يعني الحديث عن الأسرة الحديث عن المجتمع، عن الانتماء، عن القيم، عن الأصالة، عن الهوية، عن الأمن، عن الاستقرار، فهذه كلها عناوين عريضة على لائحة مسمى “الأسرة” وهذه العناوين تشكل أهمية خاصة، معنية بهذه العلاقة العضوية بين طرفين: طرف تمثله الأسرة بامتدادها التاريخي والحضاري عبر العصور، وطرف ثان؛ هو هذا الإنسان الذي أنشأ أسرة، وانتمى إليها، واحتضن أسرة، وافترق وعاد لأسرة، فالأسرة محطته الأولى، ومآله الأخير، وحتى إن اشتركت معه كل الكائنات النابضة بالحياة في هذه الأهمية، فيبقى للإنسان خصوصية الهاجس النفسي للثقل الذي تمثله الأسرة في مناخاتها الإنسانية الكثيرة، والمتنوعة.
تنجز الأسرة، بغض النظر عن انتمائها الجغرافي، أو الاجتماعي، أو الديني، أو المذهبي، أو العرقي، منجزا هائلا: كميا ونوعيا من القيم الضابطة والمسيرة لحياتها اليومية؛ في مجال مسؤولياتها الاجتماعية، وما يمليها عليها واجبها الاجتماعي/ الإنساني، قد يكون هذا المنجز خاضعا لظروف العصر من الحداثة والعصرنة، ولكنه يحجز مساحته الواسعة في محيطه الاجتماعي، وإن تغرب هذا المحيط عن منبعه الأصل، حيث تمثله الهجرات التي لم تتوقف على مدار التاريخ الإنساني، وهذا التغريب قد يفقده شيئًا من أصالة المنبع، ولكن لن يغير وجهه للانتماء الاجتماعي، وهو الحاضن الأعم في هذا الاتجاه، حيث يبدأ هذا المنجز منذ النشأة الأولى لعمر الأجيال من تربية سلوكية، وتربية ثقافية، وتربية قيم ضابطة للنشاط الإنساني اليومي، وبقدر الإكبار لهذا المنجز الممتد للأسرة، إلا أن المحاولات للانفصام عنه قائمة بين الأجيال، فيما يعرف بـ”صراع الأجيال” فكل جيل يسعى لأن ينفض عنه غبار الجيل السابق؛ ليظهر بشخصية مختلفة، وبسلوك مختلف، وبهيئات مختلفة، وبقناعات مختلفة، كل ذلك للوصول إلى صيغة معبرة عن عصر جديد، وعن أدوات جديدة، وعن رؤى حديثة مغايرة لما هو معتاد، ومعايش، ومقبول في مرحلته الزمنية هذه، أو تلك.
لا تزال المجتمعات الإنسانية تراهن على بقاء الأسر ناصعة السيرة، فاعلة التأثير، قادرة على هضم المتغيرات دون أن تغرب هويتها وانتماءاتها الجغرافية، أو الثقافية، ويأتي هذا الرهان بهذه الرؤية انعكاسًا لما تمثله الأسرة من دور محوري في حياة أفراد المجتمع، لأن أي فرد -شاءت له الظروف والأقدار أن يتربى خارج نطاق أسرة ما- يظل قابلا لغربة الانتماء، وهذا التغريب يمثل خطورةً كبيرةً على البناءات الأصيلة للأسر، ويعمق من مستويات الهوة بين الأفراد والأسر التي ينتمون إليها، فوق ما يخلفه ذلك من أمراض نفسية، واجتماعية، وتربوية، ولعل دور الأيتام التي لا تخلو منها أية دولة كانت هي من يمثل هذه الفئة من الأفراد، ولو أن هناك جهودًا تبذل من قبل الحكومات في تقليص الفوارق الاجتماعية لمثل هذه الفئات على مستوى المحدد الجغرافي الذي تنتمي إليه، أو تعيش بين جوانبه، وذلك عبر برامج عديدة تعمل على إدماج هذه الفئة في المجتمع؛ انطلاقًا من المؤسسات التعليمية -كمرحلة أولى- وصولا إلى المجتمع الكبير كخاتمة لهذا الجهد.
تنشط في أي أسرة -عادة- ملفات كثيرة ومتنوعة، وهذه الملفات من شأنها أن تحدث الكثير التغيرات في مسيرة الأسرة، فقد توقد فيها شرارة التميز والاستحواذ على كم كبير الاهتمام والتقصد، وقد تنزلها منازل الإهمال وعدم الالتفات إليها، ومن هذه الملفات: المستوى الاجتماعي، والمستوى الاقتصادي، والمستوى الثقافي، حيث تحدث هذه الملفات تباينات كثيرة، قد تؤثر على مستوى العلاقات بين الأسر، وتتداخل في هذه الملفات فصول ملونة كثيرة؛ يأتي في مقدمتها: التفاخر، الحداثة والتطور، تاريخ الأسرة، مجموعة تراكم الوجاهات، ولو عفا عليها الزمن، متعلقات ذو القربى، خصوصيات الأسرة ذاتها، ومكوناتها البيولوجية والجينية “الوراثة” “نقي النسب؛ والارتهان عليها على أنه المحدد للأصالة والنقاء، يأتي كذلك ملف تقاطعات ومصالح الأسرة مع غيرها من الأسر، ولعله من أعقد الملفات قديما وحديثا، حيث تقدم خلالها المصالح الآنية، على حساب الغايات الإنسانية من تنشئة الأسر داخل المكون الاجتماعي الكبير، فكثير من الزيجات فشلت؛ لأنها وقعت في فخ المصالح القائمة بين قطبي الأسرتين، حيث ينتصر فيها للذوات أكثر من المصلحة العامة للزوجين، فكل طرف ينتصر لذاته بغض النظر عن مستوى المكاسب المتوقعة للزوجين القادمين، والحرص على إضفاء وشيوع العشرة الطيبة المرتجاة، والنتائج المتوخاة من قدوم الأطفال المعززين للحمة المجتمع ككل، وقدرة الأسرة الحديثة على أخذ موقعها الذي تستحقه على امتداد خارطة المجتمع، ولعل ما يخفف من وطأة الـ”مصالح” ندرتها على مستوى المجتمع الإنساني.
