عبدالله حبيب
قد يكون فيلم رْيْيْ «أكبر من الحياة» (1956) العمل الأكثر نموذجيَّة فيما يخص وفرة ميكانِزمات التمثيل (representation) في مجمل آثاره؛ فالصُّور الفيلميَّة هنا تقوم بما يشبه نظام علامات الترقيم أكثر من أي فيلم آخر من أعماله: صور من أحد أفلام الغرب الأمريكي («الويسترن») نراها عبر شاشة تلفزيونيَّة تلتقطها الكاميرا السينمائيَّة (والحقيقة أن حتى فيلم «على أرضيَّة خَطِرَة» يتضمَّن أيضا صورًا تلفزيونيَّة، لكنها ليست ذات مغزى يُركَنُ إليه في هذا البحث)، صور أشعَّة طبيَّة، رسمٌ بيانيٌّ طبيٌّ من جهاز تخطيط القلب، ورسومات أطفال، وصور مرآوِيَّة، وخرائط، وألبوم صور عائليَّة، وظِلال شبحيَّة متحرِّكة لبعض شخصيَّات الفيلم، وملصقات سياحيَّة لبلدان ومدن أوروبيَّة شتَّى مثل فرنسا، وروما، ولندن، وبولونيا، وغيرها.
وتنطوي الصُّور المرآوِيَّة على أهميَّة خاصَّة في هذا الفيلم؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر يَرى إِدْ أْيْفري (قام بالدور جيمس مانسن James Manson) ولده رِتشي (قام بالدور كرستُفر أولسن Christopher Olsen) وهو يسرق عبوَّة الدواء، ولكنه يرى انعكاس الفعل في المرآة. وهكذا فإن الصُّورة هنا إنما تخدم نفس الواقع الحقيقي لأنه تبوح بصدقيَّة ذلك الواقع، إذ إن غضب إِدْ الشديد اللاحق ناجمٌ عن دليلٍ تمثيليٍّ (representational) لفعلة نجله. كما يتضمن الفيلم لقطة مرآويَّة مهمة يرى فيها إِدْ وجوده المتشظي منعكسًا في وجهه الممزَّق بصورة رمزيَّة على شظايا المرآة المكسورة. كما تنطوي الملصقات السياحيَّة على أهمية مماثلة لتلك التي تتضمنها الصُّور المرآويَّة في هذا الفيلم؛ فهناك، في الحقيقة، ملصقات من ذلك النوع كثيرة جدًا في بيت إدْ بحيث يبدو أنه مكتب لوكالة سفريَّات وسياحة أكثر مما هو منزل عائليّ. تلك الملصقات السياحيَّة توفر تغايرًا وتباينًا تمثيليًّا (representational) لبيئة الطَّبقة المتوسطة «الكلاستروفوبيَّة» بصورة خانقة التي يعيش فيها إِدْ، والتي ستقود إلى الانفجار اللاوعي كما يبوح به سلوكه اللاعقلاني بصورة مَرَضيَّة. وحقًّا فإن العلاقة الجناسيَّة بين اسم العَلَم في شخصيَّة إدْ (Ed) وبين مفهوم «العقل الباطن» (Id) في فلسفة علم النَّفس الفرويديَّة صريح هنا بما فيه الكفاية في الإنجليزيَّة. (وفي غير هذا الإطار المباشر للنقاش فإني أظن أن عليَّ فتح قوس هنا لأقول إني لا أستطيع غض النظر عن أن نهاية فيلم «أكبر من الحياة» تأتي مثالًا آخر على ما يمكن تسميته النهايات المتفائلة بصورة مجانيَّة لدى رْيْيْ، خاصة إذا ما كان على الفيلم أن يُقرأ ضمن معطيات سياسيَّة وأيديولوجيَّة تقع وراء نطاق الغرض المحدَّد لهذا البحث).
لكن، وعلى الرغم من وفرة التَّمثيلات (representations) البصريَّة في الفيلم، فإن التَّمثيل (representation) المُنطوي على «تهديد» في فيلم «أكبر من الحياة» مُناطٌ بالسَّرد الإنجيليَّ المُستحضَر شفويًّا. إنه «القصَّة-الصُّورة» (story-image) الانتيابيَّة (من الفعل»ينتابُ») لإبراهيم وإسحق التي يستمع إليها إِدْ في الكنيسة، ويقرأها لاحقًا، وهي قصَّة تقترب قصَّة إِدْ نفسه بصورة خَطِرَة من أن تكون تقريبًا تمثيلًا (representation) حرفيًّا لها. وفي الحقيقة فإن إِدْ يبدو واعيًا للغاية بتلك «الاستبدالات الدراميَّة» (بكل معاني العبارة) حين، على سبيل المثال، يقول لطبيبه: «أنت استبدال بائس لأبراهام لِنْكُن Abraham Lincoln». وهكذا استبدال هو نفسه الحال في فيلم رْيْيْ «جوني غيتار» (1954) الذي تكون فيه الشخصيَّة التي تحمل عنوان الفيلم (Johnny Guitar، التي قام بدورها ستِرلنغ هيدِن Sterling Hayden)، في الحقيقة تمثيلًا (representation)، قناعًا اسميًّا لشخص آخر.
