قراءة – عامر بن عبدالله الأنصاري تصوير: عبدالملك الدغيشي
قصيدة الشاعر موسى بن قسور العامري «ملحمةُ الوفاء..لسمائل الفيحاء» نموذجا
يرتبط الإنسان بأرضه وبيئته التي نشأ فيها، وخير الإنسان من لا يمل أرضه، ولا يضجر منها مع مرور الزمان، فيعيش روعة أرضه -الحسية والمعنوية- كل يوم بشكل آخر، يزيد حبا وتعلقا بها وبهضابها وسهولها وتفاصيلها يوما بعد آخر، حتى تكون الأرض بالنسبة له جنة الدنيا ونعيمها وحديقتها الغناء، هكذا يرى الشاعر موسى بن قسور العامري ولاية سمائل بمجملها، فلا يفرق قرية عن قرية، فجميع قرى الولاية العريقة في نظره زهور في بستان الولاية، وكلاها ذات بهاء فريد، ليحدو الشاعر بفكره، مستلا قلمه البديع، ليسطر قصيدة في حب سمائل عنونها بـ «ملحمةُ الوفاء.. لسمائل الفيحاء»، فتجود قريحته الخصبة بأكثر من 100 بيت، ولسان حاله يقول «مهما كتبت أبقى عاجزا عن الوفاء لأرض سمائل».
وزع الشاعر قصيدته على مقطوعات، ويقول في المقطوعة الأولى:
قبسٌ من الأنوارِ يَطرقُ بابي
يَهوي مِنَ الشُرفاتِ فوقَ كتابي
والشمسُ تَجري لا أملُ ضياءَها
وسناؤها قد زادَ مِنْ إعجابي
تُغري البكورَ بلونِها وجمالِها
وبحُسنِها ووميضِها الوثابِ
في روضةِ (الفيحاءِ) تَنْشُرُ سِحرَها
كفراشةٍ بحديقةِ اللَبلابِ
فأتيتُها صباً أهيمُ بحسنِها
ولها غدوتُ مفتِّحاً أبوابي
ولها نَخيلُ الحقلِ تَرسُمُ لوحةً
وظِلالُها تبدو كلبسِ نقابِ
ما أجملَ (الفيحا) سناءُ صباحِها
وسنا المسا ككواعبٍ أترابِ
قدْ رسَّختْ فينا (سمائلُ) حُبَها
كالشجرةِ الخضراءِ بينَ روابي
أنهارُها تُعطي الجَداولَ رونقاً
تَكسو الحقولَ الزهرَ كالأثوابِ
فترى- المُحيدثَ- باهراً بجمالهِ
يحنو بصوتِ خريرهِ المُنسابِ
وترى (المُريفعَ) كوثراً مترقرقاً
ونميرهُ يجري بعذبِ شرابِ
ولموردِ (الحيليْ) خريرٌ ساحرٌ
عذبٌ زلالٌ مثلَ شهدِ رُضابِ
و(الفرسخيُ) جرى نميراً زاخراً
بالجودِ والإكرامِ والإخصابِ
وأميرُها (السمديُ) نهرٌ سيدٌ
يَسقي سمائلَ واكفاً كسحابِ
وترى (الدِغالي) في الضواحي ساجداً
ويطوفُ بينَ النخلِ والأبوابِ
وكأنَّ (بلفاعيْ) جرى متمايساً
يفترُ عشقاً ثائراً بعُبابِ
وكذاك (بوغولٍ) تدفق كوثراً
يروي هوى (القلعيِّ) في إطراب
روضٌ منَ (الحيقيْ) تفتَّحَ زهرُهُ
وله ابتسامٌ ساحرُ الألباب
وبجدولِ (الزِغليْ) أريجُ خمائلٍ
ينسابُ كالترياقِ في الأكوابِ
نهرُ (الصَغْيرِ) شدى ببوحِ خريرهِ
يطوي زمانَ المحلِ والأوصابِ
وترى (غويزَ المرِ) فوق أديمهِ
يروي قلوبَ النخلِ كالميزابِ
والدنُ (والخوبارُ) يجري ماؤها
و(أبو دُجالة) بالندى الجذابِ
(فاروهُ) يجري بالصفا شَريَانُها
و(بمزرعِ) النهرينِ طميُ تراب
وإذا (العُوينةُ) عايَنَتكْ عيونُها
فتملَّ فيها صنعةَ الوهابِ
(هصاصُ) تبدو للعيونِ كزهرةٍ
(لزغٌ) تَفوحُ بعطرِها المنسابِ
و(سرورُ) زانَ الحُسنُ في أفيائِها
والماءُ طابَ بروضةٍ وشعابِ
وبساحةِ (الرمْرَامي) عزمُ أماجدٍ
(وبصميةِ) الأوتادِ درعُ حرابِ
و(ندابُ) حوراءُ الجمالِ بهيةٌ
(أنفاقُها) تَبدو كعينِ عقابِ
و(الدسرُ) و(العقُ) اكتست بثمارِها
نحو السموِ محاطةٌ بعقابِ
ومزارعُ (السيجاني) عقدٌ لامعٌ
فوقَ المتونِ مشارفٌ (لكعابِ)
و(بصومِرا) يَجري هواءُ خمائلٍ
فترى الصفاءَ يَبوحُ بالإعجابِ
وبمسرحِ (الجرداءِ) عطرُ نسائمٍ
أرضُ الكرامِ معاليَ الأنسابِ
(وبوادي سَقْطٍ) ربوةٌ بظِلالِها
يَسري النسيمُ معتقاً كشرابِ
و(لوادي محرمَ) شعلةٌ فوقَ الذرى
وادٍ حدا للضيفِ بالترحابِ
يُهديهِ (وادي بني رواحةَ) عطرَهُ
يَعلُوهُ (رضوى) الوردِ والأعشابِ
وبِقريةِ (الفلجينِ) سرُ مكافحٍ
ساقتْ لها المسقاةُ بوحَ شعابِ
(فلجُ المَراغةِ) واحةٌ سحريةٌ
(سيجاءْ) (وبوري) مُلتقى الرُّكابِ
(هيلٌ) (ووادي الهوبِ) سرُ مآذنٍ
أرضُ البطولةِ معقلُ الأنجابِ
و(البيرُ) مثلَ الكحلِ بين نواظرٍ
قممُ الرواسي فوقها كسحابِ
و(الجَيلةُ) المُنسابُ منها ماؤها
غذبٌ زلالٌ مر بي فصحا بي
و(بفيحةٍ) الأفنانِ صوتُ سرِيِّها
كحفيفِ حقلِ النخلِ والأعنابِ
ضمتْ (سمائلُ) أنهراً تَعدَادُها
مئتانِ إلا ستةً بحسابِ
والحصنُ والشهباءُ تاريخٌ لها
دوتْ بصوتِ الحقِ في الأحقابِ
أَهدى لها (الباروني) صرحَ معارفٍ
فغدت منارَ القلبِ و الألبابِ
* * * * * *
يسترسل الشاعر موسى بن قسور العامري في ملحمته بوصف سمائل الفيحاء، واصفا شروق الشمس فيها، مصورا هذا الشروق كلوحة فنية ألوانها الحروف، فتشمل هذه اللوحة شروق الشمس وجداول الماء والنخيل الباسقات، لكنها لوحة نسجت من الحرف البديع لتكون في ذهن المتلقي مشهدا متكاملا مليئا بالحياة وخرير المياه وتغريد الطيور، لوحة لا تعرف حدود الأضلاع، مداها طويل يمتد ليشكل مشهدا بانوراميا حيا، فتلك المآذن تنتشر بربوعها، وتناطح النخيل الوافرة، فلا تمر بقرية أو شارع إلا والمساجد بها تلبي بصوت الأذان والإيمان، بل حتى أن خيرات تلك الأرض لا تنضب وكأنها صدقة جارية، فلا ترد السائل ولا المحتاج، بل خيرها وافر كظلالها، ويسترسل الشاعر في المقطع الثاني قائلا.
