إن مجد العرب ضارب في التاريخ، أصيل ومتجذر، عميق ومتين، مرّ بنكبات، وبنفس الوقت شهد حياة ازدهارٍ تناقلتها الأجيال، لكن هل من عربي يقرأ امته جيداً؟ نعم هناك الكثير من الأسماء اللامعة التي تغنّت بالحضارة العربية والإسلامية، هذا التراث الذي نرتبط به وبأصالته ما حيينا، يُقابل هذه الحالة، كتّاب الغرب، الذين وثّقوا حضارة الأمتين العربية والإسلامية من منظورهم الشخصي، كالمؤرخ العظيم غوستاف لوبون.
لقد أرّخ لنا هذا الكاتب الفرنسي مجد العرب عندما كانوا فرسان الحضارة الذين أضاءوا العالم بأمجادهم التي حققوها عبر العصور المختلفة، والمبلغ الذي وصلوا إليه في مختلف العلوم والآداب، والفنون، وسياساتهم الحربية، والأدوات التي كانوا يستعينون بها في إدارة رحى الحرب، والنقود التي كانوا يستخدمونها عبر العصور المختلفة، إلى جانب أخلاق العرب وعاداتهم ومكانة المرأة عندهم؛ لِمَا لها من دلالة على رقيِّهم وتقدمهم، لوبون وبدون مبالغة لقد برع في الكشف عن أوجه هذه الحضارة ومكنوناتها، فكان واحداً من أشهر المؤرخين الأجانب الذين اهتموا بدراسة الحضارات الشرقية والعربية والإسلامية، لأنه لم يسر لوبون على نهج مؤرخي أوروبا الذين صار من تقاليدهم إنكار فضل الإسلام على العالم الغربي، لكنه ارتحل في العالم الإسلامي وله فيه مباحث اجتماعية، أقرَّ أن المسلمين هم من مدَّنوا أوروبا، فرأى أن يبعث عصر العرب الذهبي من مرقده، وأن يُبديه للعالم في صورته الحقيقية؛ فألف على سبيل المثال عام ١٨٨٤ كتاب “حضارة العرب” جامعاً لعناصر الحضارة العربية وتأثيرها في العالم، وبحث في أسباب عظمتها وانحطاطها وقدمها للعالم تقديم المدين الذي يدين بالفضل للدائن.
من هو غوستاف لوبون؟
لوبون، طبيب ومؤرخ فرنسي (1841 – 1931)، ولد في مقاطعة نوجيه لوروترو، بفرنسا، درس الطب، وقام بجولة في أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا. اهتم بالطب النفسي وأنتج فيه مجموعة من الأبحاث المؤثرة عن سلوك الجماعة، والثقافة الشعبية، ووسائل التأثير في الجموع، مما جعل من أبحاثه مرجعاً أساسياً في علم النفس، ولدى الباحثين في وسائل الإعلام في النصف الأول من القرن العشرين، وقد أسهم في الجدل الدائر حول المادة والطاقة، وألف كتابه “تطور المواد” الذي حظي بشعبية كبيرة في فرنسا. وحقق نجاحاً كبيراً مع كتابه “سيكولوجية الجماهير”، ما منحه سمعة جيدة في الأوساط العلمية، اكتملت سمعته العطرة مع كتابه الأكثر مبيعاً “الجماهير: دراسة في العقل الجمعي”، وجعل صالونه من أشهر الصالونات الثقافية التي تقام أسبوعياً، لتحضره شخصيات المجتمع المرموقة مثل: “بول فالري”، و”هنري برغسون”، و”هنري بوانكاريه”.