هذا، والتَّمثيل (representation) الإنجيلي في «أكبر من الحياة» يُستبدَل بتمثيلٍ (representation) شكسبيريٍّ في فيلم رْيْيْ الأشهر وحقًّا الأكثر نقديَّةً للمجتمع الأمريكي «متمرد بلا قضيَّة» (1955)؛ فهنا نجد أن جِم ستارك (قام بالدور جيمس دين James Dean في ما يقول بعض النُّقاد السينمائيين انه أفضل أداءاته على الشَّاشة خاصة لجهة أن هذا الدور قد تنبأ بمصرعه التراجيدي المبكر في حادث سيارة وهو في الرابعة والعشرين من العمر، وهذا بدوره أدى إلى أيقَنَتِه في ثقافة المراهقين والشَّباب الأمريكيَّة السَّاخطة) وجودي (قامت بالدور نَتَلي وُدْ Natalie Wood)، هما نسخة تمثيليَّة (representational) تقدِّمها الشَّريحة الأعلى من الطَّبقة المتوسطة الأمريكيَّة المعاصرة المأزومة من «روميو وجولييت» (1). هذا، وبينما لا تنطوي الصُّور الفوتوغرافيَّة، واللوحات، والملصقات الدعائية والإعلانيَّة عمومًا على أهميَّة كبيرة في هذا الفيلم فإن أشياء ماديَّة (objects) معَّينة تحوز على دلالات ذات شأن كبير؛ فعلى سبيل المثال هناك دُمية القرد التي تحيل إلى براءة جِمْ الثَّملة ووحدته الحرجة في مستهل الفيلم. وكما يقول رْيْيْ بنفسه فإن جِمْ «احتاج لشخص يكون قريبًا منه» (2). هذا وبينما يلعب جِم متسليًّا بقرده الميكانيكي فإن «أفلاطون» كروفرد (قام بالدور سال مينيو Sal Mineo) يطلق النار فعليًّا، بالمغايرة وبصورة أكثر جديَّة بكثير، على حيوانات حقيقيَّة هي الجِراء (سأفتح قوسًا هنا كي أقول إن هناك ما يشبه الإجماع بين النُّقاد على أن المثلث المكوَّن من جِمُ، وجودي، و»أفلاطون» إنما يشكِّل «العائلة المُصَنَّعة» أو «المُصْطَنَعَة» كما في محاججة جون فرانسِس كريدل (3) ، لكن ليست هناك لغاية الآن، على حد علمي، أدبيات نقديَّة تسلط الضوء على ما اعتبرُه إشارات خفيَّة إلى انجذاب جنسيٍّ يكنُّه «أفلاطون» لِجِمْ، وهناك إشارات غير قليلة إلى المثليَّة الجنسيَّة، والثُّنائيِّة الجنسيِّة، و»التجريبيَّة الجنسيَّة» في الحياة الشخصيَّة لكلا الممثِلين، وذلك في الأدبيَّات البيوغرافيَّة حولهما، غير أن مناقشة هذا الجانب تقع وراء نطاق غرضي).
ومهما يكن من أمر، فإن فعل إطلاق النار على الجِراء الذي يقترفه «أفلاطون» إنما يبوح بردِّة فعل عنيفة صادرة من مراهق مُثْبَط، ومُتَخَلَّى عنه، ومليء بالغيظ، وحائر، ووحيد. أما قرد جِمْ الدُّمية فأظن أن علينا مقارنته بأوراق الكرِسمَس الديكوريَّة الحمراء التي يصبُّ ريكو عليها الأسيد من زجاجة، وذلك بغرض تهديد كل من تومَس فارِل (قام بالدور روبرت تيلَر Robert Taylor) وفِكي غْيْ (قامت بالدور سِد شِريس Cyd Charisse) في فيلم رْيْيْ «فتاة الحفلة». أود التوكيد أن علينا هنا الانتباه إلى أن هذا المشهد (مشهد الأسيد) الذي يظهر في نهاية الفيلم إنما يردِّد صدى واضحًا للصُّورة الفوتوغرافيَّة التي يُطلق ريكو عليها النار في بداية الفيلم، وهو (أي مشهد الأسيد مجدَّدًا) يُنهي دائريَّة الفيلم ويُقفل دائرة العنف فيه.