نَفَسُ الصباحِ مع الضياءِ تعانقا
في روضكِ (الفيحاءُ) عزُ ترابي
عشقي {سمائلُ} لا مجالَ لوصفهِ
أتلوهُ كلَّ العمرِ دونَ حسابِ
الماءُ إذ ينسابُ.. نغمةَ عاشقٍ
والطيرُ يَشدوا بالهوى الغلّابِ
ولقد تحيرَ من رآني هائماً
أُهديكِ شعري بين نورِ قبابي
وغدا يساؤلُني وأردفَ.. قائلا
ماذا ..(سمائلُ) هل لنا بجوابِ؟
فأجبتهُ.. هي في الحياةِ محبتي
هي موطني هي نخلتي وترابي
هي طلعةُ الأزهارِ بين خمائلٍ
أهفو لها مع جملةِ الأصحابِ
وبأضلعي يَسري هواها غيمةً
جادتْ بغيثِ الخصبِ فوقَ يبابي
وأرى سناها سابحاً يعلو الذُّرى
وأراهُ يَسطعُ في السما كشهابِ
وأراهُ في سعفِ النخيلِ قلائداً
وعلى الكفوفِ مضمخاً كخضابِ
ويَمرُ في الحاراتِ يَسحبُ ثوبَهُ
دلّاً على الأسماءِ و الألقابِ
ولهُ المآذنُ صادحاتُ بالنِدا
الله أكبرُ رحلتي وإيابي
وأرى الورودَ الحانياتِ كأنَّها
كأسٌ تدلى مترعٌ بشرابِ
فلأنتِ فجرٌ ضاحِكٌ فوقَ الربى
أطوي به ما كانَ من أوصابِ
عبرَ الزمانِ – سمائلٌ – قطرُ الندى
وصبا الخمائلِ نفحةُ الأطيابِ
فشربتُ من أنوارِها كأسَ الهُدى
وغزلتُ من هدي التقاةِ ثيابي
حبي لها ولأهلِها ولأرضِها
أفشى السرائرَ كُلَها بخطابي
هي ناولتني كأسَها فشربتُهُ
وملأتُ من أفلاجِها أكوابي
هي غرةُ الأسماءِ بين مدائني
هي ساحةُ العلماءِ والأقطابِ
هي منبرُ الخطباءِ سرُ رسوخِهمْ
هي ملتقى الأصحابِ و الأحبابِ
هي مربعُ الأجدادِ مجدٌ خالدٌ
هي مولدي وطفولتي وشبابي
هي أسطرُ الكلماتِ بوحُ قصائدي
هي أحرفُ الشعراءِ والكتَّابِ
هي معبرُ السلاكِ زورقُ سيرِهمْ
غيثٌ رواني بعد طولِ غيابِ
هي بسمتي وتحيتي ومشاعري
هي ثورةُ الأشجانِ وسطَ لبابي
هي قصتي هي فكرتي وخواطري
هي دفتري وروايتي وكتابي
هي طُورُ قلبي والمدائنُ والعصا
هي مِنبري و تَساؤلي وجوابي
هي خلوتي هي منْسَكي هي مسجدي
هي موردي هي دعوتي وثوابي
أشتاقُها وأنا بها هي فرحتي
هي مقصِدي وبها أنختُ ركابي
إن غِبتُ عنها لا أطُيقُ فِراقها
كم ذابَ قلبي للقا وحدا بي
يا قلبُ قفْ هذي سمائلُ موطني
والمجدُ فيها ثمرةُ الأسبابِ
قفْ شامخاً متواضعاً متبسماً
قفْ بالجمالِ الباذخِ الخلّابِ
قف ذاكراً للهِ تُبدي شكرَهُ
(فسمائلٌ) هي روضةُ المحرابِ
قف منشداً مترنماً بمدائحٍ
(فسمائلٌ) هي ساحةُ الآدابِ
قفْ بالرواسي الشامخاتِ تأملا
وانظرْ لحسنِ جبالِها ورحابِ
قفْ ناشراً عطرَ المحبةِ والوفا
(فسمائلٌ) هي رايةٌ لقبابِ
وسمائلٌ رئتي أعيشُ بجوِها
نَفَسَاً يضمخُني شذا الأطيابِ
وأنا بها طيرٌ يحلقُ عالياً
(فسمائلٌ) هي عودتي وذهابي
قفْ صادحاً بالشعر ِبين خمائلٍ
تلقَ الصفا يلتاحُ في إطرابِ
هذا القريضُ غدا هواهُ مسطراً
يُنبي عن الأعلامِ و الأنجابِ
إني رأيتُكِ يا (سمائلُ) للورى
معشوقةً تربو على الأترابِ
