لماذا نعودُ إلى التراث واشتغالاته، وحكايات التاريخ وشخصياته ونستدعيها إلى شعرنا المعاصر إذا لم نُقدّم من خلالها أسئلةً تدفعنا إلى التخيُّل، وأفكاراً مبتكرة تربط الواقع بالتاريخ؟
يُشرعُ النص الشعري الحديث في عودته إلى عوالم التاريخ وأخبية التراث أسئلةَ التشكيل الفني، وأفكار التكوين الفلسفي الذي من خلالهما يعمل على الربط بين الماضي والحاضر، وعندما تقودنا تقنيات القناع والرمز واشتغالات التاريخ والأسطورة فإنها ليست مجرد استدعاء لفظي في النص، بل استنطاق فكري أيضا، وحضور مغاير في اشتغال تركيبي حديث يعمل النص الشعري من خلالها على محاكاة اللحظة والحدث بفكرة تُقرّب الصورة، وتعيد صياغة الأفكار في بناءٍ شعري حديث، وإلا فإنّ مجرد الزجّ بشخصيات من التاريخ في نص لا يُثير أسئلةً لدى القارئ أو تخيُّلاً أو انطلاقاً لبناء صورة شعرية جديدة هي محاولة تجعل الاستدعاء باهتاً، لا قيمة له في النص الشعري.
لقد استعادت القصيدة العربية رموزا كثيرة، واتكأ الشعراء المعاصرون على الرمز التاريخي والأسطوري في بناء نصوصهم الشعرية، وهذا ظاهر عند الكثير منهم مثل السياب، وأدونيس، والبياتي، وأمل دنقل وغيرهم ممن استهوتهم العودة إلى الماضي وإسقاطه في قالب شعري على حوادث رأى الشاعر فيها فكرة ينطلق منها إلى فضائه الشعري.
وفي هذا المضمون نقف على نص شعري للشاعر علي المخمري بعنوان «لا» الصادر في مجموعته الشعرية (تعريفات رجل لا يُفرّق بين السكين والوردة) عام 2002م، إذ ينطلق النصُ من فكرة الرفض النابع من صوتٍ متشكّلٍ على هيئة صرخة وفق نظام صوتي له دلالاته في السياق اللغوي، فمفردة العنوان المتشكّلة من حرفين اثنين تضمان مقطعا صوتيا طويلا كما هو عند العروضيين، جعلت دلالات النص تميل إلى الرفض، والانشقاق عن الذات، وتداخل صور الطفولة مع صور الحاضر بكل آهاته، ومجونه، وفلسفته «الدنجوانية»، وزوايا الجسد المتصل بالشهوة والمتعة، ومعها تبرز قيمة المخالفة التي انطلق منها النص على هيئة رفض داخلي.
يبدأ النص بما قُدِّمَ له أنه «ما يُشبهُ السيرة الذاتية» مُصدراً إياها بعنوان «لا» على هيئة صرخة في وجه الحياة التي تستقبل المولود، ولعلَ الشاعر أراد تأطيرها بأنها سيرة لهذا الإنسان الذي ينبغي أن يتعّلم دلالات الـ«لا» في مواجهته الحياة:
الصرخة الأولى كانت: (لا)
احتجاج الجاهل بما يعلم
بانشقاق قمريته إلى ظلمتين
في أي جهة…
سيبحث عن (شاطوحته)
هذا المولود الذي علق بسرته
في رحم الحياة الملتهب؟
هذه الصرحة كانت كفيلة بأن تدفع النص إلى نهايته، مستخدماً الدلالة نفسها، يقول في خاتمة القصيدة:
قُلْ: (لا)، أيها الأحمق
وعُدْ من حيث أتيت
من نكهة الشفق
أيها الأحمق
قُلْ:
لا
لا
لا.
إنّ النص الشعري هنا في تقديم دلالات الرفض كما أراها، قدّم لغةً ثريةً تقودُ النص إلى الانفتاح على الشعرية، والتناص مع الماضي وأحداثه وشخصياته، كلّ ذلك دون أنْ يفقدَ النصُ جماليات الشعر، أو تبهتَ لغته وصوره. إنّ الفضاءَ خصبٌ بتنوع الدلالات والألفاظ والرموز فقد وجدَ توظيفاً خلّاقاً يقصده الشاعر. وبالنظر في النص الذي اتكأ على مرجعيات عدة في بنائه الشعري فإنّ القارئ يجد تداخلا لدائرتين استطاع الشاعر الولوج إلى عالمهما وإعادة أفكارهما إلى نصه، وتأتي الدائرة الأولى قائمةً على استخدامات اللغة التراثية، وألفاظها، وشخصياتها، والدائرة الثانية تستعيدُ الحكاية التاريخية من مكانها الأول بتقارب النص مع أفكارها وشخصياتها.
• القاموس التراثي
تظهر اشتغالات اللغة في نص المخمري في المزاوجة بين توظيف مفردات التراث، والألفاظ التي يستخدمها الكلام اليومي وبين اللغة الشعرية الحديثة ودلالات الرمز، وهو اشتغال قصده النص في الحديث عن الفكرة التي يتناولها، وما مفردات: (الشاطوحة، والداس، وأم الصبيان، والبرستي، والمنحاز، وأم الديسان، والشاشة) إلا دلالات ارتبطت بعالم الطفولة، والمتغيرات التي تلي هذا العالم، والجراح التي يمكن أن يمرّ الإنسان بها في عالمٍ تعمل على هدهدته طفلا، ثم تغيّبه في ظلمات الواقع:
(الداس) كفيل بـ(أم الصبيان)
كي تهرب مثلما دخلت
من ثقوب (البرستي)
والوقت كفيل بالهدهدة
وتقطيف الأجنحة.