بالتالي، إن نشاط لوبون جعل منه شخصية اجتماعية مرموقة، وأهّله للمشاركة في الحياة الثقافية والعلمية في فرنسا، كما أنه لم يتوقف عن الإنتاج الفكري حتى في أصعب سنوات الحرب العالمية الأولى التي كانت بحسب آراء الكثيرين أنها فترة العصر الذهبي له، حيث ارتفعت نسخ كتبه المطبوعة إلى أرقام مرتفعة جداً، غوستاف لوبون قد صنع لنفسه مكاناً مرموقاً في الغرب، لكن عندما تم ترجمة كتبه إلى العربية اتقد مجدداً شرقاً وغرباً، ومن الذين اهتم بترجمة مؤلفاته، وزير العدل في مصر فتحي باشا زغلول، مثل “سر تطور الأمم”، و”روح الاجتماع”، حيث رأى لوبون في زغلول أنه أفضل قلم نقل كتبه إلى العربية، لا بل وابتهج كثيراً عندما علم أن كتابه “حضارة العرب” كان مقرراً على الطلاب في جامعة الأزهر الشريف، هل هناك إنجاز أعظم من ذلك في عين المؤلف والمترجم والمتلقي، لم ينكر العرب أهمية هذا الكاتب لا بل على العكس افتخروا بمؤلفاته ونشروها بين الجميع كمرجع أكاديمي ينهل منه كل طالب علم، وهذه ميزة إضافية تُضاف إلى العرب.
لكن تقول المعلومات إن هذا الكاتب أهمل بعد وفاته وهناك تحليلات كثيرة حول ذلك لكن ارتأيت أن أفضل ما قيل هو أن سبب التهميش كان لأنه برجوازي وضد الثورة الاشتراكية التي كانت صاعدة آنذاك. خاصة مع ظهور أحزاب سياسية حاملة لأفكار متطرفة مثل الفاشية والنازية.
لقد ظهر لوبون في فترة عرفت فيها الدارسات النفسية تقدماً متسارعاً، ومن ذلك ما وصل إليه العلماء من القول بأن الأفراد، تتحكم فيهم سلوكياتهم وطباعهم الموروثة، فأراد لوبون أن ينقل هذه الحقائق إلى مستوى أكبر، جاعلاً للأمة طابع نفسي عام، على غرار ما يتميز به الأفراد من طباع خاصة، وبما أن غوستاف لوبون طبيب، فإنه درس الإنسان في بعده البيولوجي ثم البعد النفسي والاجتماعي فكانت غايته من ذلك التعرف على موقف الإنسان من الحضارة، خاصة وأن الحضارة برأيه هي هدية يتلقاها الإنسان من أسلافه، لذلك يرى أنه لا داعي للتسرع الذي تبديه بعض الأمم في سعيها للنهوض الحضاري، لأن التحضر يتكفل به الزمن، وما يمكن أن تقدمه هذه الأمم، هو السعي الحثيث من أجل تكوين صفات نفسية مبدعة، بالتالي إن لوبون يقر بدور الإنسان في تشيد الحضارة، وينفي وجود قوى خارجية تسيطر على ما يصدر عنه من سلوك، وبرأي لوبون أن الحضارة هي أرفع تجمع ثقافي للبشر وهي أشمل مستوى للهوية الثقافية لا يفوقه من حيث تحديده للهوية الثقافية إلا الذي يميز الإنسان عن غيره، ويمكن تحديدها أو تعريفها بكل العناصر الموضوعية مثل اللغة والتاريخ والدين والعادات والتمايز الذاتي للبشر، معتبراً أن أهم العناصر التي تتكون منها الحضارة، وهي الإنسان والزمن، والأفكار والبيئة، كما أن الإنسان باعتباره محور هذه الحضارة فهو المسؤول عن تطورها وبنفس الوقت هو المسؤول عن تدهورها، بالتالي هذه فلسفة عميقة تحتاج إلى التأمل والتفكير مليّاً لأن الحضارات حتى وإن توارثناها هي ملك لنا وتقع المسؤولية في الحفاظ عليها على الجميع.
اللافت أن بعض أعمال لوبون أبصرت النور في خضم أجواء مشحونة وتغيّرات جيوسياسية واجتماعية متزايدة، مثل سيكولوجية الجماهير، كانت الأفكار المعروضة في هذا الكتاب آنذاك إبّان حياة غوستاف لوبون غريبة وغير معقولة ولم يتقبلها كثيرون لأنها جاءت بطرح جديد لم يعهدوه في ذلك الزمن، ولكن اليوم أضحت هذه الأفكار كلاسيكية ومقبولة وتتسم بالعقلانية والمنطق، لأن الأفكار والنظريات التي يتضمنها الكتاب تناسب كل الشعوب والأعراق والخلفيات الأيديولوجية المنتشرة عبر جميع بلدان العالم ولا تختص ببلد معين كالدول الأوروبية مثلاً، خاصة وأن الجماهير لعبت دوراً مهماً في تغيير عجلة التاريخ، وهي اليوم تلعب دوراً أكثر أهمية، بسبب تعدد وتعقد المحرّضات الممارسة عليها، فالعمل اللاواعي للجماهير اليوم بحاجة للدراسة أكثر من ذي قبل فهو أحد مفاتيح معرفة طرق السيطرة على الجماهير وفق استراتيجيات مضبوطة تراعي الحالة المتطورة الآنية وتغيّر الزمان وعقليات الناس.
