ورد في الإعلان الصادر في العام 2013 عن الاجتماع الرفيع المستوى للمجلس الاقتصادي والاجتماعي في منظمة الأمم المتحدة أن “الثقافة عنصر أساسي من عناصر التنمية المستدامة، وأنها تمثل مصدراً للهُوية والابتكار والإبداع بالنسبة للفرد والمجتمع، وأنها عامل مهم في بناء الإدماج الاجتماعي، والقضاء على الفقر، وتوفير شروط النمو الاقتصادي وتولي البلدان زمام عمليات التنمية”. الأمر الذي جاء بناء على تطور المنظور العالمي التنموي بشأن علاقة الثقافة بالتنمية المستدامة، الذي دعا المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلم (اليونسكو) إلى إدماج الثقافة في (خطة التنمية لما بعد عام 2015)، مما مهَّد إلى دورها المهم في (خطة التنمية المستدامة 2030).
فالثقافة قوة مؤسسة وداعمة للتعليم، وبناء المدن والمستوطنات البشرية المستدامة، والمجتمعات المسالمة القائمة على مبدأ المساواة والحقوق والواجبات، إضافة إلى إسهامها في الحفاظ على النظم الإيكولوجية، والتنوع البيولوجي، والنمو الاقتصادي وبالتالي القضاء على الفقر. ولهذا فإن الثقافة تُعد اليوم (في صميم التنمية المستدامة) – بتعبير اليونسكو -؛ فهي الركيزة الأساسية لتنمية المجتمعات، وبناء القدرات، وتعزيز الروابط والعلاقات بين القطاعات التنموية المختلفة، لأنها تحمل أبعادًا اجتماعية واقتصادية وبيئية.
ولأن الثقافة ركيزة التنمية فإن أهداف التنمية المستدامة 2030، جعلت من هذا القطاع قاعدة معرفية وتنموية من خلال تعزيز إدماجه في الخطط الإنمائية الاجتماعية والاقتصادية من ناحية، وضبط سياسات حوكمته، والاستفادة من إمكاناته الهائلة من ناحية أخرى. الأمر الذي جعل من هذا القطاع محور تحقيق التنمية البشرية، والنهوض بها، من خلال مجموعة من الممارسات الخاصة بتعزيز التنوع الثقافي ودروه الاجتماعي والاقتصادي وعلاقته بالتنوع البيولوجي في المجتمعات، والتخطيط العمراني وأثره على المجتمعات المحلية، والصناعات الثقافية والإبداعية، ودور المعارف والأنشطة التقليدية في الحفاظ على البيئة واستدامتها، إضافة إلى تلك الأنشطة التي تُعزز دور الثقافة المعرفي في المجتمعات.
إن التنمية المستدامة هي الهدف الرئيس لكل مجتمع؛ فقد ربطت السلطنة رؤية عُمان 2040 بأهداف التنمية المستدامة 2030، لتحقيق (التنمية الشاملة المستدامة)، ولعل أهداف التوجه الاستراتيجي (مجتمع معتز بهُويته وثقافته وملتزم بمواطنته)، قد أسست للدور التنموية الذي تقوم به الثقافة في التنمية الوطنية؛ حيث قدمت الأهداف الثمانية لهذا التوجه مجموعة من الأدوار الأساسية التي تقوم بها الثقافة في التنمية، وهي تعزيز الهُوية والمواطنة والمسؤولية المجتمعية، والشراكة والمساواة، والدعوة للسلام والتسامح، والقدرة على النقد والتوظيف والإنتاج والنشر، وتنمية القدرات والتمكن من المهارات المعرفية، وتعزيز مهنية الإعلام ودوره في التنمية المستدامة، إضافة إلى التنمية الاقتصادية للاستثمار في الثقافة.
إن هذه الأهداف بوصفها استراتيجية لا ترتبط بالأهداف (11، 1، 5، 10، 14) من أهداف التنمية المستدامة 2030 وحسب، بل أكثر من ذلك؛ حيث تتقاطع مع أغلب الأهداف الإنمائية للألفية؛ فقدرة قطاع الثقافة القائم على التنوع والمبني على قدرة الأفراد على الإبداع والابتكار، تجعل منه محور التنمية، وهذا ما نراه في التوجهات الاستراتيجية لرؤية عمان 2040، ليس في التوجه الخاص بالثقافة فقط، بل في التوجهات كلها؛ لما يتميز به هذا القطاع من دينامية وشراكة وما يمثله من مصادر إبداعية وابتكارية، وما يقدمه من فرص للأجيال القادمة.
ولعل الاهتمام المتزايد على مستوى العالم بالثقافة وما تقدمه من مؤشرات مهمة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة للألفية قد دفع مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) إلى القيام بدراسات عدة تهدف إلى الكشف عن إسهامات الثقافة في التجارة العالمية؛ وفي دراسة لها في العام 2012 قدمت ما حققته التجارة العالمية في السلع والخدمات الإبداعية؛ حيث “حققت رقما قياسيا قدره 624 بليون دولار في عام 2011، أي أكثر من ضعف الرقم المحقق في عام 2002، في حين أن النمو في صادرات السلع الإبداعية من البلدان النامية بلغ في المتوسط 12% سنويا خلال الفترة نفسها”-كما ورد في الدراسة- .
