القارئ لكتب الشعر وفنونه ونقده كثيرا ما تصادفه عبارة أن “فلانا يشبه شعره” أو “شعره يشبهه”. وقد تصدق هذه العبارة على تجارب بعض الشعراء، بقدر أو آخر. ولكنها في حالة الشاعر الجزائري عايش يحياوي تكون مطابقة إلى أقصى حدودها. فقد كان وفيّا لسيرته التي أرّخ أحداثها شعرا ونثرا، على نحو صريح وواضح وبحرارة وإخلاص كبيرين. إننا أمام سيرة شاعر وشاعر سيرة. أما سيرة الشاعر فتتمثل في كتابه (لقبش: سيرة ذاتية لحليب الطفولة)، وأما شاعر السيرة فنراه في دواوينه مثل (انشطارات الذي عاش سهوا) و(عبور الجنازة: ما يراه القلب الحافي في زمن الأحذية) و(عاشق الأرض والسنبلة) و(قمر الشاي).
ويؤكد عياش يحياوي في سيرته أن أحداث حياته وتحولاتها هي مصادر إلهامه التي قادته إلى الكتابة والإبداع، وليس شيئا آخر. وقد ظل ينزف هذه الحياة حبرا وشعرا. يقول عياش: “في حياتي أحداث مركزية كثيرة لها أثر كبير في انعراجي إلى عالم الكتابة الأدبية، وهو انعراج ودلالة عقدية نفسانية، لا صلة له بتحصيلي الثقافي والمحيط الذي أخذ بيدي إلى عالم الفكر والأدب. الحدث الأول هو انفصالي عن أهلي منذ أن كان عمري ست سنوات إلى كتابة هذه السطور، فقد عشت تجربة النظام الداخلي لمدارس أبناء الشهداء في الجزائر، ثم واصلت دراستي بعيدا عن مرابع الطفولة والأهل في مراحل الثانوي والجامعة، ثم العمل الإعلامي، ثم الهجرة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة … وحتى قبل الهجرة كنت أعيش في وهران على بعد حوالي 700 كيلومتر من الأسرة الكبيرة. ولم أزر الجزائر منذ عام 1989 إلا مرتين خلال السنة الأولى. ربما لخوف غامض من التغيرات التي تكون قد أصابت مرابع الطفولة”. وإنها الطفولة التي ترافق صبي القرى طيلة حياته، وقد سكبها حزنا وشعرا وحنينا:
أعلق شعري وأهذي بكل خراب اليتامى
لماذا تريدونني أن أبيع الأثافي
وخيل أبي وعماد الخيام؟
ورغم تعدد هذه الأحداث التي سرده عياش في سيرته، إلا أن أكثرها حضورا وتأثيرا في شعره وحياته هي عوامل الفقر واليتم والتشرد الدائم والحنين العنيف إلى مرابع الطفولة ومنازل الصبا. لقد كان عمر عياش عاما واحد حين جاءت الآليات والشاحنات العسكرية الفرنسية وهدمت بيتهم الطيني لتبدأ رحلة التشريد والنزوح الكبرى من قرية إلى أخرى ومن مأوى إلى آخر ومن كوخ إلى كوخ يعصمهم من بطش المستعمر الفرنسي.
استشهد والد عياش في ثورة الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، وكان يشغل منصب محافظ سياسي في جيش التحرير الوطني أثناء الثورة. وتتمثل مهامه، وفق ما قالت والدته في إفادتها التي سجلها في سيرته: التنسيق بين قطاع من الشعب وبين الجيش، يختار الشباب للتجنيد، ويختار العيون والممولين للثورة، وينقل تعليمات الجيش إلى المدنيين، ويعين جامعي الاشتراكات، ويطبق القانون على الخارجين عن أهداف الثورة، ويكتب التقارير إلى جهات عليا في الجيش”
يقول عياش عن أمه وأبيه: “والدتي قريبة الصلة بوالدي محمد يحياوي الشهيد في ثورة الجزائر (1954 ـ 1962) من حيث القرابة النسبية، وكلاهما من منطقة جغرافية ذائعة الصيت هي “الحضة” جنوب شرق العاصمة الجزائرية بحوالي 350 كيلومترا .. وفيها توجد مدينة المسيلة عاصمة المعز بن باديس الفاطمي”.
