاز التعبير، حيث برز نجمه في علم الجرح والتعديل، فكان إمامه بلا منازع، واعترف له بذلك علماء عصره والعلماء المتأخرين، قال الذهبي عنه: (وعني بهذا الشأن أتم عناية، ورحل فيه وساد الأقران، وانتهى إليه الحفظ، وتكلم في العلل والرجال، وتخرج به الحفّاظ كمسدد، وعلي والفلاس)، وكان من أكثر من وثق رواتهم المحدث القطان، من مدينته البصرة، مثل خالد بن رباح، ومن الكوفة مثل الزبير، ومن مكة المكرمة مثل ابن أبي رواد.
بالتالي إن للإمام القطان مكانة كبيرة في رواية الحديث ونقد الرجال، وهما أمران من أفضل ما تُخدم بهما السنة النبوية الشريفة، فكان الإمام القطان من أبرز أتباع التابعين الذين سلكوا هذا الخط، فعُرف عنه شدته في نقد الرجال لسبب واضح وهو الحفاظ على السنة النبوية المطهرة.
من خلال المصادر المتوفرة حول نهجه العلمي اهتمت بأقواله في الرجال وفي علل الحديث، وهذا يعني أن شهرته فيهما أكثر من غيرهما، وهذا طبيعي نظراً للنشأة التي نشأها في مدينة البصرة، أشهر المدن الإسلامية بعلم اللغة ونحوها وصرفها وأدبها، وهذا ما يفسر اهتمام الإمام القطان بعلم الحديث حيث كان يقضب أغلب وقته في تعلمه متنقلاً من شيخٍ إلى آخر، ومنذ نعومة أظافره كما يُقال، كان يميز بين الحديث والمرسل والمتصل، ومن اهتمامه بالحديث يشترط في طالبه أربع خصال، ينبغي أن يكون جيد الأخذ، وأن يفهم كل ما يقال له، وأن يبصر الرجال ثم يتعاهد ذلك منه، حيث ألزم الإمام القطان نفسه بتلك الشروط، وكان من أهم ما يميزه إلى جانب ورعه وتقاه، حيث كان يتمتع بذاكرة قوية، فكان يسمع الحديث فيحفظه، حتى يصل منزله فيدونه من ذاكرته، زد على ذلك أنه كان جريئاً في الحق، فكان إذا أخطأ أحد مشايخه في سند حديث ما على سبيل المثال، سارع بالرد عليه.
إلا أن الميزة المهمة في موضوعنا هذا هي نشره للحديث بين أهله، خوفاً منه أن يؤخذ عنه من هو ليس أهلاً له، وهذا الحرص من الإمام القطان ما هو إلا اتباع للسلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تلاهم الذين حرصوا على مراعاة أصول الرواة ونشر الحديث بين أهله وطلابه ورفعه عن السفهاء وأهل الغايات والأهواء، فكانوا يحاولون جهدهم ألا يحضر مجالسهم إلا طلاب العلم.
رغم الاستفاضة بالشرح، ورغم المرور على أعرق المدن الإسلامية البصرة، يجب التوسع بهذا الجانب خاصة من الناحية الفكرية التي كانت تعيشها المدينة آنذاك، الإمام كان معروفاً بالبصري لأنه عاش في البصرة التي كانت زاخرة بالعلماء المسلمين وكانت مدينة أهل الحديث بلا منازع، فكانت مقصد العلماء، والإمام البخاري في بداية رحلاته خص البصرة كأولى محطاته، ومن منا لا يعلم أهمية المسجد الكبير في البصرة الذي كان بمثابة جامعة كبرى كما الأزهر الشريف اليوم، وكان محط أنظار كل العلماء من سفيان الثوري إلى سفيان بن عنينة والحسن البصري وابن سيرين وعلماء اللغة والنحو والصرف والأدب وعلماء الحديث والمعتزلة والأشاعرة كلهم نستطيع القول تخرجوا من البصرة، وعليه كانت هذه المدينة من أهم محطات علم الحديث ويكاد لا يخلو عالم من تلقي العلوم فيها، خصوصاً وأنه بعد الفتح الإسلامي في زمن الخليفة عمر بن الخطاب وفتح العراق، أغلب الصحابة جابوا الأمصار كلها، ومنها البصرة وكان آخر من توفاهم الله أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بالتالي إن البصرة كانت مدينة علمية بامتياز، فكانت مدرسة أهل الحديث من أهم المدارس آنذاك، ومنها انطلق عصر تدوين الحديث فدونت بعض الكتب والموطآت مثل موطأ مالك بن أنس وحتى استقرار عصر التدوين، ففي ظل هذه الحركة العلمية الرائدة، نشأ الإمام يحيى بن سعيد القطان.
هذه النشأة مكنت الإمام القطان من أن يتبوأ مقعداً عالياً بين أقرانه من العلماء في عصره، فكان من العلماء الذين عرف الناس قدره، لا بالجاه والسلطان بل بالعلم، قال فيه الإمام أحمد بن حنبل: (وما رأينا مثل يحيى، قال عبد الله: وكان أبي يعظم أمره جداً في العلم والحديث)، وقال الخطيب البغدادي عنه: (كان إماماً من أئمة المسلمين وعلماً من أعلام الدين، مجمعاً على إمامته، بحيث يستغني عن تزكيته مع الاتقان والحفظ، والمعرفة والضبط والورع والزهد)، فقد أخذ القطان الحديث عن سفيان الثوري وعن مالك بن أنس، وسفيان بن عينية وبن المديني، وعبد الرحمن بن مهدي وعمرو بن علي، وغيرهم، بالتالي الإمام القطان كان من أئمة الجرح والتعديل لأن الله تبارك وتعالى وهبه ملكة نقدية جعلته يميز الحديث الصحيح من غيره، وبصيرة جعلته يعرف الثقات من غيرهم، فكان يرى أن الرواية بالمعنى جائزة بشرط أن يكون مستعملها من أهل العلم، ويرى رواية المبتدع جائزة إذا كان ثابتاً صدوقاً ضابطاً لما يرويه، فكان بحق مدرسة متكاملة علماً لا لبس فيه.
من هنا، عندما نكون في حضرة العلماء، لا بد أن نرفع رأسنا ونفتخر بموروثنا الإسلامي، ونفتخر بتاريخنا العريق الذين يحاولون اليوم طمسه بكل ما لديهم من قوة، سلاحنا الوحيد بالعودة إلى الثقافة القرآنية، بالعودة إلى سير أعلامنا الأكارم من العلماء، ليس ترفاً بل تقديراً وامتناناً لما تركوه لنا، لأن علمهم والتتلمذ على مناهجهم هي سلاح بوجه أعداء الأمة الإسلامية اليوم، أدواتنا متطورة لكن تحتاج الاستخدام الصحيح، وتحتاج تضافر المؤسسات الدينية وعودة دورها الريادي في كل البلاد الإسلامية، إن تحقق ذلك لن نجد أحد يستطيع التطاول على ديننا الإسلامي أو على اي رمز من رموز الأمة، الإمام سعيد بن يحيى القطان نموذج من مئات العلماء الذي أرسوا قواعد علوم القرآن والحديث والعلوم الشرعية الإسلامية، لنسير على خطاهم حتى ترتقي الأمة.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان