بدر العبري
ليف تولستوي [ت 1910م] مصلح وأديب مسيحي روسي، أنهى مقالته الطّويلة: ما الدّين؟ وأين يكمن جوهره؟ عام 1902م، الّتي طبعت ضمن نصّ في كتاب: في الدّين والعقل والفلسفة، وتولستوي لم يخرج من الإطار اللّاهوتي، ولكنّه لم يفصل الجانب الإنساني عن هذه العلاقة الّتي يسميها بين الإنسان واللّامتناهي من جهة، وبين الإنسان والعالم من جهة ثانية، إلا أنّه يرى ضرورة حضور العقل في هذه العلاقة، وحضوره يجمع بين تفعيل الدّين في خدمة البشريّة جميعا في ضوء مبدأ المساوة من جهة، وفي تطوير هذا الدّين ذاته بما توصل إليه العلم من جهة ثانيّة بما يحقق مبدأ المساواة والوحدة بين البشريّة.
فيرى تولستوي أنّ «العقل هو القوّة الّتي تمكّن البشر من تحديد علاقتهم بالعالم، وكما أنّ البشر جميعهم في مصاف واحد من ناحية وجود علاقة تربطهم بالعالم، فكذلك الدّين الّذي يؤسس لهذه العلاقة يوحّد البشر، وتؤدي هذه الوحدة إلى رخاء البشر روحيّا وماديّا»، لهذا «إذا حاد العقل عن دوره الطّبيعيّ في تأسيس العلاقة مع الله، والنّشاط الّذي يتلاءم مع هذه العلاقة، لا يوجه البشر فقط لخدمة أهوائهم، ولا حتّى حرب شريرة بين البشر بعضهم وبعض، بل يبرر هذه الحياة الشّريرة المتناقضة لسمات ودور الإنسان، فتحدث هذه المجاعات المريعة الّتي يعاني منها الآن معظم البشر، وتصبح العودة إلى هذه الحياة العاقلة والصّالحة مستحيلة تقريبا».
فالدّين عنده «هو الّذي توافق مع العقل ومعرفة الإنسان، ويحدّد علاقته بالحياة اللّانهائيّة من حوله»، وبالتّالي التّطور ملازم لأيّ دين، «فليس الدّين إيمانا يتأسس مرة واحدة في العمر كاملا، كالخرافات والصّلوات والطّقوس العبثيّة الشّهيرة …. بل يشكل الدّين علاقة الإنسان بالله القابلة للتّطوير بشكل يتّفق مع العقل ومعارف الإنسان، وهذه العلاقة من شأنها أن تحرك الإنسانيّة للأمام ….».
لهذا يرى أنّ فكرة التّطور في الأديان يلزم منها تعدد الأديان، وهو شكل طبيعيّ جدّا، ويعلل ذلك قائلا: «لأنّ التّعبير عن طبيعة العلاقة الّتي تربط بين الإنسان واللّانهائي – الله أو الآلهة – مختلفة من زمان لآخر، وحسب درجة تطوّر الشّعوب المختلفة»، وهنا يضرب مثلا أنّ «في الدّين البرهمي العميق …. بمجرد أن شاخ وبدأ في الذّبول مبتعدا عن فكرته الرّئيسة، متحوّلا إلى عقائد متحجرة، ظهرت من إحدى الجوانب حركة إعادة بعث للبرهميّة، ومن ناحية أخرى تعاليم البوذيّة الّتي عملت على تقدّم فهم الإنسانيّة في علاقتها باللّانهائيّ، نفس الانحطاط حدث مع الأديان اليونانيّة والرّومانيّة، والّذي تلاه ظهور المسيحيّة، الأمر ذاته مع المسيحيّة الكنسيّة والّتي انحطت في بيزنطة إلى مستوى الوثنيّة وتعدد الآلهة، بينما على الجانب الآخر من هذه المسيحيّة المشوهة ظهرت من جانب الحركة البولسيّة، ومن جانب آخر ظهر الإسلام بعقيدته التّوحيديّة الصّارمة ردّا على عقيدة التّثليث وعبادة العذراء، الأمر ذاته مع مسيحيّة القرون الوسطى البابويّة، وردّا عليها ظهرت تعاليم الإصلاح الدّيني».