وفي علاقة لوبون بالعالم العربي، من يطلع على مؤلفات لوبون يكتشف نزعته العلمية المحايدة للطروحات العرقية والعنصرية المُسبقة غير المبنية على مشاهدات واقعية والتي كانت سائدة آنذاك في فرنسا وفي مقدمتها نظريات أرنست رينان. لذلك لم يكن هُمه فعلاً أن يسير على نهجٍ مخالف بقدر ما كان شغوفاً باكتشاف أسرار الحضارات العظيمة التي أثرت في البشرية. ومن أجل ذلك قام لوبون بجولاته ليرى ويكتشف بنفسه فكان له بالفعل نظرته الاستثنائية للحضارات العربية الإسلامية. حيث زار لوبون بين عامي 1882 -1884 كل من: المغرب والجزائر وتونس ولبنان ومصر وسوريا وبغداد وتركيا، و تعرف من خلال زياراته على أوجه هذه الحضارة وإسهاماتها على العالم الغربي وتأثيرها فيه إلى حد الإقرار في كتابه الشهير حضارة العرب بأن المسلمين هم الذين مدّنوا أوروبا وليس العكس. ولهذا فأبرز ما اهتم به هو البحث عن أسباب انحطاط هذه الحضارة العظيمة.
أيضاً، اعتبر المحايدون غوستاف لوبون عالماً ومؤرخاً يستحق كل تقدير وثناء، بينما عزف الكثيرون عن متابعة أعماله واتهموه بمحاباة العرب والمسلمين، واللافت أن غالبيتهم كانوا من المتعصبين ضد العرب. ونذكر هنا أهم الانتقادات التي وُجهت له ما إزاء ما عبر عنه في كتابه حضارة العرب، حيث أعرب لوبون في كتابه عن أسفه لعدم تمكن الغافقي من الوصول إلى فرنسا وفتح أوروبا ويرى في ذلك سبباً لتأخر نهضة أوروبا قروناً إضافية. وعلى الرغم من ذلك لم يسلم لوبون من بعض العرب والمسلمين أنفسهم، حيث لم تُرق أعماله لكثيرين وتعرضت بعضها للانتقادات ومردها الاختلاف بين النظرة اللاهوتية لهؤلاء والنظرة الواقعية التي تميز به لوبون، وهذا أمر طبيعي فالغيرة موجودة في كل الأزمنة والعصور، ولا يمكن لأي ناجح إلا أن يُحارب سواء من الغرب أو العرب، فالنظرة المتطرفة لم تندثر، وهذه المغالاة إن رأى لوبون أن الغافقي لم يصل إلى فرنسا ما سبب بتأخر نهضتها، فأمتنا اليوم وصلها من هم عكس هؤلاء وهناك حملات ممنهجة لاندثار هذه الأمة مع كل الأسف، لعل أبرز ما يمكن ذكره هنا، (مسألة قدسية القدس).
ومع رحيل غوستاف لوبون وتركه لموروث ضخم كما قلنا لا يزال مرجعاً إلى يومنا هذا، وإذا قيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم كان لوبون أعظم اسم من بين أبناء جيله، وإلى الآن، ولكم نتمنى أن نجد اليوم من أمثاله، لنشعر ان هناك من ينصف بلاد العرب بعد كل هذا الظلم الذي يحيط بنا.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان
المصادر:
- حضارة العرب – غوستاف لوبون – مؤسسة هنداوي.
- هل أصبح المثقف في الوطن العربي مثقفا مبرمجا؟ – الجزيرة.
- قراءة في كتاب “سيكولوجية الجماهير” لغوستاف لوبون – الجزيرة.
- غوستاف لوبون المستشرق الذي أنصف العرب – موقع العرب.