لقد ظل عياش يطارد طيف أبيه الذي فارقه في المهد ولم يتذكر حتى ملامحه. ويروي كيف كان يبحث عن صورته بين صور الشهداء ذات يوم دون جدوى، ليعود في المساء منكسرا إلى أمه التي يقتلها الحزن والفقر في البيت. وكثيرا ما يطل طيف الأب في قصائد عياش. يقول في قصيدة (انتظار):
أو يبدو لي أن الحل الأوحد
هو أن أخفي رأسي تحت الوسادة
وأبكي إلى أن تتداعى الدجدران
وتهرم المدينة
وينزل المسيح والمهدي وأبي إلى الأرض..
أما في قصيدة (أغنية الحطاب) فهو يستحضر تفاصيل حياة القرية التي عاشها طفلا فقيرا، وترك فيها أمه وذكرياته وخطواته الأولى:
في مساء الجبال تهيئ أمي لنا الشاي بالحطب اليابس،
الذئب يشرب أحلام عنزاتنا الخائفات،
وأختي تدس الطماطم في الجمر، تحت رماد السكينة،
بابا سنذكره عند منتصف الليل كل مساء،
فقد قاتل الوحش ثم استوى ميتا
وقرأنا على قبره ما تيسر من ذكريات الجدود القدامى
كجذع الصنوبر في جهة الشمس.
ومن المفاصل المهمة في حياة عياش يحياوي دخوله مدرسة أبناء الشهداء التي خصصت ليدرس فيها أبناء الشهداء الذين سقطوا في الثورة وضحوا بأرواحهم وتركوا أبناءهم ومصائر عائلاتهم في سبيل استقلال الوطن وحريته. ولكن عياش يذكر هذه المرحلة بكثير من الأسى والمرارة جراء ما كان يلقاه الأيتام أبناء الشهداء من قسوة وسوء معاملة من المربين، وما كانوا يعانونه من الخوف والحرمان. وقد كتب عنها في سيرته وسرد قصة هروب بعض الطلبة منها خوفا من البطش وسوء الأحوال. وهو في هذا السياق يندب الحظ وما ناله كابن شهيد في الوطن، وكان مصيره بعد ذلك الفقر والتشرد والضياع. يقول في قصيدة (سأفضحهم بدمي وبكائي): “ومن قمة الشهداء تدليت أجهش بالاغتراب”.
لقد ظل جرح الوطن ينزف في قلب عياش يحياوي، وشعر بأنه خسر كل شيء، والده وأمه وقريته وأحلامه وطفولته وأصدقاءه ووطنه الذي تناهبته الأحزاب وتقاسمه أصحاب المناصب الذين حصلوا على مغانم الوطن ومكاسب الثورة. يقول في قصيدة (ما هجس به صبي القرى):
توسدت ليلا ذراع بلادي
وعند الشروق أفقت على ثوب نسيانها.
وفي قصيدة (سأفضحهم بدمي وبكائي):
سأشكو إلى جبل في الأساطير
أن بلادي تعذبني
ويقول في قصيدة (ما أجهش به فيوم بن حبار قبل أن يموت):
أكون أنا … لو أكون
ترابا سأحمله للقيامة
يشهد أن بلادي التي في السطور
سواها بلادي التي في السطور.
وأنام بغير عشاء
ويغفو على ركبتيها التتر.
كتب عياش كثيرا عن شعوره بالخيبة والحسرة تجاه وطن ما بعد الثورة، ولكن أكثر وأصدق ما كتبه يتمثل في حنينه إلى قرية طفولته، ويتفنن في سرد تفاصيلها والحديث عن شوقه الأبدي إلى هذه القرية التي تسكن روحه ولم تغادره أبدا، بل إنه أوصى أن يدفن بعد موته بجوار ضريح والدته، وقد تحقق له هذا الحلم لينام قرير العين تحت التراب الذي عشقه. يقول في قصيدة (احتمالات طفل في جثة كبيرة):
ومن قال أني كبرت.