وفي تقرير (حوار السياسات العامة رفيع المستوى بشأن الاقتصاد الإبداعي في خدمة التنمية)، قدمت الأونكتاد برامج السياسات العامة والبحوث المتعلقة بالاقتصاد الإبداعي وبُعده الإنمائي، وقد جاء في كلمة لأمين عام المؤتمر أن “الاقتصاد الإبداعي يمكن أن يُشكل ذروة التنمية الشاملة للجميع … إن الاقتصاد الإبداعي يُشجِّع ويُعزِّز التنوع في الثقافة والأفكار والتفكير بأسلوب ديمقراطي”. ولهذا فإن منظومة الاقتصاد الإبداعي تشمل الأبعاد الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية والاجتماعية، ومن هنا كان هذا الحوار تحت عنوان (صنع المستقبل)؛ فهو يشمل أهداف التنمية الشاملة المستدامة للألفية المقبلة.
ومن منطلق أهمية الثقافة وما يرتبط بها من اقتصادات إبداعية، فإن منظمة الأمم المتحدة أطلقت على العام 2021 (السنة الدولية للاقتصاد الإبداعي من أجل التنمية المستدامة)، وهو ما يُطلق عليه (الإبداع البرتقالي) “القائم على المعرفة، والتفاعل بين الإبداع الإنساني من جهة والأفكار والمعرفة والتكنولوجيا من جهة أخرى، إضافة إلى القيم الثقافية أو التراث الفني والثقافي والتعبيرات الإبداعية الفردية أو الجماعية الأخرى” – بحسب تقرير المنظمة -. لذا فإن هذا الاقتصاد يقوم بدور مهم في دعم أهداف التنمية المستدامة، من حيث الفرص الوظيفية التي يوفرها، ودعم المشروعات التجارية، إضافة إلى تمكين المبدعين، وتعزيز (الإدماج الاجتماعي) و(الحد من الفقر).
إن قطاع الثقافة بما يوفره من فرص من خلال اقتصاداته المتنوعة وفرص الشراكات المتعددة مع القطاعات التنموية الأخرى، يقدم فرص التعلم مدى الحياة، واتباع أساليب العيش المستدامة، وحقوق الإنسان، والمساواة والتمكين، وهكذا فإن هذا القطاع في تقارير التنمية المستدامة يمثل أهمية قصوى لإبراز تلك المبادرات التي أسستها الدولة في سبيل تنمية هذا القطاع بما يخدم أهداف التنمية الوطنية المستدامة، إضافة إلى إبراز النتائج التي تحققت في هذا القطاع المهم.
وعلى الرغم من أن (الاستعراض الوطني الطوعي الأول لسلطنة عمان 2019) الذي تم تقديمه في (المنتدى السياسي رفيع المستوى) في يوليو 2019، والذي تم خلاله عرض التقدم المُحرز لأهداف التنمية المستدامة 2030، وارتباطه بتوجهات رؤية عمان 2040، قدم عرضا وافيا عما أنجزته السلطنة من مبادرات ورؤى، إلاَّ أن قطاع الثقافة يحتاج إلى إبراز لمكانته في تحقيق أهداف الألفية، فما تحقق خلال الحقبة الماضية كان ثريا ومتناميا، وما تم تنفيذه من مبادرات وطنية في التنمية الثقافية يستحق إبرازه في هكذا تقارير.
والحق أن هذا الاستعراض – وإن لم يحتف بالثقافة صراحة – إلاَّ أنه قدَّم العديد من المبادرات التي أبرزت دور السلطنة التنموي في مجال الإبداع والابتكار والتقنية، وهي ركائز الصناعات الإبداعية الحديثة، والاستثمار في الثقافة؛ فقد قدَّم الاستعراض نماذج مهمة من تلك المبادرات كمنصة المدن الذكية، ومنصة إيجاد الإلكترونية، ومجمع الابتكار مسقط وغيرها، مما يكشف عن الرؤية التنموية المستقبلية التي تؤسسها السلطنة بُغية تحقيق أهدافها الوطنية.
إن الثقافة بمجالاتها المتنوعة وبشراكاتها المختلفة تُعد من أهم مؤسِسَات التنمية المستدامة التي تقوم عليها استراتيجيات التنمية، وأُسس الإبداع والابتكار في القطاعات الاقتصادية، وتتشكل بها أنظمة العمران الحضري والريفي وما تقوم عليه من صناعات تقليدية قائمة على التنوع الثقافي، إضافة إلى دورها الأساسي في التعليم وترسيخ الهُوية ومبادئ المواطنة.
فإذا أردنا تحقيق الأهداف التنموية الوطنية المستدامة علينا العناية بالثقافة ودعمها، وتمكين الصناعات الإبداعية، التي تُعد اليوم الملاذ الآمن للاقتصادات الواعدة في المستقبل، ولن نتمكن من ذلك سوى بتقييم واقع هذه الصناعات وكيفية النهوض بها في ظل التطور الهائل في منظومة التقنية وتنمية الابتكار.