رغم كل ما يعتنق البشر من يقين عن الثابتين ؛ الموت والحياة، إلا أن فكرة الموت ما زالت فكرة جدلية لم يبلغ الإنسان سرها ، ولم يسلّم بتقبلها .
يقين الاعتراف بالموت حقيقة مطلقة ، كالميلاد والحياة تماما ، ورغم تقبل الإنسان لحقيقتي الميلاد والحياة ، وادعائه التسليم بحقيقة الموت ، إلا أنه ما زال عاجزا عن فهم صدمته الأبدية إزاء الموت ، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ )
من هو المنشغل بفكرة الموت وتجلياتها ومخاوفها ؟ يقينا لن يكون الميت ، فلماذا ينشغل الأحياء بالموت وهم يعرفونه قدرا مؤجلا طال أم قصر ؟
بين الفكرة الأولى للموت في انفصال الروح عن الجسد فيزيقيا، والفكرة الميتافيزيقية المرتبطة بما بعد الموت ، وسعي الإنسان للخلود عبر أثر يضمن بقاءه بعد رحيله الفيزيقي ، قيميّا كان ذلك الأثرُ أو فنيا أو أدبيا، كان هذا البقاء فكرة يتأرجح الإنسان فيها ومعها .
ما الذي يخشاه الإنسان من الموت إن كان يدرك حتميته ؟ ، حين نسقط هذا السؤال على أنفسنا قد لا نبعد عن أمرين ؛ أما الأول فهو تمثل أنفسنا بعد الموت، و خشية ما سنؤول إليه بعد فراق الجسد ، إما متشبثين بالحياة أو خائفين من مصيرنا بعد الحياة ، وأما الثاني فهو تمثل الأموات قبلنا ، و الفراق الذي يسلمنا إلى ما كنا نؤمن به ونخشاه في آن ؛ إنه تحقق الموت في قريب مفارق أو عزيز غيّبه الموت .
نواجه موتا قريبا فنلمس إشعارا بما تطيّرنا منه ، وما أجّلناه ، وربما ما غفلنا عنه ، أن الموت قريبٌ ، هذه الحقيقة المؤجلة تدنو منا ، تقترب حتى تصيب من نحب ، فلا أقرب من ذلك. نبكي حينها ، لا ذلك الذي نحب وحسب ، بل نبكي أنفسنا في شخصه ونتخيل فراقنا وما قد يعبر مخيلاتنا لحظتها من ذكريات و تأملات ، وتقييم لما أنجزنا أو لم ننجز قبل الموت .
يعتقد بعضنا أن التصالح مع فكرة الموت بالاستعداد لها قد يجعلنا أكثر صلابة في مواجهتها ، وأقل هشاشة حال تلقيها . لكن كيف يمكن الاستعداد لتقبل الموت ؟ بالسعي للخلود في اعتناق مبدأ نذود عنه ، أو قيمة نعليها عبر تبنيها و تأسيس وعي عام بها ، أو أثر جمالي يربطنا بالذاكرة الجمعية المتتابعة بعد موتنا ، كلمة أو فنا .
هل سيشغلنا ذلك بعد الموت ؟ أم هي فكرة ملائكية خيّرة لضمان بقاء الخير والجمال في هذه الأرض وإن فنيت الأجساد تباعا؟ .
أم أنها فكرة منبعها تشبثنا كذلك بالبقاء بعد الموت؟ فإن غادرت أجسادنا التي ما هي إلا أعراض ، نريد ضمان بقاء آثارنا عبر أفكارنا ورؤانا التي نورثها لمن سيأتي بعدنا ممن سيرددون أسماءنا ملتصقة بذلك الإرث الذي يضمن لنا الخلود كما قد نتصور .
نتابع آثار من سبقونا وهي تحمل أشخاص أصحابها فنتخيل أنفسنا بعد قرون ، و جماعات من البشر تعرفنا وتستدل علينا بما كتبنا لأنفسنا من خلود متجاوزين فكرة الموت الفيزيقي إلى الخلود الفكري ، ” فإن كانت كل نفس ذائقة الموت ، فليس كل نفس ذائقة الحياة ” كما يقول جلال الدين الرومي .
وتسلمنا هذه العبارة لتساؤل آخر ؛ هل ينبغي أن نضاعف رغبتنا في الحياة مع يقين الموت بعدها ؟ بإيجابية تامة ودون تحميل الختام ما قد يتراكم عبر مفردة الموت من خوف أو حزن. وإنما التفكير بأن نعيش الحياة بكل تفاصيلها ، و إدراك كل ممكناتها لأن ” الموت يوجع الأحياء ، ولا يوجع الموتى ” كما يقول محمود درويش .
لا ينبغي ليقين ما -كالموت – أن يكون معطلا عن الحياة، التي هي يقين آخر ، وإنما يجب أن نغتنم هذا لتلك ، ونتخفف من قلق التفكير بالموت لنعيش الحياة ، وقد ربط بعض الأدباء ذلك ربطا واقعيا معاشا كما فعل أنطون تشيخوف قائلا: “مع الموت ستكون أنت الرابح الأكبر ، فلا حاجة للهث وراء الطعام ولا الشراب ولا حاجة لدفع الضرائب ولا حاجة أبدا للجدال مع الآخرين ، وبما أنك ستمكث في قبرك لمئات أو آلاف السنين فإن الفائدة العائدة من موتك لا تُقدر بثمن” ، وكذلك يفعل العقاد في نفيه خوفه من الموت قائلا : إذا فاجأني الموت في وقت من الأوقات ، فإنني أصافحه و لا أخافه ، بقدر ما أخاف المرض ، فالمرض ألم مذل لا يحتمل ، لكن الموت ينهي كل شيء.
ولا ينبغي أن تعتبر هذه الفكرة دعوة للموت ، ولكنها محاولة للتخفيف من عبء التفكير في رعب مواجهة الموت .
” لو أنّ الموت، أو الإحساس بالموت يكون قريبا وقويا بالنّسبة للبشر كما هو فعلاً، لأصبح الإنسان أرقى، لكن أكثر براعات هذا المخلوق كيف ينسى أنّ الموت قريب منه هكذا” كما يقول عبد الرحمن منيف ، فما أجمل أن تكون الحياة ملأى بيقين لا يلغي الموت ولا ينكره ، ولكنه يجعله خلفية نتمرأى أمامها مدركين وجوب أن نجعل من هذه الحياة مزرعة للآخرة ، فنجبر قلب هذا ، و نمسح على دمع تلك .
نرعى من نحب بما نملك ، وليس ما نملك بالضرورة ما قد يظن بعض الماديين أو المتشائمين هو المال ، بل ما نملك من كل شيء ، خاصة ما لا يرى وإنما يدرك من شعور أو كلمة أو احتواء .
وفي ذلك كان تشيخوف يوصي كذلك : ” على المرءِ قُبيْلَ الموتِ أنْ يكتُب إلى أقْرب الناس ، وكَان “لايفسكي” يذكُر ذلك ، فرفَع القلَم وكتبَ بخطٍّ مُرتعشٍ: “أمَّاه”