تؤكد التوجيهات التي أصدرها جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- بخصوص تشكيل اللجنة الرئيسية لمشروع تطبيق التعليم المهني والتقني إلى متابعة جلالته للتطورات الجارية في العالم، وعلى ضرورة مواكبة عمان لها ولا سيما في التعليمين الأكاديمي منه والتقني والفني.
التغييرات الكبيرة التي تحصل في العالم تُلغي عددا كبيرا من الوظائف والتخصصات، وتُنشأ وظائف وتخصصات أخرى، حيث أن أكثر الوظائف الإدارية سوف تختفي لصالح الوظائف التقنية والفنية والتحليلية، سوق العمل يشهد تغييرات وتطورات عديدة، ولا بد من متابعتها ومواكبتها والتكيف معها قبل أن يفوتنا قطار التغييرات المنطلق بسرعة هائلة، وإذا لم ننتبه إلى الموضوع ونعطيه الأهمية التي يستحقها؛ فسوف نجد مرة أخرى بأن القوى العاملة الوافدة تستحوذ على سوق الوظائف الفنية والتقنية والمهنية والتحليلية. وعندئذ لا نلومّن إلّا أنفسنا.
هذا المقال هو محاولة لطرح بعض الأفكار عن التغييرات التي أجد ضرورة إحداثها في التعليم ما بعد الأساسي الحالي وضرورة إعطاء أهمية كبيرة للجانب الفني والتقني والمهني.
ما أذكره يُعبر عن وجهة نظري، وأنا واثق أن الآخرين قد تكون لهم وجهات نظر أدق وأوفى، ويطمئنني في كل الأحوال أن اختلاف الآراء مفيد للوصول إلى أفضلها.
يُعتبر التعليم الفني والتقني والصناعي والزراعي والتجاري من الأدوات والآليات الضرورية لتلبية احتياجات سوق العمل، وتحقيق أهداف رؤية عُمان ٢٠٤٠ من أجل الوصول إلى التنمية المستدامة، وإيجاد فرص عمل مجزية للقادمين إلى سوق العمل والتقليل من أعداد القوى العاملة الوافدة، هذا الموضوع مع الأسف لم يلق الأهمية المطلوبة التي يستحقها خلال العقود الماضية، وكان من نتائجها المشاكل التي نعانيها والمتمثلة في النقص الواضح في القوى العاملة المدربة الماهرة، علما أن هذا التعليم يحظى باهتمام كبير في الدول المتقدمة وعدد من الدول النامية التي صممت على اللحاق بالدول المتقدمة، الدولة أيضا بأقسامها المختلفة ومنها الأجهزة العسكرية وشبه العسكرية، وكذلك المجتمع الصناعي والتجاري والزراعي والخدمي هي جهات سوف تستفيد كلها من القوى العاملة المتعلمة والمدربة،حيث تقوم العقول محل العضلة والتكنولوجيا بدل الأشغال الشاقة.
خلال الحقبة النفطية الماضية، وبسبب اعتمادنا بشكلٍ شبه كلي على النفط والاقتصاد الريعي عموما، قامت الحكومة بتوفير أعداد كبيرة من الوظائف للمواطنين تفوق احتياجاتها الفعلية، وبغض النظرعن كفاءتهم أو إنتاجيتهم، كما أن المسؤولين عموما ومسؤولي قطاع التعليم والتدريب تحديدا، تعاملوا مع التعليم الفني والتقني وكأنه تعليم من الدرجة الثالثة، وزادت المشكلة تعقيدا عندما تسربت هذه العدوى إلى المجتمع الذي بدأ ينظر بنظرة دونية إلى هذا التعليم، وكانت النتيجة إن عمان تعاني الآن من نقص واضح في القوة العاملة الماهرة.
ويكتسب هذا التعليم في الوقت الحاضر أهمية خاصة في ظل الضرورات الحتمية التي تفرضها تحديات الثورة المعرفية والتي تتطلب تخصصات مختلفة؛ لتحقيق رؤية عمان ٢٠٤٠، وما يتضمن ذلك من تنويع مصادر الدخل القومي.
يقع على عاتق التعليم مابعد الأساسي إعداد الشباب والشابات علميا وسلوكيا للمهارات الحياتية المختلفة، والتأقلم مع التغييرات الكاسحة التي تحصل بشكل يكاد أن يكون يوميا، وتزويدهم بأكبر كم من المهارات المختلفة، مثل مهارات تكنولوجيا المعلومات والذكاء الصناعي والتفكير النقدي، والإبداع، والتعاون، والتواصل، والقدرة على التعلم الذاتي، وأخلاقيات العمل، والحقوق والواجبات، ككفتي ميزان واحدة، إضافة إلى إعداد الطالب على المهنة التي يحب أن يتعلمها قبل توجهه إلى التعليم العالي أو الدخول إلى سوق العمل مباشرة.
من أجل تحقيق هذا الهدف، سوف يكون ضروريا تشعيب مرحلة مابعد التعليم الأساسي، أي الصفوف الثلاثة الأخيرة من التعليم الأساسي إلى أقسام أكاديمية وفنية وتقنية وصناعية وغيرها. موضوع التعليم الأكاديمي سوف أتناوله في مقال آخر، أما بالنسبة لبقية الأقسام، فسوف أتناولها في هذا المقال، كالتالي:
١- التعليم الفني والتقني: هذا التعليم يزود الطلبة بالمهارات الأكاديمية والعملية المطلوبة. في عدد من الدول، لا تقل فترة التدريب العملي عن ٦٥٪.، ويتمكن الخريج بعد ذلك من مواصلة التعليم العالي “الجامعة التكنولوجية مثلا” أو الالتحاق مباشرة إلى سوق العمل للقيام بمسؤولية الإنتاج، ويقدر أن يواصل تعليمه الجامعي لاحقا.
