في العام 1994م، وفي خطاب شعبي، قال الزعيم والثائر الأممي معمر القذافي مُخاطبًا الليبيين: “قد يأتيكم يوم يُهاجمكم فيه الحلف الأطلسي ليحتلكم وينهب ثرواتكم، تأكدوا بأن هذا اليوم سيأتي في وقت لا يكون فيه حسني مبارك رئيسًا لمصر، ولا زين العابدين بن علي رئيسًا لتونس”!
هذه مجرد نبوءة سياسية واحدة من نبوءات معمر القذافي الكثيرة لمستقبل بلده ليبيا وأمته العربية وقارة إفريقيا والعالم، وهي تحتاج إلى تجميع واسع وتحليل عميق اليوم لصدقها وتحققها على أرض الواقع.. سقطت ليبيا بيد الناتو عام 2011م، بعد عزل الرئيسيْن مبارك وبن علي، وبمباركة من الجامعة العربية في وضح النهار.
من لا يزالون يعيشون على وهم غياب المؤامرة، وأنَّ العرب أمة تحترق ذاتيًّا، وبمجرد تعرضها للهواء الطلق، نقول ونكرر بأن ما حدث لتونس اليوم بانتخاب الإخونجي راشد الغنوشي كبير حركة النهضة رئيسًا للبرلمان التونسي وبصورة “ديمقراطية” يعود بنا إلى المربع الأول للمؤامرة ومقولة القذافي وسايكس بيكو مجددًا.
قد يعجب البعض من كمية “التشاؤم” وحجم “الخلط” في الأزمنة والأمثلة، والتي قد تبدو متنافرة ومتباعدة في الزمان والمكان والتأثير، لكنها في حقيقتها منظومة متكاملة من الرؤى وحلقات في سلسلة متصلة ترمي لتحقيق ذات الهدف وذات التأثير والنتائج لمن يُحسن قراءة التاريخ واستخلاص العبر وقراءة ما وراء الخبر.
كُنت أراقب عن كثب الحراك السياسي في تونس خطوة بخطوة منذ العام 2011م، وما عُرفت حينها بثورة الياسمين، رغم رفض بعض الأشقاء التوانسة لهذا المسمى؛ لما يحمله من رقة ولين وإصرارهم على عنفية ثورتهم، وكتبت حينها مقالًا بعنوان “اللحظة التاريخية التي أضاعها التونسيون”؛ بينت فيه أهمية تمسكهم بالرئيس الزين ووقوفهم معه بعد خطابه الثاني ووعوده الشهيرة بالإصلاح (لاحقًا بأنه مدعوم بمليارات الدولارات للإصلاح من قبل الزعيم معمر القذافي) ليس حبًّا في بن علي، بل تحاشيًا للمجهول القادم، وذكَّرت أشقائي بتونس في المقال بأنهم أبناء مدرسة الزعيم المناضل الحبيب بورقيبة، والتي رفعت شعار “خذ وطالب” في مواجهة صلف الاستعمار وقوته. فالزمن أعاد نفسه في العام 2011م، لكنه بطريقة هزلية وأقرب إلى الكوميديا السوداء؛ حيث صدقت الشعوب المغفلة بأن الثورات يفجرها متسكع مشرد من أمثال البوعزيزي ويرعاها جلادون وجلاوزة وأفاقون من أمثال كاميرون وساركوزي والصهيوني برنارد ليفي، وتروج لها قنوات ووسائل اعلام لأنظمة ظلامية لا تفرق بين الناقة والجمل!