لذا جاءت هذه الدلالات مرتبطة بالطفولة والماضي الذي زُرعَ في ذاكرة مجتمعية، ويحاول النص أن يثور من خلالها على كل شيء، على الذاكرة والماضي والطفولة والذات المهشّمة، لذا وردت دلالات الرفض في صيغ متعددة:
– في دلالات كلمة «لا» التي وردت 18 مرة في النص.
– وفي دلالات الأفعال المتكررة، مثل:
إنّ الحياة عندما لا تحترم وجودك
لا تستحق إلا أن تدير عنها وجهك وتنام
أو أن تسحقها بأسنانك
على حلمة عاهرة.
– وفي ربط المكان بالمفردة التراثية والتي تُحيل على الغربة والرفض:
دفنتُ رمل سواحل الباطنة فيّ
وجلستُ على صخرة الغياب
تحت نخلة تناهشت عذقها
ببغاوات الثرثرة
وغربان الحيرة.
ويمكننا القول: إنّ استيراد لغة التراث إلى نص المخمري يأتي في سياق بناء الصورة الشعرية ودلالتها، فكأنّ النص هنا يدعّم شعريته بشواهد خارجية من التراث، أو كأنّ التراث مرآة تعكس انفعالات الشاعر ورؤيته، وتتفق مع دلالاته وصوره الفنية.
• الحكاية التاريخية
يعود النص أيضا في مرجعيته إلى دائرة الحكاية التاريخية، وهنا يأخذنا إلى الحكاية التاريخية الشفهية التي تناقلها الأجيال عمن سبقهم، ويُصَدّرُ الشاعرُ نصَّهُ بحكاية نقلها عن سائق تاكسي أَقلَّهُ من صحار إلى مسقط، والحكاية وقعت أيام الاحتلال البرتغالي لعُمان، عن شخصية «أبو كشيشة» الذي تتصوَّرُه الحكاية جندياً برتغالياً مات في إحدى السفن، فوُضع في صندوق، ورُمِيَ في البحر إلى وصل إلى الشاطئ، ففتح الأهالي الصندوق و«أضاء لهم ذلك الوجه الأوربي المشبع بالحمرة، والرأسُ ذو (الكِشّة) الشقراء الكثيفة…».
يشتغل النص هنا على هذه الحكاية، بإعادة ترتيب أوراقها، مُقدّما نصه «إلى ذلك الجندي، المجهول الذي مات منذ زمن بعيد، مهزوماً في بحر عمان». ويأتي تقديم حكاية الجندي هذا في سياق الاشتغال على أزمة الرفض، والثورة، ودلالات الغربة والانقطاع عن المكان، واشتغالات الموت والعزلة كذلك، فتأتي المفردات ضاجةً بعبارات البُعد والحزن، مازجةً بين حكايته وبين غربة العالم المعاصر:
ما الذي يجعل كافكا يعتزل العالم
مخموراً في حفرةٍ صغيرة
سقط فيها سهواً
ليلة عودته من الحانة
وما الذي يجعل فلاديمير ماياكوفسكي
ألا ينسى جزّ عنقه
قبل أن ينام؟
وكأنه يضبط المنبه على الوقت
الذي لا يعرف
متى.. وأين..
سيوقظه؟
إنّ الحكاية هنا عملتْ على توليد الدلالات سواءً في مرجعيتها التاريخية أو في اشتغال النص الشعري، كما عمّقت الحكايةَ والمفردات والأفكارَ التي يشتغل عليها النص، فالجندي المجهول في الحكاية استطاع الولوج إلى فضاء الشعر وعمل على إزاحة النص، وتوسّع مفرداته ودلالاته، وقدّم صورة عن المجهول الذي ألقت به الحياة في مكان لا يربطه به شيءٌ، ألا يحقّ لذلك الجندي أن يُطلق صرخةً تُدينُ العالم؟ لقد قال الشاعر في (لاءاته) ما لم يقلهُ الجندي المجهول عن نفسه. إنها ما يشبه السيرة الذاتية التي عبّر عنها الشاعر بداية النص، إنها سيرة الإنسان، وسيرة الوجع، وسيرة الحزن الممتد.
إنّ نصَّ المخمري قائمٌ في بنائه على المتضادات: الماضي والحاضر، اللغة الشعرية والمفردة التراثية، الحكاية التاريخية والزمن الحالي. إنها اشتغالاتٌ أَثْرَت النصَّ في تكوينه، وبانفتاحه على المرجعية التراثية والتاريخية. إنه نص متجددٌ لغةً وتعبيراً وصورةً وفضاءً شعرياً استوعب كلَّ تلك الدلالات والمفردات في تعبير فلسفي أراده الشاعر لحظة تصويره الحياة، فالرفض والثورة عنصران ارتبطا زمنياً بفكرٍ امتدّ منذ «شاطوحة الطفل» إلى لحظة الموت في الحكاية التاريخية:
لا وقت لنا ولا مكان
جئنا بعد الزمن بمسافات وعرة.
ضحايا الأمس بنادق اليوم.
يناديكَ صوت غابر
من بئر الروح:
لقد أقبلتَ غريباً، من الشفق
من خارج دائرة الزمن
تتمشى لا متوازناً
على حصى ووهادِ الوجود
هذا المكان ليس لك
عُد إلى هناك
حيث تتوسد الميتافيزيقا
وتلتحف بحرير الأبدية
في غرفةٍ زرقاء
تنام فيها هادئاً وشفافاً.