امتازت منطقتنا العربية بلوحتها الفسيفسائية المتداخلة والمتمازجة والمتحابة لفترة طويلة، رغم الحروب الطويلة التي عصفت فيها، ورغم هول المستعمر الذي مارس فيها كل أنواع الشرور، لم يستطيعوا كسر هذه اللوحة أو تصديعها، فقد كانت المحبة كانت من الشر ومن الجميل القول إنها انتصرت عليه في عصور مضت.
وبالطبع كأي مجتمع من المجتمعات لا بد وأن نجد شرائح تختلف معنا، ومن الطبيعي أن نجد ذلك، لأن غير الطبيعي هو انتفاء وجود أشخاص نختلف معها بالرأي، أو بالتوجه العقدي أو الفكري أو الاجتماعي أو أياً كان اسمه، فكنت تجد على سبيل المثال على أحد القهاوي الشعبية، ذاك السيد العامل البسيط، وذاك المثقف، وذاك السيد الأفندي الذي يضع الطربوش، وستسمع رنين ضحكاتهم مجازياً من خلال الصور التي وصلتنا ولك أن تتخيل نوع تلك الجلسات وجماليتها، فلم يكن ذاك مع هذا النظام وذاك مع تلك المعارضة، أو ذاك يكفر الآخر، أو ينبذه، بل تجد أن الاحترام كان هو السائد، وأن الحياة بسيطة، الكل يعمل واجباته الدينية والاجتماعية ويمارس عمله بمحبة كبيرة، لأن الله محبة، ومن يؤمن بالله تبارك وتعالى، يرتضي قسمته ويقبل بنصيبه من هذه الحياة.
وبالطبع، إن هرمية الحياة في المجتمعات، أوصلت لنا أسماء كبيرة عن عمالقة في مجالهم، ليسوا رجال إصلاح بقدر ما هم دعاة إصلاح، فكل إنسان له رسالة في الحياة، مهنية، تربوية، اجتماعية، دينية، ثقافية، أما المصلح، فهو من يحمل الثقل الأكبر، لأنه معني بتصحيح الأخطاء بعد استقراء واسع لهدف سامي ألا وهو تقريب وجهات النظر، لأجل المجتمع أولاً ومن ثم الأفراد، فالأنبياء والرسل كلهم دعاة إصلاح لأن رسالتهم تقتضي بتصحيح أخطاء وقعت لأمم سبقتهم، بالتالي رب العالمين عندما أنزل الشرائع السماوية هي بمثابة دساتير للناس تصلح حياتهم وتنظمها، وهنا نقول، إن المصلح الحقيقي، من يمشي على خط ونهج الأنبياء والرسل، مع الإشارة إلى أن ما من أحد معصوم، لكن بالقدر المتاح والمستطاع تكون الرسالة، فكل من يدّعي الكمال من دون الله تبارك وتعالى، حتماً ليس بكامل، وهذا يمكن إسقاطه على الحقب الماضية التي كانت حياة بمعناها الواسع والعريض.
واليوم، في هذا الزمان المضطرب، كما يقول الإمام جعفر بن محمد الصادق، أو تُنسب له، (الحق المر.. هذا هو الحق)، الواقع أننا نجد كثير ممن يرفضون أن يسمعوا كلمة حق، لذلك درب المصلح غير معبّد بل مليء بالأشواك، ويجد مطبات وعقبات كثيرة تحول بينه وبين تأدية رسالته، والأهم قدرته على التحمل، لأن الإقناع مهمة صعبة، والوصول إلى حل وسط تحتاج إلى محاولات حثيثة يخوضها المصلح، لغاية سامية كما أسلفت، وهي الصالح العام، لأن مهمة المصلح تقتضي ذلك، حتى في مسألة الإصلاح الديني، حيث يعتنق المصلح هذه المبادرة بداعي عام له معنىً عميق، ليست مهمته تفضيل فئة على أخرى، او تيار على آخر، أو طائفة على أخرى، حتى وإن كان ينتمي لها، إذ يجب أن يكون حيادياً بالمعنى المطلق للكلمة، ليخرج بالنتيجة المرجوة، وهنا أخص بالذكر أمتنا الإسلامية ولنا كل الفخر بالانتماء إليها، لكن هناك أمر واقع وهو تعدد المذاهب فيها، والجميع يعلم أن داخل كل مذهب من المذاهب الإسلامية هناك خلافات فقهية وفكرية وعلى مستوى المرجعيات من خلال قراءتهم للنصوص، وحتى بقراءتهم للقرآن الكريم، وهنا دور المصلح الحق في تقريب وجهات النظر.
فلغة التواصل واعتلاء كل المنابر هي الطريقة الأقوى والإصلاح قدر المستطاع، قال تبارك وتعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)، فهذه هي رسالة الأنبياء والرسل، وهنيئاً لكل من سار على خطاهم وما أكثرهم، ولنا في قصص الأنبياء مع بني إسرائيل عبرة، فالمصلح شخص تحت المجهر، يعاني كثيراً في سبيل أداء مهامه، فلدينا على سبيل المثال، السيد جمال الدين الأفغاني، فيلسوف الشرق (محمد جمال الدين بن السيد صفتر الحسيني الأسد آبادي الأفغاني مؤسس حركة الحداثة الإسلامية وأحد دعاة الوحدة الإسلامية في القرن التاسع عشرـ 1838 – 1897)، هذا الشخص إلى الآن مثير للجدل خاصة من قبل المؤرخين والكتّاب خاصة حول مذهبه، ولكن أفضل من أنصفه المفكر الإسلامي الكبير، الدكتور محمد عمارة (1931 – 2020)، من خلال تقديمه دراسة موضوعية لتراث السيد جمال الدين الافغاني، مع أمنية خاصة أن يقتدي الناس بمنهجية الدكتور عمارة العلمية الذي خير من قرأ الاشخاص بموضوعية.