بيد أنّ دخول السّلطة، والمصالح النّفعيّة كما يرى تولستوي أحدثت انحرافا في الدّين، وبالتّالي تولدت تحريفات داخليّة مضافة إلى النّص الديني نفسه، فكل دين يولد بسيطا ثم يتضخم تأريخيّا، وهذا التّضخم يتزاوج مع المصالح النّفعيّة لفئة من النّاس [سياسيّا، دينيّا، اجتماعيّا]، فيكون العقل خادما في تفعيل هذه النّفعيّة باسم العلم الدّيني، لا أن يكون خادما للدّين الحقيقي لا التّأريخي، وهذا لا يكمن إلا بالعودة من خلال العلاقة بين الإنسان واللّامتناهي شريطة أن لا يخرج إلا من خلال الوحدة بين البشر جميعا، فكلّ دين «يؤسس لعلاقة بين الإنسان واللّانهائي، وهي علاقة واحدة لكلّ البشر …. لذا يحوي كلّ دين مفهوم مساواة جميع البشر أمام من يدعونه إلها»، فلهذا يرى تولستوي أنّه لا يمكن فصل هذه العلاقة عن مبدأ المساواة، وهي الّتي جاءت الأديان لتقريرها.
ومن خلال هذا المبدأ يظهر مدى التّحريف الّذي أضيف إلى هذه الأديان والابتعاد عن جوهره، فهي في الابتداء جاءت مؤكدة أنّ «مفهوم مساواة البشر يشكّل سمة رئيسة في كلّ دين»، بيد أنّه يطرح تساؤلا تعجبيّا من خلال القراءة التّأريخيّة لكلّ دين، فيخلص «في الواقع لم تحدث في أيّ وقت، وفي أيّ مكان مساواة حقيقيّة بين البشر، وهي ليست موجودة الآن أيضا»، فهل الأديان فشلت في تحقيق هذه المساواة، أو انحراف حدث في ذاتها؟ فالأديان أفقيّا من مبادئها الواضحة المساواة، وجاءت لتحقيقها بين البشر، إلا أنّ هذه القيمة انحرفت لسببين، الأول: تّأثير النّفعية البرجماتيّة على الدّين نفسه لكن ليس باسم المجموعة، وإنّما باسم فئة منتفعة من هذا الدّين ذاته: « فكلما يظهر تعليم ديني جديد يحوي في تعاليمه المساواة بين البشر، يحدث مثلما يحدث مع النّاس في الواقع، يحاول المنتفعون من عدم مساواة البشر أن يخفوا هذه [القيم] الرّئيسة للتّعليم الدّيني بتشويه أصل هذا التّعليم …. ينتج فقط بسبب أنّ المستفيدين من اللامساواة بين البشر، الموجودين في السّلطة والأغنياء … وحتّى يبرروا موقفهم أمام أنفسهم دون أن يغيروا من أوضاعهم، يحاولون بكل ما لديهم من قوّة أن يلصقوا بالدّين تعليما يمكن أن يكون فيه عدم المساواة ممكنا، وينتج عن ذلك حتما أنّ دينا يتم تحريفه يمكن لمن يتسلّط فيه على الآخرين أن يجد لنفسه مبررا، ينتقل إلى العامة أيضا، ويوحي إليهم أنّ خضوعهم لمن يتسلطون عليهم أمر من متطلبات الدّين الأساسيّة».
والسّبب الثّاني أنّ هذه القيمة تغيّب مقابل طقوس وخرافات فتغيب أدبيات القيمة ذاتها «مثل: عامل الآخرين كما تحبّ أن يعاملوك …. لا تستغل احتياجات إخوتك من أجل تلبية رغباتك أو رغبات آخرين، أن تكون موحية بقوّة وملزمة للبشر، مثل الإيمان بقداسة القربان، والأيقونات عند النّاس …».
ولكون تولستوي مسيحيّا، ويناقش المجتمع المسيحيّ، نجده يناقش مبدأ المساواة في المسيحيّة، وكيف استطاعوا تحريفه في الدّين المسيحيّ ذاته منذ فترة مبكرة جدّا، حيث يرى أنّ «المسيحيّة قد أعلنت أنّ مساواة البشر لا تنتج فقط عن علاقة البشر بالله اللّانهائي، بل إنّها تعليم رئيسي عن أخوّة البشر جميعا، كما أنّ البشر جميعا أبناء الله، لذلك يبدو من المستحيل تحريف المسيحيّة كي نزيل حالة مساواة البشر بينهم وبين أنفسهم»، وهذا من قراءته لأصل النّص المسيحيّ، إلا أنّ التّأريخ كما يقول أثبت العكس، فيدرك أنّ «العقل الإنساني مراوغ، وبلا وعي أو بنصف وعي تمّ ابتكار طريقة جديد للمراوغة … كي تجعل من التّحذيرات الإنجيليّة، والتّصريحات الواضحة عن مساواة كافّة البشر غير حقيقيّة، هذا العمل البارع بتأسيس [العصمة] ليس فقط لكتابات معينة، بل لبشر معينيين أيضا، تعيّنهم الكنيسة، ولديهم الحق في نقل هذه العصمة لأناس آخرين يقومون بدورهم …]، وهكذا عن طريق هذا الكهنوت انتقلت العصمة من النّص إلى بشر مثلنا، وبهم غلبت النّفعيّة والتّحريف في صرف هذه المساواة الّتي جاءت بها حقيقة الدّين المسيحيّ.
