أجراس ..
كم هو قاسٍ ومؤلمٌ شعور الوداع والفقد، لاسيما فقد الأرواح التي تسكن قلبك وتشاطرك إحساسك وتحتل مساحة من ذاكرتك. والأصعب من ذلك هو الكتابة عن هذه الأرواح. إن المرء ليشعر أن برحيل هذه الأرواح هناك ثلمة حدثت في الروح، ولا يمكن أن تبرأ أو تعود إلى طبيعتها رغم مرور الزمن. وحينما نكتب عن هؤلاء الناس فإننا لا نريد رثاءهم، لأنهم في نظرنا أكبر من الرثاء، ولا يليق بمثلهم. فهم حينما غادروا هذا العالم، إنما انتقلوا ليعيشوا في دواخلنا على نحو أعمق، وأن حادثة الموت لم تكن سوى مجرد شبهة عابرة ونسيناها في لحظتها، ليتحولوا بعدها إلى ذوات أخرى تقاسمنا حياتنا إلى الأبد. إنهم عصيون على الفناء والنسيان والمحو.
يأتي شهر أغسطس ليذكرنا بوداعات قاسية مؤلمة وقعت فيه، وما زالت عقارب الزمن توقظ في النفس آلامها الدفينة عندما يحل تاريخ هذه الوقائع الموجعة. ولا يمكننا أن نودع شهر أغسطس دون أن نتذكر ثلاثة من كبار المبدعين في الغناء والشعر والدراما، وهم طلال مداح ومحمود درويش وعبدالحسين عبدالرضا. وإننا نكاد نجزم أن لكل واحد منا قصة مع أحدهم.
وبطبيعة الحال لا نسعى في هذا المقال القصير أن نقدّم سردًا تفصيليًا بالمبدعين الذين رحلوا في هذا الشهر، وإنما نختصر الحديث على هذه التجارب الثلاث فقط، لعدة اعتبارات جوهرية. فهؤلاء لم يكونوا مبدعين كبارًا أو مشهورين فقط، وإنما كانوا تجارب ريادية وعبقريات استثنائية، أحدثوا نقلات كبرى في مجالاتهم الإبداعية، وأسسوا لتجارب مغايرة قابلة للبقاء والخلود. وهذه من أهم القواسم المشتركة بينهم.
قبل واحد وعشرين عامًا، وبتاريخ الحادي عشر من أغسطس عام 2000 م، سقط الفنان طلال مداح على المسرح وهو يؤدي أغنيته الشهيرة (الله يرد خطاك)، ليغمض عينية للمرة الأخيرة على هذا العالم، عن عمر ناهز الستين عامًا، تاركًا روحه تعانق الجماهير الغفيرة التي جاءت على موعد أخير لتقلي عليه نظرة محبة ووداع يليق بعملاق فني من الطراز الكبير. كان الحدث الصاعق مُشاهدًا مباشرة على الفضائيات، وعلى خشبة مسرح المفتاحة في أبها، وهو المسرح الذي تحول مؤخرًا باسمه تخليدًا لذكراه.
طلال مداح .. ذلك الشاب السعودي الأسمر القادم من عمق الجزيرة العربية، بصوته الملائكي الذي يدخل إلى القلب دون استئذان، وبلثغته المحببة، استطاع أن يهدم الجدران الوهمية أمام الأغنية الخليجية، ليزاحم كبار الفنانين في الوطن العربي، ويقدم أغنية خليجية حديثة يستمع لها القاصي والداني، ويحجز لصوته مقعدًا مرموقًا بين نجوم الغناء العربي على مر التاريخ. هو أحد الفنانين الرواد الذين فتحوا لمن بعدهم مسارات واسعة ووضعوا الأغنية الخليجية جنبًا إلى جنب بين مثيلاتها على المستوى العربي. لقد كان تأثير طلال مداح عميقًا على الأغنية الخليجية من حيت تحديثها وتجديدها وتطويرها والارتقاء بها إلى مستويات عالية من الإتقان والاحتراف. وقد بقي طوال حياته وفيًا لفنه وجماهيره التي عشقت حضوره فنانًا وإنسانًا.
إننا نختصر شخصية طلال حينما نتحدث عنه كفنان فقط، وإنما تجسدت شخصية طلال مداح في كونه إنسانًا كبيرًا أيضًا، بأخلاقه وعطائه وتواضعه وسخائه الذي جعل منه رمزًا للبذل والتفاني وإنكار الذات في سبيل إسعاد الناس وقضاء حوائجهم والوقوف معهم بكل ما يملك. وهناك الكثير من القصص والمواقف الموثقة تحكي جوانب من طيبة طلال وكرمه وأياديه البيضاء التي كان يمدها للسائل والمحروم دون منٍّ ولا أذى.
وها هو طلال مداح بعد واحد وعشرين عامًا على رحيله يعيش معنا كأنه لم يغادر مكانه، يشاركنا لحظاتنا ويقاسمنا الأفراح والأتراح، وما زال صوته يتردد في كل مكان معلنا حضوره الخالد عبر إبداعه الذي يجسد مسيرة فنان يصعب تكراره ويستحيل نسيانه.
