إن مثالية الجدارة توحي أن المكانة في المجتمع تنبعُ من قدرات وإنجازات الفرد وليس من أسس كالخلفية العائلية أو العرق أو الدين أو الثروة. تتطلب هذه المثالية أن تكون الجدارة على أسس موضوعية واضحة دون الرجوع إلى تلك الأسس الشخصية،،. دانيال أ. فاربر وسوزانا شيري
مع بداية عصر النهضة العـُمانية كنا نعيش في مجتمع رعاية سياسية يخصص الوظائف للأفراد بناء على الاعتبارات الاجتماعية والسياسية. إلا أنه من الممكن ملاحظة التحولات الحادثة منذ بداية العام 1995، عندما اتخذت السلطنة خطوات نحو بناء منظومة اقتصادية بمساحات حرية أوسع وسمحت للقطاع الخاص بلعب دور أكبر في الاقتصاد والمجتمع. وعلى ضوء ذلك، بدأ مفهوم الجدارة بالظهور في السلطنة كبديل للمفاهيم والنظم التقليدية كالأرستقراطية والمحسوبية السياسية مقللاً من تدخلات الاعتبارات الاجتماعية والسياسية. خاصةً فيما يتعلق بالتوظيف والتدرج الوظيفي في بيئة العمل، وذلك لتوفيرِ الجدارةِ معاييرَ موضوعية لاتخاذ القرارات الإدارية تتخطى المشاركة السياسية والاجتماعية وتزيد من قوة الفرد وكفاءته. ومع ذلك، فإن افتراضات الجدارة هذه أثبتت أنها تخفي الحقيقة على أرض الواقع من خلال التركيبات البنيوية أو ما يعرف بـ «الكفاءة». كما ترتبط الجدارة في الممارسة العملية اليوم بالسلطة السياسية والاجتماعية التي غالبًا ما يتم تخصيصها وفقًا لمعايير الأرستقراطية.
تعريف الجدارة
تُعرَّفُ الجدارة وفقًا لقاموس ويبستر بأنها «نظام أو منظمة أو مجتمع يتم فيه اختيار الأشخاص وترقيتهم إلى مناصب النجاح والقوة والتأثير على أساس قدراتهم واستحقاقاتهم الواضحة للعيان». وتشير النظرة التقليدية للجدارة إلى أن العمل هو السبيل للمساواة الاجتماعية، بينما يلعب العمل في معظم المجتمعات دوراً كبيرا في زيادة التفرقة بين الشرائح الاجتماعية، والتي تشير إلى عدم تكافؤ الفرص والموارد لهذه المجموعات الاجتماعية المختلفة. وغالبًا ما يُنسى أن «معايير الجدارة» تستبعد بشكل غير مقبول الأشخاص الذين ينتمون إلى المجموعات الاقتصادية الاجتماعية الأقل دخلا، وكذلك الأشخاص الذين لا يعتبرونهم جزءاً من النخبة، وذلك لكون معايير الجدارة قد وضعت من قبل المجموعات الاجتماعية المهيمنة التي نجحت في تسخير الروابط السياسية والاقتصادية القوية مع النظام السياسي الحالي. وعليه، فإن هذا المقال يميز ما بين «الجدارة» و «التحيز الاجتماعي» (الواسطة أو الامتيازات الموروثة) ويكشف النقاب عن الطرق التي ساهمت بها أماكن العمل إلى حد ما في تزايد التفرقة الاجتماعية.
الجدارة من منظورات مختلفة
تستند الجدارة، كما وصفها المفكر ماكس ويبر، إلى مبدأ أن التوظيف والترقية والمكانة في المجتمع والمؤسسة يجب أن تحددَها معرفة الفرد ومهاراته. وفي العديد من ما يسمى بالديمقراطيات الغربية، هناك اعتقاد سائد بأن الديمقراطية والجدارة مرتبطتان ببعضهما البعض، وهكذا تفترض الجدارة أن أولئك الذين لديهم «الكفاءة» الأكثر ملاءمة يكتسبون ثقة الناس، إلا أنه عندما ننظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، تتضح صورة مختلفة حيث تتخذ الجدارة شكلاً آخر هو مزيج من الأثرياء والأرستقراطيين، الأمر الذي تبيّن في الانتخابات الرئاسية السابقة. حيث فاز الرئيس السابق دونالد ترامب ذو الثراء الفاحش، رغم كونه يفتقر تمامًا إلى معايير «الجدارة» من حيث الخبرة السياسية والمهنية. ومن ناحية أخرى، ورغم كون هيلاري كلينتون، ذات «الكفاءة» السياسية الغنية، تتمتع بروابط أرستقراطية بسبب صلاتها العائلية بالرئيس السابق بيل كلينتون، الأمور كلها التي تبين في انفصال الديمقراطية عن نظام الجدارة حتى في الدول العظمى في الغرب.
ومن الأمور الجديرة بالاهتمام في مفهوم الجدارة هو أن مايكل يونغ استخدم المفهوم في كتابه «صعود الجدارة» في عام 1958 من باب الازدراء للتحذير من أيديولوجية تبرر الاختلافات الطبقية التي مصدرها الأساسي أصلا «الجدارة!».