حين أعود للمشهد التونسي اليوم أقول بأنني كنت أتوقع ردَّ فعل غربيًّا عنيفًا ومفاجئًا، لكنه قد يكون متأخرًا لأنني ومن واقع قراءاتي أعلم بأن الغرب ورغم جبروته الظاهر، إلا أنه أجبن من فراشة في مواجهة طوفان الشعوب وإراداتهم الحرة ولكنه يتحين الفرصة للعودة والانقضاض غيلة وغدرًا على تلك الإرادات، والتموضع مجددًا عبر العملاء والطابور الخامس وبطرق تبدو شبه طبيعية. فتارة كُنت أخشى من عملية اغتيال للمرشح ثم الرئيس قيس بن سعيد، بعد وضوح المؤشرات نحو فوزه بالرئاسة، وتارة أقول سيعرضون تونس لحصار اقتصادي خانق يفضي لتنحي الرئيس وقيام انتخابات جديدة، وتارة أخمِّن بأن خيارهم سيكون تفجير الوضع الداخلي عبر ميليشيات النهضة، وبالتعاون مع ميليشيات إخوان ليبيا لنشر الفوضى وإجهاد الشعب والدولة، وصولًا لإنتاج دولة تونسية على مقاس الغرب وهواه. ولكن اليوم وبفوز الغنوشي برئاسة مجلس النواب التونسي بقوته الرقابية والتشريعية في دولة نصفها رئاسي ونصفها الآخر برلماني، فإن الغرب سيمد قدميه بكل ارتياح؛ فقد استأجر الغنوشي القوي الأمين على مصالحه في تونس، وبهذا سيكون إخوان تونس قُطبَ الرحى للغرب والعين الساهرة واليد الضاربة له في كل من ليبيا والجزائر والسودان كذلك، وهنا ستدخل تونس في صراع سياسي خفي يتراوح ما بين النعومة الممزوجة بالعنف أحيانًا ما بين الرئاسة والبرلمان والكتل السياسية وتلحق به البلديات لاستعادة تونس من خطف الإخوان لها، وسيترتب على ذلك سنون عجاف قادمة لا يعلم عواقبها إلا الله، وقد يتطور ذلك الصراع ويظهر للعلن على شكل حرب أهلية بين تونس والإخوان، وستنتصر تونس بلا شك في النهاية، ولكن لن يترسخ نصرها إلا بتعميده بأنهر من الدماء وبقدر تجلِّي مشهدي مستقبل ونهج كل من ليبيا والجزائر. فالغرب يعلم أنَّ الإخوان لا يشكلون خطرًا عليه؛ كونهم غير معنيين بأسلمة الدولة، بل بأخونتها رغم الشعارات البراقة التي يرفعونها للإسلام، ولكنه يخشى القوميين لأنهم ومن واقع التجربة سيعرِّبون الدولة الوطنية؛ فالعروبة بطبيعة الحال لا يُمكن أن تلتقي مع التغريب على الإطلاق. فالإخوان لا يملكون مشروعًا بل أدبيات يتغنون بها وشعارات يرفعونها، ورصيد قيمي دعوي/ خيري/ تطوعي، بعكس التيار القومي الذي يمتلك مشروعا ورؤية للدولة الوطنية والأمة.
الحقيقة التي لا تقبل الجدل بين عاقلين ولا تقبل القسمة على اثنين أنَّ حركة الإخوان هي حركة من صناعة أروقة المخابرات البريطانية بامتياز (أي العسكر) والهدف منها “كضد نوعي” هي محاربة العروبة ومشتقاتها أولًا، وأي مشروع نهضة أو تضامن للأمة، تحت عنوان هُلامي وبراق وسرابي معًا للإخوان؛ وهو: الوحدة الإسلامية وإقامة الخلافة، وعبر إثارة مطالب عاطفية لا يفهمها ولا يطبقها حتى الإخوان أنفسهم، وهي الديمقراطية والعدالة والتداول السلمي للسلطة للنيل من هيبة الدولة وأطيافها، والنيل من مناعة الدولة الوطنية عبر مهاجمة أهم أدواتها وأقواها وهو الجيش، وشيطنة القدوات ورموز النضال والتحرر الوطني!
فتاريخ نشأة الحركة عام 1928 ما هو في الحقيقة سوى توطئة تاريخية واستشراف لما هو قادم، والقادم الأهم حينها هو قيام الثورة العربية الكبرى ضد الاحتلال العثماني والاستعمار الغربي لاحقًا أي توقع واستباق قيام مد قومي عربي يهدد مخططهم وتوطئة أم الكبائر إنجلترا لقيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين العربية، واستباق قيام الدولة الوطنية عبر رموز تحررية وقامات نضال وتأسيس جيوش عربية قوية ومهنية وذات عقيدة وطنية وبعد قومي عروبي، وخاصة في الأقطار العربية الحيوية والمحورية كمصر وسوريا والعراق. لهذا؛ نجد تنمُّر الإخوان ضد العروبة ومشتقاتها من مشروع ورموز وثقافة بالشيطنة والاستخفاف والاحتقار، وهجومهم الصارخ على الزعيم الرمز جمال عبدالناصر لما يعنيه للأمة العربية من رصيد كبرياء وشرف ونضال وما يعنيه للخصوم من نكد وغصة، وفي المقابل لا يأتون على الملك فاروق بكلمة سوء رغم قتله لزعيمهم ومؤسس حركتهم حسن البنا، بل يمجدون أيامه ويتباكون عليها، رغم أنه كان يُدار من السفارة البريطانية بالقاهرة، ولم يتحقق استقلال مصر الحقيقي إلا باتفاقية الجلاء في عهد الزعيم جمال عام 1954م، والتي أخرجت أم الكبائر إنجلترا صاغرة و70 ألفا من جنودها كانوا يحمون مصالحها، ويذلون مصر والمصريين من خلال الملك فاروق وحاشيته، ويستبيحون ثروات مصر ومقدراتها وأهمها دخل قناة السويس.
قبل أشهر قليلة فقط من اليوم، اعترف راشد الغنوشي بعظمة لسانه بأنَّ الإخوان لا يمتلكون مشروعا للدولة، وأنهم يجهلون الكثير من دهاليز السياسة ومواطن الدولة العميقة في أوطانهم؛ لهذا فشلوا في عدد من التجارب في الحكم.