نفسي فداكِ (سمائلٌ) يا جنتي
بلدُ الهُدى ومنصةُ الألبابِ
يا كعبةَ الأعلامِ أرضُكِ قبلةٌ
مهوى (الإمامِ) وموردُ الأقطابِ
ومنارةُ التاريخِ عانقَكِ الهُدى
عبرَ السنينِ عريقةُ الأعتابِ
كم أشرقتْ فيكِ القلوبُ بنُورِها
بمجالسِ العبادِ والطلابِ
أرضُ الجمالِ زرعتُ فيكِ مشاعري
وعلى المآذنِ وقِفتي وخِطابي
يا حبرَ أقلامي وصوتَ قصائدي
ولبحرِ شعري قاربي وعبابي
حباً خصصتُ (سمائلا) بقصيدتي
فسمائلٌ هي نِعمةُ الوهابِ
*******
يغوص الشاعر في تاريخ سمائل، ذاكرا رجالاتها، وتاريخها الغزير بالعلماء النجباء الذين ولدتهم أرض سمائل، بالشخوص التاريخية، مستذكرا فضائل الصحابي الجليل مازن بن غضوبة وقصته ولقاءه بالنبي عليه أفضل الصلاة والسلام، ليعود إلى عمان مخلدا اسمه «الصحابي الجليل مازن بن عضوبة»، ويصدق الشاعر قولي في بداية هذه القراءة من أن لسان حاله يقول «مهما كتبت أبقى عاجزا عن الوفاء لأرض سمائل»، فيظهر هذا الإحساس جليا في مقطع الملحة الأخير قائلا « فالشعر يَقصُرُ يا سنا الأحقابِ؟»، وكعادة الشعراء ذوي النشأة المتمسكة بالدين الحنيف، والطريق المستنير يختتم الشاعر قصيدته مصليا على رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم وعلى آله وصحبه أجمعين، فيقول في المقطع الثالث والأخير:
إني أُحِبُكِ يا سمائلُ فطرةً
وعشقتُ فيكِ منازلَ الأحبابِ
وسلكتُ فجَ النخلِ درباً أخضراً
ورتعتُ تحتَ أساورِ الأعنابِ
وذكرتُ فيكِ مسارحي ومعاهدي
ومسالكي وتسامرَ الأصحابِ
ورأيتُ قلبي في هواكِ متيماً
يتلو نشيدَ الحبِ والإعجابِ
والروحُ ذابتْ في الجمالِ كأنها
قطعٌ مِنَ الحلوى بريقِ لعابِ
تبدينَ للعينينِ سحراً فاتناً
حسناءَ فاقتْ رقةَ الجِلبابِ
لله سرٌ في هواكِ وفي الثرى
سكنتْ إليهِ هواتفُ الأقطابِ
في (الدقدقينِ) منابرٌ وعمائمٌ
أحيتْ نفوسَ أشاوسِ الأعقابِ
أرخى لها بالصدقِ مازنُ إنهُ
نهرُ الفضائلِ عاليَ الأحسابِ
قد سارَ (مازنُ) للعلا بعزيمةٍ
وسرى كنجمٍ ليس بالمُرتابِ
وسعى إلى الإسلام ِفوقَ مطيةٍ
خبتْ لنورِ الكونِ بين هِضابِ
يطوي الفيافي والحنينُ يشدُهُ
لقي النبيَ فعادَ وهو صحابي
دخلَ (المدينةَ) فاحتمى بالمصطفى
متحرراً من ظلمةٍ وعذابِ
والكلُّ يتلو مِنْ عزيمةِ (مازنٍ)
سراً غدا المشكاةَ في الأصلابِ
ماذا سنكتُبُ يا سمائلُ للورى؟
فالشعر يَقصُرُ يا سنا الأحقابِ؟
العينُ سَكرى من رباكِ على المَدى
يا راحةً للفكرِ والأعصابِ
أنا ابنُكِ الآتي بكلِّ صَبَابتي
أنا جئتُ منكِ إليكِ أنتِ مآبي
يا جنةً معروشةً بنخِيلِها
أهديكِ قلبي حارساً بالبابِ
ونقشتُ اسمَكِ بالمحبةِ خاتَمَاً
وسطَ الفؤادِ محصناً بحجابِ
وصلاةُ ربي خيرُها للمصطفى
مسكُ الختامِ وحلَةٌ لخِطابي
وكذا السلامُ معطراً لمقامهِ
وعلى جميعِ الآلِ والأصحابِ