التعليم الفني والتقني يقوم بتأهيل القوى العاملة للعمل حسب متطلبات السوق المتغير باستمرار، وباستعمال أحدث الوسائل التكنولوجية لتخريج كوادر فنية ذات كفاءة عالية، وتهيئة الخريج للتعامل مع التحديات والتغيرات التي تحدث في سوق العمل باستمرار. يعتبر هذا التعليم أحد الأدوات الرئيسية لتحقيق برامج التنمية المستدامة، ويشمل هذا أيضا تعليم الطلبة على البرمجة وتقنية المعلومات، إضافة إلى التعليم التجاري والمالي والفندقي والزراعي. كما يشمل أيضا إعداد الطالب لمهن البناء والنجارة والتمديدات الكهربائية وإصلاح المركبات المختلفة وأجهزة التكييف الخ..
٢-التعليم السياحي والفندقي: يتم التركيز في هذا القسم على الأمور المتعلقة بالسياحة والفندقة وفنون الضيافة، وتكمن أهميته في سعي عمان للتركيز على القطاع السياحي واستثمار كنوزها السياحية المتنوعة والمنتشرة على امتداد الأرض العمانية، كجزء من سياسات تنويع مصادر الدخل وتوفير آلاف فرص العمل لشبابنا وشاباتنا. سوف يحصل القطاع السياحي بما في ذلك بالطبع القطاع الفندقي وقطاع الضيافة إجمالًا على قوى عاملة مدربة جاهزة للعمل؛ لتلبية متطلبات التطور في قطاع صناعة الفنادق والأنشطة السياحة والضيافة. وقد يكون مناسبا التفكير بتحويل كلية السياحة إلى كلية جامعية كاملة وضمها إلى الجامعة التكنولوجية وتحويل الدراسات والدورات الأخرى إلى المدرسة الثانوية الجديدة أو المعاهد.
٣- التعليم التجاري والمحاسبي والمالي وريادة الأعمال: سوف يركز هذا التعليم على الدراسات التجارية والمحاسبية والمالية والتجارة الإلكترونية وتقنية المعلومات والتسويق ومبادئ ريادة الأعمال واللغة الإنجليزية وغيرها من المواضيع المتعلقة بها، وإكساب المهارات الضرورية للأشخاص الراغبين في الانضمام إلى إحدى الوظائف في القطاع الخاص أو العام أو العسكري، أو الراغبين لاحقا بتأسيس شركات صغيرة أو متوسطة الخاصة بهم، أو بمواصلة الدراسة الجامعية مباشرة أو لاحقا. ومن الضروري أن يكون التعليم متجددا ومتنوعا لمواكبة التغييرات السريعة وتأثيرها على القطاعات الأخرى.
٤-التعليم الزراعي والسمكي: سوف يركز هذا التعليم على إعداد الأطر البشرية المؤهلة علميا وفنيا ومزودة بالمعلومات والخبرات الضرورية لأداء عملها؛ لتحسين الإنتاج الزراعي والسمكي عن طريق زيادة المساحات الزراعية مستعينة بالهندسة الحيوية وكذلك زيادة كميات إنتاج الأسماك والصناعات القائمة على الثروة السمكية لتحقيق الحد الأدنى من الأمن الغذائي والتفاعل الإيجابي مع التقنيات والوسائل والآلات الحديثة، وتصدير الفائض إلى الأسواق الخارجية. من المهم أيضا إيجاد جسور غير متوفرة حاليا، تمكن الطلبة المتخرجين من “دبلوم التعليم العام” بمواصلة الدراسة الجامعية لاحقا.
٤-التعليم المهني: يعتبر التعليم المهني مجالا لكسب المعرفة والخبرة العلمية والعملية في العديد من الميادين الحرفية والمهنية، مثل البناء، الصناعات الميكانيكية والإلكترونيات والنجارة وصناعة الزجاج والتقنيات السمعية والبصرية ..الخ، يتم التدريب داخل ورش البناء وشركات المقاولات والمصانع والورش ..الخ، ويتمكن الخريج الراغب بالعمل بسرعة من ولوج عالم العمل الميداني مباشرة أو من خلال إنشاء ورش خاصة أو إنشاء مؤسسات صغيرة خاصة بهم.
عملية التحول سوف تحتاج إلى فكر جديد وإعادة تصميم مدارسنا الحالية وإجراء تغييرات كبيرة فيها، والتي سوف تحتاج أيضا إلى مصادر مالية لا بد من التفكير بها وتوفيرها ومنذ الآن، كما سيكون مهما التفكير بجدية ومنذ الآن في كيفية التغلب على النظرة الدونية للتعليم الفني والبدء بإيجاد الوسائل والآليات الكافية لاستيعابهم أو إيجاد الكليات الخاصة لمواصلة دراساتهم، وهذا ما سوف نحاول الكتابة عنه في مقال آخر .
وبسبب قدراتنا وخبراتنا المحدودة في هذه المجالات وعدم توفر الكوادر الإدارية والتعليمية المدربة والمؤهلة، ومن أجل إسراع العملية لابد من الاستفادة من تجارب الدول التي سبقتنا في هذا المجال وعدم محاولة إعادة إنتاج العجلة من جديد والاستفادة منها في جلب المعلمين المدربين، واختيار الآلات والمعدات والأجهزة الضرورية التي تمكنها من أداء رسالتها.