ما قاله الغنوشي ليس ابتكارًا منه أو اختراعًا أو نظرية سياسية، بل واقع وحصاد مُر لتجارب الإخوان في الحكم في كل من السودان منذ العام 1989م وصولًا إلى تونس وليبيا ومصر بعد ربيع برنارد ليفي عام 2011م.
اليوم.. يعود “محفل” الإخوان مجددًا عبر بوابة تونس بعد أن لفظ أنفاسه في مصر وسوريا والسودان، وعبر أهم مؤسسة سياسية بها وهي البرلمان، بعد أن رفضهم الشعب التونسي ولفظهم عبر الانتخابات الرئاسية، واختار من يُشبه تونس في هويتها وبساطتها وتبسطها وفطرتها الأولى وهو الرئيس قيس بن سعيد.
لم يستوعب إخوان تونس الدرسَ الشعبيَّ والسياسيَّ القاسيَ في رفض الشعب لهم رئاسيًّا ولا هزائمهم وبوارهم التدريجي في البرلمان من 69 مقعدا في الانتخابات التشريعية عام 2014م وصولًا إلى 52 مقعد في الانتخابات الأخيرة من أصل 217 مقعدا في البرلمان، ولم يتعظوا من دروس خساراتهم النكراء السابقة في السودان ومصر قبلها، كما لم يستوعبوا نموَّ وعي الشعوب بدورهم الوظيفي المُدان والجلي في تدمير سوريا وليبيا واليمن، ولم يخجلوا من مباركة الدوائر الغربية والصهيونية لهم نهارًا جهارًا وهم ينادون بـ”الإسلام هو الحل”!! فالغاية هي دينهم.
الإخوان من أصدق الناس على وجه الأرض في الكذب وامتهانه كعقيدة وتقية سياسية وشرعية، فهم ينادون بالديمقراطية والحرية للشعوب والتداول السلمي للسلطة بينما هم يتقاتلون ويتناحرون على مقاعد مجالس الشورى والإرشاد بداخل تنظيمهم، ويتحدثون عن الدولة وأمنها وهم أول من أسس التنظيمات السرية والميليشيات كأذرع مسلحة وقت الحاجة، وللتنكيل بالخصوم والمعارضين لهم، وكما هي حال إخوان تونس وميليشيات إخوان ليبيا والجنجويد وقوة التدخل السريع لإخوان السودان!! وهم أول من رسخ ثقافة الاغتيالات السياسية في الوطن العربي عبر التنظيم السري في مصر، وهم يدعون إلى حماية المال العام وهم من أبرع الناس في تبرير سرقاتهم للمال العام تحت مسميات التعويض وجبر الضرر والمشروعات الوهمية، وجمع المال الخيري والتطوعي من الناس وعبر تنظيمهم الدولي وحساباتهم السرية حول العالم.
الإخوان عقيدتهم الحقيقية وغايتهم القصِّية هي السلطة والمال وولائهم الحقيقي للمرشد وليس الله ولا الرسول ولا الوطن؛ لهذا فهم على استعداد لفعل أي شيء ولأجل أي طرف في سبيل المال والسلطة والنفوذ؛ فالغاية عندهم تبرر الوسيلة. فحين قامت الثورة في إيران عام 1979م كانت طهران هي المحج لهم، وحين قام “الربيع العبري” انبرى كبيرهم مرسي ليطالب بقيام ما أسماه بالتحالف السُني الكبير ضد إيران!! وأعلن “الجهاد” على سوريا!! واعتبروا الشخصية الوظيفية للغرب والصهيونية العالمية أردوغان رمزًا وحليفًا لهم!! واستبدلوا الجهاد وفلسطين بإحياء الخلافة أولا!! وسخَّروا حركة حماس لقتل السوريين والليبيين تحت راية الناتو والصهيونية العالمية!! وسخروا اتحادهم العالمي المشبوه بعاصمة خلافتهم “لندن” لإنتاج الفتاوى في قتل المسلمين وتمزيق الأوطان!
الإخوان هم من دَعا -وفي لحظة غدر تاريخية- إلى قيام ما سُمِّي بالمؤتمر القومي الإسلامي للحوار، وعقدوا مع القوميين عشرات اللقاءات والمؤتمرات والندوات لتوحيد العمل العربي المشترك، وتجسير الفجوة بين الخطابين القومي والإسلامي، وكان يُمثلهم حسن الترابي والغنوشي وعصام العريان…وغيرهم، وفجأة أتاهم هاتف الربيع فتخندقُوا مجددًا مع الغرب الاستعماري لتمزيق أوطانهم، وكان القوميون وحلف المقاومة أول وأكثر ضحاياهم!
وبالشكر تدوم النعم…
د. علي بن مسعود المعشني
(نشر بصحيفة الرؤية العمانية بتاريخ 18 نوفمبر 2019م)