ينظر اليوم -أكثر من أي يوم آخر- إلى تنامي الأسر النووية على حساب الأسر الممتدة “التقليدية” بالكثير من الحذر الشديد، الذي يستنطق مجموعة من القضايا المتوقعة، وبالتالي فإن كانت الأسرة الممتدة كانت بمثابة اليد الضابطة أو الحاكمة لتقلبات الأسر؛ خاصة في نشأتها الأولى؛ فإن التقييم المتحصل اليوم عن الأسر النووية تقييمًا ضعيفًا في مسارات التماسك وحرص الطرفين على استقرار “الأسرة النووية” الصغيرة، مما أثر ذلك على مستوى العلاقات بين أجيال الأسر الواحدة، وتخلخل بنية المجتمع، مع أن نمو الأسر النووية يصبح أمرًا واقعًا لا محيد عنه، وضرورة ملحة تمليه ظروف العصر واحتياجاته ومتطلباته، ومن هنا ينظر أيضًا إلى الضرورة الملحة من وجود بيوت للعجزة تنشئها الجهات المعنية بالرعاية الاجتماعية، مع تحفظ الكثير من أبناء المجتمع في بعض المجتمعات على هذه الفكرة، حيث ينظر إليها على أنها الذاهبة إلى مآلات العقوق، وتراجع بر الأبناء بآبائهم وأمهاتهم، وهذه مسألة تحتمل الكثير من التفسيرات والتعليلات، والأسباب، ولن تقبل على علاتها بصورة مباشرة، ومعتمدة كثيرًا على القناعات.
هناك شعور متزايد بضعف الرعاية الاجتماعية، مقابل استحواذ الصورة الاقتصادية على أغلب الأنشطة الحياتية اليومية للناس، مما أثر -وفق هذه التقييم- سلبًا على المبادرة على الزواج في الأعمار الأولى لحياة الشاب والشابة وإنشاء الأسر، مما أدى إلى استحضار أهمية الأسرة الممتدة التي كان يتكاتف أفراده أكثر على التعاون، وتوزيع ثقل الالتزامات بين أعضائها، على خلاف ما تعيشه الأسرة النووية اليوم، التي تعتمد على قطبيها (الزواج/ الزوجة) في تحمل مسؤوليات الأسرة، ما يتبعها من التزامات كثيرة لم تكن حاضرة بصورة واضحة قبل نشأة الأسرة، مما قد يسبب صدمة معرفية لهذا الواقع، فيؤثر ذلك سلبًا على استمرار حياتهما الزوجية، وهذه أحد الأسباب التي ينظر إليها اليوم في شأن تنامي ارتفاع حالات الطلاق بين الفئة الشابة، وتراجع حالات الزواج في كثير من المجتمعات، ويضاف إلى ذلك الأسباب التقليدية مثل: ارتفاع سن الزواج لدى الطرفين لظروف اقتصادية، واجتماعية، وتعليمية، وتبني ثقافات جديدة في مفهوم العلاقات الزوجية، وخاصة العلاقات قبل الزواج الرسمي، واستحداث أفكار جديدة في شأن الحريات الشخصية لدى الأجيال الحديثة التي تتصادم مباشرة مع قوانين الزواج الشرعي أو القانوني.
هل يمكن القول إن صورة الأسرة المثالية هشمها الواقع بكل تناقضاته، وتصادماته؟ أم أنها لا تزال تحتفظ بالكثير من الوسائل والقيم للحفاظ على هذه المثالية؟ وإلى أي حد يمكن إعادة توازنات الأسرة المثالية في عالم مضطرب بكل معنى الكلمة؟ وهل هذا التهشيم يلامسه شيء من التخطيط؟ أم أن المسألة خاضعة للسياقات الظرفية لمختلف الأحداث التي نعيشها ممن يعنيهم شأن الأسرة؟ وسؤال ختامي: هل هناك خوف على النتائج المتوقعة من انحسار دور الأسرة في ظل هذه الصورة المرتبكة التي تعيشها المجتمعات كلها؛ بلا استثناء؟ أسئلة تظل الإجابة عنها نسبية؛ لأن كل ذلك خاضع لاعتبارات مجتمعية كثيرة، وظروف كل مجتمع على حدة.