ومع بداية عصر التّنوير، وظهور العلمويّة في الغرب، التفت الفلاسفة والعلمويون إلى مبدأ المساواة من جديد في ظلّه النّاسوتي الشّامل عند الفلاسفة الشّموليين، أو النّاسوتي الخاضع للعلمويّة عند التّجريبيين والعلمويين، وهؤلاء أدركوا أن الدّين بالكليّة ضدّ المساواة، وقسّموا العصور – كما يرى تولستوي – إلى ثلاثة عصور: العصر الدّيني، والعصر الميتافيزيقي، وعصر العلم القطعيّ، ونحن نعيش العصر الثّالث، لهذا رأى العلمويون «أنّ احتياجنا إلى الإيمان بالدّين قد انهار»، وأنّ الدّين «صار عنصرا ضارا بحياة المجتمع»، لهذا يرى تولستوي أنّ سبب هذه الرّؤية ليس الدّين ذاته، بل أنّ السّبب الحقيقي أنّه «في كافة المجتمعات الإنسانيّة وفي فترات معينة من حياة تلك المجتمعات دائما ما حلّت بعض الأوقات التي انحرف فيها الدّين عن معناه الحقيقي، ثمّ أخذ هذا الانحراف يزيد أكثر فأكثر، حتّى فقد الدّين معناه الرّئيس، وحين تحوّل إلى صيغ متحجرة أخذ يذبل، ومن ثم أخذ تأثيره على حياة النّاس يضعف أكثر فأكثر»، وقد قدّم فلسفته في هذه من خلال العلاقة بالإنسان مع اللّامتناهي في ضوء فلسفة الدّين والأخلاق والعلم، ويصعب هنا بيانه والإسهاب فيه لضيق المقالة.
إلا أنّه كما جملة يرى أنّ الانحراف في تحقيق مبدأ المساواة لم يقتصر عند الدّين نفسه؛ بل حتّى في ضوء الدّول المبنيّة على دساتير الأصل أنها حافظة لقيمة هذه المساواة، فيجد التّناقض في التّطبيق ليس تحت مظلّة الدّين؛ بل حتّى تحت مظلّة الدّولة ذاتها، فأمّا عن الأول فيرى تولستوي «كما أنّ كافّة البشر إخوة ومتساوون؛ فعلى كلّ منهم أن يتصرف مع الآخرين كما يريد الآخرون أن يتصرفوا معه، لذا فالأمر كلّه يعتمد على ترك القانون الدّيني الكاذب، ولكن الأمر لا يقتصر على أنّ مثقفي العالم المسيحي لم يفعلوا ذلك؛ بل على النّقيض من ذلك، يحاولون أيضا إخفاء إمكانيّة هذا الحل عن النّاس، ومن أجل القيم بذلك يقومون بكلّ هذه الجهود العقليّة البطّالة الّتي يطلقون عليها اسم «علم» أي العلم الدّيني.
وأمّا عن الدّولة فيرى أنّهم «يكتبون مئات الكتب عن المبادئ المختلفة: المدنيّة، والجنائيّة، الشّرطيّة، والكنسيّة، والماليّة… الخ، ويتحدّثون ويتجادلون وهم على ثقة كاملة أنّ ما يفعلونه مفيد… ولكن التّساؤل عن سبب إمكانيّة إدانة وإجبار بشر متساويين بالطّبيعة، وسلبهم وإعدامهم، لا يجيبون عنه أبدا… هذا العنف لا يقوم به النّاس، بل كائن مجرد يدعى الدّولة».
هذه المقاربة الّتي قدّمها تولستوي قبل مائة سنة ينطلق من خلاصة الفكر الإنساني أنّ فهم الأديان وتحليلها لا ينطلق من الدّين التّأريخي، بل من القيم الكبرى المطلقة بين البشر جميعا والمرتبطة بالإنسان، والمحددة علاقتها باللّامتناهي، وهي الّتي جاءت الأديان الحقيقيّة في بساطتها لتفعيلها، فكلما اقتربنا منها لن نجد فارقا كبيرا بينها وبين العلم والفلسفة، بل تساهم بشكل كبير في رقي المجتمع الإنسانيّ أخلاقيّا وروحيّا.