وفي الدم لثغة ريش الصبا
والدجاج الذي عكّر النوم عن جدتي في الظهيرة
لازال يعبث بي في دجى غرفتي
ونقيق الضفادع أسمعه قرب نافذتي.
وقد شكل الاغتراب والرحيل والتشرد محورا رئيسا في تجربة عياش يحياوي الذي عاش مشطورا بين حنينه للقرية واشتراطات العيش في المدينة، وهو ما يطلق عليه “ثنائية القرية والمدينة”. وهو يرى في سيرته بأنه “كان من الممكن أن يبتلعه عالم القرية فيصبح فلاحا أو حارس مدرسة أو بوابا في البلدية أو عابرا في الطريق العام، لكن يد الغيب رمت به إلى البحر والشوارع الفسيحة والمدن الكبيرة المختنقة”. يعبر عن ذلك في قصيدة (الصعلوك) قائلا:
أبدا لن ترفض الأغصان فوضى قامتي
لكنني أدرك أني مثل شحاذ غريب
في مساءات المدينة.
أنني نافذة منسية في آخر الليل،
وظل عابر كالفأر في الصحراء،
أبكي مثلما يبكي يتيم أبكم.
ويقول في قصيدة (حذاء الوقت):
ناقة تجري في ردهة الفندق
الفندق سوق حرير ومياه لزجة
والمضيفات الجميلات جوارٍ من زجاج
لا ينكسر الزجاج هنا،
هنا ينكسر ظهر الغريب
وحين يلتفت عياش إلى الوراء يرى أن الدنيا تغيرت كثيرا في بلاد “الحضنة”. ويلمح الصبي القديم الذي تربى، على حد تعبيره، بين الخيام والإبل والأغاني الشعبية وسنابل القمح ورائحة الشيح والجعدة، يسبح بن شوارع المدينة غريبا عن طقوسها، ضائعا بين ناسها وسكاكينها وناموسها. وها هو ينتظر الحافلة في محطة البريد المركزي، أشبه برقم ضال. سيدخل كثيرا من المقاهي وكثيرا من الفنادق، وسينتظر الحافلة طويلا، وستجري لحظات العمر، وهو لا يدري كيف تكون الخاتمة”
كان عياش مشغولا بهاجس الموت والرحيل عن هذا العالم، وكثيرا ما كتب عن نهاية الحياة وغموضها، وكان يشعر بدبيب الموت يقترب منه رويدا رويدا، حتى قال في قصيدة (شظايا الذي لم يقل للقراصنة مرحبا):
ليس في نيتي أن أموت على الفور،
لكنها عربات الخريف تمر ببطءٍ جريءٍ على موسم الروح”.
إنها عبارة من يومئ للعالم مودعا يحزم حقائبه ويوشك على المغادرة إلى الأبد. ومثل ذاك يخاطب ذاته في قصيدة (الذاهب في الأزرق) متنبئا بحزن الأطفال والكرم عند عودته، حين تنكره صخور المكان، ويعود ببطاقة لشخص مفقود لا اسم فيها:
يا ابن القرى يا شهمُ
من أنساك..؟
تغتسل الصبايا من هواك
ويحزن الأطفال والكرْمُ
وتنكرك الصخور إذا رجعت
ومن بطاقتك الحزينة يسقط الاسمُ!
ويرحل عياش عن عالمنا مودعا قصائده ومقاهيه وأرصفته، بعيدا عن وطنه، في أبو ظبي، ليعود إلى قريته التي وصف رحيله عنها كمن خرج للغناء ثم يعود: “ألا يا صخور البراري البعيدة لا تقنطي، سوف أبني بك العمر سهوا”. وقد عاش أو بدد عمره سهوا بين المحطات والمطارات والمدن، في ترحال دائم وحنين لا ينقطع. ولكنه حتى في موته لا يكف عياش عن نزقه وجنونه حين يتلو منشوره الأخير على العالم:
سأنشر موتي على الطرقات
وأعلن أن الجنازة عابرة، فقفوا ..
سوف أطرق أبواب كل الشوارع،
كل الشجرْ
أصيح بأن المسجى إلى قبره لم يكن سيئا،
كان يطلب توضيحه
ويغني لنافذة مسَخَتْه غريبا
وألقت بعكّازه للقدرْ!