(يأتي نشر هذه المادة/ الرسالة في محاولة لإذكاء حماس متقطع الاتِّقاد نحو إصدار “الفراغ الأبيض الذي سيلي: رسائل، الجزء الثاني”، والذي كان جزؤه الأول قد صدر عن مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2015)
]سان دييغو، كاليفورنيا، في ؟/ ؟/ ؟[198
العزيزان […]
كيف هي الأحوال، كيف؟
هل كان لزامًا أن أطوِّح بي إلى أقصى الأرض كي أكتشف وجودكما في مركز القلب؟ وهل، حين يكفُّ اسمي في آخر الذكر، يبحث المدلول عن دالِّه في اعتباطيَّة الأسماء؟ وهل، إذ سبَّابتي تسبيها الوجوه، أرشو إشارتي في شراب الذاكرة؟ لكما، إذًا، حنانات الفقد وحنو الافتقاد. لكما وله الغياب في هول الحضور. والآن، كما لو أنه يتحتم عليَّ أن أتجاوز فساد الوقت (وإفساده يقينًا)، أحاول أن أفتح عيناي في مرائي هذا المساء كما بهلوان يتدحرج في زرقة هذا المستطيل الضيِّق. ورئتي، فضائي الصغير هذا، سقطت عليها مدينة، وصدري حانقٌ على المنجنيق. لكنني أتنفس، هكذا بقدرة خسرانٍ لا يُهزم، وبجشع موتٍ يُرابي القتيل. وأحاول، كأعرج يحمل قرية على رأسه، أن أكتب لكما من دون أن أسقط في المكتوب، ومن دون أن تسقط الكلمات في طقس الملكوت. أحاول أن أختفي خلف الحروف التي تشي بي، خلف الجروف التي تتقاسم صحوي و”منامي” (والأخير – يا لهنائي وسعد حظي – تنقذني من ادعائه ودعواه إمكانات المجاز في العربية). أحاول، إذًا، أن أهرِّب الخطاب إلى حاشية النص، أن أدشِّن لنشيجي نسيجًا في الحديث. أحاول أن أُجَنِّز جنازتي بجنزيرٍ لا يهرس سوى قبري وشهود حياتي، أرفض أن أكون الشهيد، أريد شَهْدَ الغياب فحسب، وأرى إليَّ معلَّقًا في البرزخ منذ ربع قرن سَنَةٌ تحررني من ربق الجاذبيَّة، سَنَةٌ تُكَوكِبُني في رماد النيازك. هل أنا، إذ “بروميثيوس” و”سيزيف” لا يثيران شفقة أو دعابة، مارد الرماد أمام صخرة الأبديَّة؟ (تلك الصفاقة الفخمة: الأبديَّة). تُسْئِمُني هذه الإثارة أحيانًا، وفي وقتٍ أذهب في بُحْرانِها حد الاندثار: لقد تقيأتُ الحياة منذ زمن، لكني ما تغلبتُ على الغثيان (وليس هناك تضمينٌ وجوديٌّ تقليديٌّ في الكلمة)، وسافرت في السِّفر لكني ما حظيتُ بالحكمة. كيف، إذًا، أتحققُ بالتظاهر؟ كيف أتظاهر بالحقيقة؟ وكيف، كجنديٍّ مجهول، مجهول حتى من نفسه، أذودُ عن استباحة الولادة والموت؟ كيف، بكلماتٍ أخرى، أدفعُ الكهرباء للانتحار في الكهرباء من دون أن يفقد الظلام هُداه، ومن دون أن تكفَّ ثُريَّا العمر عن التأرجح بين الثُّريَّا والجدار؟ وكيف، كيف أمشي على شفرة المسافة بين الدم وبين الماء؟
كلا. نَزَقي ليس الأسئلة: نزيفي هو المسألة. وحين أقف على الحافَّة في مواجهة العالم فإني لا أفعل ذلك بوصفي ذاتًا تواجه موضوعًا؛ بل باعتباري آخرَ يواجه الغَيْريَّة (otherness(ism)) في نفسِه وفي أشياء العالم. إن الأمر، على أي حال، لا يتجاوز كونه ثرثرة مضجِرة لدى صديقين عليهما أن يقبلاني كما أنا، وعليَّ، في المقابل، أن أفهم أن لديهما حدودًا لتحمل الضجر. بكلمات أخرى، يحسن بي أن أصمت.
((في
عزلة
مثلِ
زلَّة
العين.
خوذةٌ لكل حبَّة رمل. كيف ستكتمل هذه اللوحة؟
إن أمكنكما الحصول على رقم هاتف و/أو عنوان […] تلطفا بموافاتي (أرجو أن تمنحا هذا الأمر بعض الأهمية).
حرفيًّا: تأخذ الجامعة البليدة أكثر من كل وقتي؛ ذلك إنني، وقد تعرضت بعثتي لإشكالات لم تتعرض لها بعثة […]، مُطالَبٌ بضعف ما يقوم به غيري (دومًا الضِّعف لأسباب يعلمها الواحد القهار). ليس لديَّ إجازات. أقِّدم ورقة على الأقل في كل أسبوع. لا أكتب لعدم توافري على فرصة لتسجيل أصوات الداخل (وهي، مهما يكن من أمر، تخفت تدرجيَّاً حتى تتوقف). أتحسر [لأنني] لا أستطيع أن أقرأ ما أريد (بسبب كثافة القراءات المدرسيَّة). حسن جدًّا: ليس هناك ما يستحق الذكر كما تريان.
سلِّما لي كثيراً على […] وجميع الأصدقاء اختصارًا (ولا تنسي يا […] أن تسلمي لي على صديقتك ذات – وفقًا لك—”الهدوء الصاخب” […]).
اكتبا لي، أو هاتفاني من حين لآخر.
محبة
عبدالله