ومع الوقت، لم يعد مصطلح الجدارة مادة للازدراء، بل أصبح الآن مرتبطًا بنظام اجتماعي تشكل فيه «الكفاءة» الأساس لتوزيع الفرص والموارد. وتنسب معظم المؤسسات اليوم إلى هذا النموذج الساخر من خلال الجمع بين تقييم الأداء ونظام المكافآت مع الكفاءة المزعومة. ومن خلال القيام بذلك، فإن نُظُم المكافآت القائمة على الأداء تعني أن كل شخص لديه فرصة متساوية للحصول على الفرص والمكافآت بغض النظر عن خلفيته الاجتماعية والاقتصادية، وذلك باستثناء المؤهلات التعليمية، والتي يرى الكثير بأنها مبرر للتمييز بين الأفراد لكونها تعكس الاختلافات في القدرات، وبالتالي فإن الفجوات المتزايدة بين هذه المجموعات تعليميا تعتبر قائمة على الجدارة.
ومع التطورات الإيجابية في السلطنة بشأن القضاء على الفروقات الوظيفية بين المواطنين، إلا أنه ما زالت هناك مساحة لتحسين الوضع في بيئة العمل ولتذليل الكثير من الفجوات وهو ما يتم التعبير عنه بشكل كبير عبر تطبيقات تويتر وواتساب وإنستغرام ومنصات التواصل الاجتماعي الأخرى. من الواضح أن النظرة التقليدية للجدارة في أماكن العمل تشير إلى أن سوق العمل هو السبيل للمساواة الاجتماعية، وقد تم كشف النقاب عن ذلك مع وضع الأنظمة القائمة على الجدارة. وهناك أيضًا غموض أيديولوجي يدخل في تبرير سبب حصول المسؤول التنفيذي على أجر أعلى من الطبيب، على سبيل المثال، ولا يوجد دليل تجريبي – حتى يومنا هذا – ينص على أن أداء المؤسسة مرتبط بأداء قائدها أو الرئيس التنفيذي، بل على عكس ذلك، يمكن للمرء استبدال الرئيس التنفيذي ومواصلة أداء الشركة بصورة مستقرة، كما تم إثبات ذلك من قبل شركة آبل بعد وفاة مؤسسها ستيف جوبز واستمرارها في تحقيق إيرادات عالية وإنتاج منتجات اجتاحت الأسواق العالمية من دون وجوده.
ومع كون المؤهل التعليمي أحد الأسس التي يتم الأخذ بها عند التمييز بين الأفراد في السلطنة، إلا أن ذلك لا يراعي الواقع الذي يحتم أن أغلب الحائزين على المؤهلات العالية والتخصصية ينتمون إلى النخبة في المجتمع، خاصة فيما يتعلق بإعطاء الأولوية لحاملي الشهادات الأجنبية أو المتحدثين باللغة الإنجليزية، مع العلم بأن الجدارة لا ترتبط بحد ذاتها بإمكانية التحدث بلغة محددة أو التخرج من جامعة أجنبية. الأمر الذي يحرم الأفراد الذين لم تتح لهم الفرص التي أتيحت لأبناء النخبة – الذين وضعوا معايير «الكفاءة» لتلك المؤهلات – بما يجعلهم مميزين على حساب الآخرين. كما أن التركيز على هذا النوع من مفاهيم «الكفاءة» يحرم بيئة العمل من مزايا التنوع في الأفكار وتعددية الآراء، بما يحد من قدرة المؤسسات على إيجاد حلول مبتكرة للتحديات التي تواجه بيئة العمل والمجتمع.
الخلاصة والنهج البديل
يشير التمثيل المنخفض للمجموعات الأقل دخلا في مناصب السلطة والمسؤوليات التنفيذية إلى أن الجدارة في السلطنة ذات مفهوم ضيق، الأمر الذي يعتبر نتيجة واضحة لوضع معايير هذه الجدارة من قبل النخبة.
ويدعونا الأمل بمستقبل أكثر إشراقا إلى السعي للخروج من ضيق هذا النظام المحدود إلى آفاق أرحب تتسم بتنويع المسارات التي تضمن تكافؤ فرص العمل والأعمال. وهذا بدوره سيكون بمثابة الأساس لمجتمع أكثر تنوعًا وسيحد من مضار النظم التقليدية لتحكم الأرستقراطيين. إن المجتمع الذي يتمسك بالاعتقاد بأن الجدارة يتم خلقها من خلال مبادئ متجانسة ومحددة ومعيارية، يقبل أيضًا الجمود ونقص التنوع. وبدون مبادئ القبول المتعدد، يتم تقويض الجدارة، مما يترك المجال مفتوحًا أمام الأرستقراطيين لتعزيز مكانتهم. وتتطلب الجدارة الحقيقية أن تكون هناك مبادئ اختيار لا تستند إلا على تنوع المسارات وتكافؤ الفرص والتقييمات والأسس الموضوعية القابلة للقياس.