وفي التاسع من أغسطس عام 2008م، أي قبل 13 عامًا، يأتينا خبر رحيل الشاعر العربي الكبير محمود درويش في أحد مستشفيات هيوستن الأمريكية، وهو في عمر السابعة والستين. ولعلنا لا نبالغ إذا وصفنا محمود درويش بما وُصِف به المتنبي قديما بأنه مالئ الدنيا وشاغل الناس. هذا الفتى الآتي من قرية البروة إحدى قرى الجليل بفلسطين، استطاع أن يصفّي لغة الشعر ويمنحها طاقةً وسحرًا وبهاءً عظيمًا، وهو أحد الرواد الذين نقلوا الشعر العربي المعاصر من كهوف القرون الوسطى وعبروا به إلى فضاءات لا نهائية من المغامرة والتجديد والحداثة والتجريب. كان يكتب شعره بحرارة وتوقد منقطع النظير، عبر مراحل حياته هاربًا ولاجئًا ومشردًا ومتسللًا ومعتقلًا وسجينًا ومناضلًا وعاشقًا وفاقدًا ومفقودًا، ليصبح رمزًا ثقافيةً إبداعيًا فلسطينيًا عربيًا عالميًا، ويترك أثره عميقًا على الثقافة العربية، رغم مروره السريع على هذه الأرض.
أما الفنان الكويتي عبدالحسين عبد الرضا، فقد رحل عن عالمنا قبل أربعة أعوام، بتاريخ الحادي عشر من أغسطس 2017، في أحد مستشفيات لندن، عن عمر يناهز ثمانية وسبعين عامًا. لم يكن عبدالحسين مجرد ممثل موهوب فحسب، بل كان عبقرية فنية شاملة، وتجربة مؤسسة في مجال الدراما الكويتية والخليجية، التي دخلها وهي في بداياتها الأولى وغادرها وهي في أوج توهجها وحضورها وتطورها على كافة المستويات.
ببساطته وعفويته وجرأته وعطائه الغزير والنوعي في المسرح والأعمال التلفزيونية رسخ عبدالحسين حضوره في الوجدان العربي والخليجي، وبات أيقونة فنية تعشقها القلوب. ومن المثير في تجربة عبدالحسين عبدالرضا أنه في كل أدواره يظهر بشخصيته الكاريزمية المعروفة، رغم تعدد الأدوار، فإن شخصيته شبه ثابتة، وأسلوبه لم يتغير طوال حياته، سواء في الأعمال المسرحية أو الدراما التلفزيونية، دون أن يتسبب ذلك في ملل الجمهور من هذه الشخصية التي كرسها عبدالحسين طيلة مشواره الفني، التي كان يظهر بها حتى في لقاءاته الإعلامية، دون تصنع أو زيف.
وكما يشترك عبدالحسين مع طلال مداح في تاريخ الوفاة الذي يوافق الحادي عشر من أغسطس، فإنه يماثله أيضا في التواضع وطيبة القلب والبذل والسخاء والقرب من الناس، ما جعله محبوبا بأخلاقه وسجاياه لدى الجميع.
وأخيرًا لابد من الإشارة أنه ليس الرحيل في شهر أغسطس هو ما يجمع بين نهايات هؤلاء المبدعين الثلاثة الكبار، وإنما ثمة عامل مشترك آخر، وهو سبب الوفاة. فمن المفارقات القدرية الكبيرة أنهم جميعًا ماتوا بسبب مرض القلب واعتلاله، إذ سقط طلال مداح بسبب قصور في القلب الذي كان يعاني منه، ولكنه أصر على صعود المسرح ليلبي رغبة عشاقه رغم معاناته الشديدة، إلا أن القلب المنهك خذله في اللحظة الأخير ليخر صريعًا من على كرسيه في مشهد مأساوي ما زال عالقًا في الذاكرة.
الشاعر محمود درويش أيضًا مات في المستشفى في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد إجراء عملية القلب المفتوح. ومثله الفنان عبدالحسين عبدالرضا الذي توفي كذلك إثر إجرائه لعملية القلب المفتوح في العاصمة البريطانية لندن. إن لنا أن نتخيل كم كانت هذه القلوب المرهفة تعاني وتتألم لتقدم للعالم خلاصة روحها وفنها العظيم، في حين تتحمل قبح هذا العالم وبشاعته وويلاته.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الثلاثة جميعهم حظوا بتخليد أسمائهم على معالم وصروح فنية وحضارية في بلدانهم. إذ أطلق على مسرح المفتاحة في أبها بالمملكة العربية السعودية (مسرح طلال مداح)، فيما أقيم لمحمود درويش محتفٌ يحمل اسمه في رام الله الفلسطينية. أما عبدالحسين عبدالرضا فقد أنشئ مسرح باسمه في منطقة السالمية بالكويت وافتتح قبل وفاته بعام واحد، بحضوره شخصيًا.