أما الصُّور التَّمثيليَّة (representational) الأكثر أهميَّة في فيلم رْيْيْ «متمرد بلا قضيَّة» فأرى أنها تلك الصُّور القِياميَّة التي يعرضُها المِسْلاطُ («البروجكتر») في أثناء المحاضرة التي تُلقى في مِفْلاك (نسبة إلى «الفَلَك») مرصد غرِفِث في مدينة لوس أنجلوس: إنها الصُّور الحَشْرِيَّة لنهاية العالم التي تتنبأ بالعنف (وإلى درجة ما، العبث) الذي سيحدث – ليس من قبيل المصادفة – في نفس ذلك المبنى. ولا أريد أن يفوتني هنا قول إنه ليس هناك داعٍ ولا مسوِّغ لكريدل كي يحاجِج بنبرة تبسيطيَّة، بل بالأحرى غير ديمقراطيَّة، حين يقول: «بقدر ما أن المناخ السياسي الأمريكي قد أثَّر في مزاج رْيْيْ فإن على المرء ألا يبحث عن رسالة سياسيَّة صريحة في «متمرد بلا قضيَّة» فليست هناك هكذا رسالة» (4). أودُّ الزَّعم أن هناك «رسالة» سياسيَّة (مع إني أحبِّذ أكثر المفردة: «تضمين») في أي فيلم وفي أي عمل فنِّي (بما في ذلك، بل وخاصة في أعمال أولئك المبدعين الذين يدَّعون أن أعمالهم «غير سياسيَّة»)؛ فما نسميه «الرسالة» السياسيَّة لفيلمٍ ما سواء كانت صريحة أم مبطَّنة لا يمكن فصلها عن النُّضج التاريخي للنَّص وتطوُّر الأدوات النَّظريَّة التي يبوح لنا النص بنفسه عبرها بشكل دائم وديالكتيكي. وحقًا فإن العديد من الأعلام الإغريقيَّة الكلاسيكيَّة لم تفكِّر بنفسها على إنها «نسويَّة»، أو «راديكاليَّة»، أو «عدميَّة»، أو «تقدميَّة» مثلًا؛ لكننا نجد اليوم أنها كذلك حقًا. هكذا يبدو لي أن لدى كريدل إرادة ونيَّة إغلاق وإفساد الإمكانات التاريخيَّة المُتاحة أمام المجتمع الأمريكي، وأمام الأدوات النقديَّة للفكر (وللمعرفة عمومًا)، وأمام نصوص رْيْيْ السينمائيَّة بالنتيجة، وهذا شأن مؤسف وحزين للغاية.
وأخيرًا، فمن باب الاستنتاج المختَصر، أود القول أن شِعريَّات رْيْيْ المتينة، والبليغة، والمتساوقة، والمتناغمة مع نفسها إنما تبوح بحساسيَّته الحداثيَّة، وما بعد الحداثيَّة، و»المُؤَلِّفِيَّة» (نسبة إلى «نظريَّة المؤلِّف السينمائي»). وفي هذا التَّمكُّن فإنه، من خلال طريقته الفريدة وعبر اللغة الإبداعيَّة للفنِّ التعبيري الذي امتهنه واحترفه، يبوح لنا بعديد من أوجه القلق الفلسفي والوجودي الذي يعتورنا منذ أرواح عتيقة مثل: إبراهيم وإسحق وحتى اليوم. ومن أجل التفاعل الخلاق مع أفلامه فإن على المشاهد ألا ينخدع بالظهور الفوري، والمباشر، والسَّطحي، وذي البعد الواحد للصُّور، والتَّمثيلات (representations)، والأشياء الماديَّة (objects)؛ بل عليه أن يكون مستعدًا لسفر غائر وطويل للاكتشاف. وفي تلك الرحلة سيجد أن مفاهيم نظرية مثل الـ« studium» والـ«punctum» البارتيَّين، إذا ما طُوِّرا ونُسْقِنَا (من النّسق»)، فسيكونان دليلين لا غنى للمستكشف. سأعيد هنا التذكير بمقولة بركنز المضيئة إن الليل في عالم رْيْيْ الجمالي لِشيء أكثر من غياب ضوء النهار. وبنفس المنطق فإن صورة فوتوغرافيَّة، أو لوحة، أو ملصقًا إعلانيًَّا، أو انعكاسًا في مرآة، أو إحالة إلى قصَّة مقدَّسة أو متعلقة بالبشر على الأرض هنا، أو دمية، تعني أكثر من مجرَّد تذكُّرٍ أو إيضاح: إنها تعني السينما كما نعرفها، أو كما قد لا نكون نعرفها لغاية الآن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): أنظر في هذا السياق:
John Francis Kreidl, Nicholas Ray (Boston: Twayne, 1977), 104.
(2) : رْيْيْ، اقتُبس في:
Nicholas Ray, Susan Ray, ed., I Was Interrupted: Nicholas Ray on Making Movies (Los Angeles: University of California Press, 1993), 116.
(3): Kreidl, Nicholas Ray, 99.
(4): المصدر السابق نفسه، 78. التوكيد أصلي.