الموت نهاية حياة وبداية حياة أخرى، فهو ليس بعدم؛ لأن حياة الإنسان تبتدئ من العدم لتنطلق إلى حيوات أخرى. ولأن العدم ليس بشيء؛ فإن كون الإنسان شيء بدأ بعد حدوث وسينتهي بعد وجود؛ نهايةً تتصل بحياته الدنيا، فهو كائن مطرد في مشوار الخلق والحياة الذي وهبه الله سبحانه وتعالى له.
إن حكاية خلق الإنسان كحدث كوني عظيم من حيث ابتدائه بخلق آدم، كما قال الله تعالى: “إني جاعل في الأرض خليفة” كانت ولا تزال تنطوي على مفارقة عظيمة عن طبيعة الموت ووجوده الضروري لاستمرار هذه الخلافة البشرية لله سبحانه وتعالى. ولكن لأن الإنسان خليفة لله في الأرض، من ناحية، وخليفة لنوعه البشري من حيث شرط الفناء الذي هو طبيعية ذاتية لأفراد الإنسان، من ناحية ثانية، فإن وجود الموت كان هو الضرورة الحتمية لاستمرار هذه الخلافة المعبرة عن ثبات وجود النوع من الانقطاع الدائم على حساب حيوات الأفراد الذين يرحلون بذلك الموت، فتكون الخلافة / الوراثة هي علامة الاستمرار الحيوية لحياة النوع الإنساني على هذه الأرض.
يأتي الموت فاجعا وصادما وغريبا لأول وهلة؛ حين يخطف أحباءنا، (لا سيما في ظل هذه الأيام العصيبة التي لا يزال يعيش العالم فيها تحت وطأة وباء كورونا) ولكن صدمته هذه التي لا نكاد نصدق أنها حقيقة؛ هي جزء ضروري من حياتنا، فالموت هو علامة التذكير الوحيدة لحقيقة الوعي بالفناء وإدراك نهاية طموح الفرد وانطفاء حيويته وفاعليته مهما كانتا عظيمتين وخلاقتين! فكل فرد، مهما كانت عقيدته وأفكاره عن الحياة، يدرك إدراكًا يقينيًا أن الموت هو النهاية الدنيوية للإنسان.
كما أن الموت حين يصبح نهايةً حتميةً لحياة الفرد البشري التي تنطوي مفرداتها على كل ما أنجزه ذلك النوع البشري في هذه الحياة من أعمال الخيال في الآداب والفنون، وفي مختلف ضروب الإبداع المادي للبشر عبر آثار تاريخهم الجمعي على هذه الأرض؛ فإن ذاك كله سيحيل إلى فكرة وجودية عظيمة مفادها: كيف يستقيم أن تنتهي هذه الحياة وتنقطع بفعل ذاتية الفناء الإنساني، فيما الإرادة والخيال الإنسانِيَيْن لاتحدهما حدود؟ وهنا تحديدًا سندرك أن الروح البشرية في علاقتها بالتاريخ ستترك أثرها العظيم والدال على أن ثمة شيء خالد في الإنسان، لكن مأتى خلود ذلك الشيء ليس في جسده المادي وإنما في روحه!
ولعل في هذا المعنى ضرب مما عبر عنه الفيلسوف الألماني العظيم “هيغل ” في كتابه الضخم (فينمنولوجيا الروح). فالروح الإنسانية في جوهرها معطى أبدي، لكن الفناء يتصل بفك علاقتها الدنيوية بالجسد.
هكذا سنجد أن الموت الذي يفجعنا برحيل أحبائنا في أيام صادمة؛ لا تصمد فجيعته في نفوس البشر؛ إذ أن جريان الزمن في حياة الإنسان وانشغالاته كفيل بزوال الصدمة وبقاء الذكرى، كما قال الشاعر أحمد شوقي:
(فارفع لنفسِك بعدَ موتك ذكرَها * فالذكرُ للإنسان عمرٌ ثاني)
إن علاقة الزمن مع الجسد الإنساني هي جولات خاسرة لذلك الجسد بإزاء الزمن؛ لأنه ضرب من صراع الكينونة مع الكون، لكنه، في الوقت نفسه، انعكاس لعلاقة عجيبة بين قوة الموت وصدمته للبشر برحيل أحبائهم، وبين قدرة بحر الزمن على إغراق كل تلك الأحزان في مجراه العابر بالحوادث والانشغالات!
أحدوثة الموت عظة ولفتة دائمة للعقل والضمير البشرِيَيْن على التأمل في معنى حياة الإنسان ووجوده، وحث له على التفكير المستمر حول تلك الطبيعة الإنسانية الفانية، من ناحية الجسد، والباقية من ناحية الروح!
يذكرنا الموت وينسينا الزمن؛ لأن العلاقة بين الزمن والموت هي شرط وقانون الحياة الإنسانية، فإذا كان الزمن – في بعض معانيه -عَرَضًا للمادة (التي تشمل الوجود الإنساني) كما قال القرآن الكريم: (خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور)؛ فإن انفصال المادة عن الروح بالموت، في لحظة من لحظات الوجود الإنساني؛ يذكرنا بأن هناك معنى منقطعًا لحياة الإنسان (إذا ما نظرنا إلى الإنسان بوصفه شكلاً من أشكال المادة) وهو معنى يجب التفكير فيه برؤية تتجاوز التفكير المادي في الحياة الإنسانية.
إن قوة الزمن في قهر أفراد الروح الإنساني، مع بقاء الروح المستمر في الحياة الدنيا، هو الذي عبر عنه الشاعر الكبير أبو العلاء المعري حين قال:
(ولو سارَ جبريلٌ مسافةَ عُمرِهِ من الدَّهْر ِ* ما اسْطَاعَ الخُرُوجَ مِن الدِّهْرِ)