وكما دأبت دائماً وأعيد التأكيد، يجب على الجميع قراءة التاريخ بموضوعية وتجرد بعيداً عن الأهواء لاستخلاص كل النتائج لنقد أو مدح الشخصية المراد الحديث حولها، فمن الطبيعي بمكانٍ ما أن يكون المصلح قد قرأ بهذا الأسلوب قبل أن يقوم بمحاولاته في تطبيق عملية الإصلاح، كما السيد الأفغاني المصلح بجدارة، اختلفنا أم اتفقنا معه يبقى شخصية إصلاحية من الرعيل الأول، لها مواقف في جمع شمل المسلمين، رغم الاختلاف حقيقةً حول مذهبه، حيث أعتقد أنه من أهل السنّة بحسب قراءتي، فتلميذه ابن باديس، (الإمام عبد الحميد بن باديس الموافق لـ من رجال الإصلاح في الوطن العربي ورائد النهضة الإسلامية في الجزائر، ومؤسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، 1889 – 1940)، كان من المذهب المالكي، وبصرف النظر، لقد كان قريباً ومنفتحاً على الجميع، وإسقاطي هذا المثال، لغاية حاجتنا اليوم لمثل هذه النماذج، فقد كان من أبرز دعاة التجديد، مع الإشارة أيضاً إلى أن المجدد، الإمام محمد عبده كان أحد تلامذته.
ومع الأسف، من ينظر حوله ويرى تفاهة مجتمعاتنا اليوم يتأكد أن كل من يحاول تقريب وجهات النظر وكأنه ارتكب جرماً لا غفران له، يتم تجنيد الألوف لإسقاطه وتحطيمه فقط لأنه يحاول الإصلاح، فالزعامات الدينية والسياسية والاجتماعية اليوم لا تتقبل الرأي الآخر رغم ادّعائها الانفتاح والحرية والديمقراطية، لكن الطبع غلب التطبع، لذلك نحتاج إلى شخصيات إصلاحية على غرار السيد محمد جمال الأفغاني الذي أرى أن هناك حاجة للاستشهاد به وبدوره الرائد في زمانه والذي أثبت أنه ينفع كل زمان ومكان، هذه الشخصية التي كتبت عنها عشرات الكتب والأبحاث ما بين مدحٍ واستنكار، كان محارباً قوياً ووقف ضد الغرب في الدفاع عن الإسلام، ومن المعروف أن النشاط الأكبر للسيد الأفغاني كان مع “العروة الوثقى” المجلة العربية التي تُعنى بنهضة الأمة الإسلامية وإعلاء شأنها ما جعلها مصدر عشق للمشرقيين عموماً وللمسلمين على وجه الخصوص، والمعروف أيضاً أنه كان من أصحاب الخطب الرنانة والقوية، بعيداً عن الكتابة، فقيل عنه: (خطيب الشرق الذي رنّ في الخافقين صدى خطابه)، فهو يتحدث كثيراً ويكتب قليلاً لأن رسالته الإصلاحية تطلبت ذلك، لان جل ما كان يهمه بث الروح في الشرق حتى ينهض بثقافته وعلمه وتربيته وصفاء دينه وتنقية عقيدته واستعادة عزته ومكانته، وفي قال السيد محمد رشيد رضا: (يعد من مميزات السيد جمال الدين الأفغاني أنه أحدث نهضتين اجتماعيتين، نهضة علمية ونهضة سياسة، ولقوة شخصيته استطاع أن يجمع بين المسارين وكان أحدهما يطغى على الآخر بحسب الزمان والظروف المحيطة به..)، باختصار إن السيد الأفغاني كان يحرك المياه الراكدة، فهو صاحب السبق في تشييد دعائم فكر النهضة الإسلامي حتى الذين يختلفون معه يجدون الكثير من الصعوبة لدحض ذلك أو إنكاره أو إنكار الأثر الذي خلفه.
الإسلام هو رسالة أتت لتهذيب نفوس البشر، ترجعهم إلى الفطرة السليمة، ولننظر من حولنا قليلاً ليس ابتداءً من الحروب، بل إلى الاحتباس الحراري والفيضانات والجفاف حتى في أوروبا، (مع التأكيد لمن يقول إن الغرب متفوق علينا، لكن في معاناته تراه ضعيف كثيراً)، لأن التطاول على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكره المسلمين، ومحاربتهم، يجب أن نعلم (ولكم في الحياة قصاص)، فالتطور والتقدم إن لم يعد الإنسان إلى فطرته السليمة والنظيفة لن يحقق شيء مهما تقلد مناصب وارتفع من وجهة نظره، فيجب ان يخرج حتى في الغرب دعاة إصلاح للتقريب بين المكونات والمذاهب والتواصل بين الديانات من خلال دعاة حقيقيين قرأوا التاريخ من مصادره الأصيلة قرأوا بحب ونشروا الرسالة بحب لأن الله محبة في كل مكان وزمان.
اليوم دورنا وكلنا مسؤول، يجب أن نجتث منابر التطرف المذهبي والديني، نحاربها ونكافحها، ونقضي عليها، لأن هذه المنابر لا تعرف أن تعيش روح القرآن الكريم، فالعامل المشترك في القرآن، هو الحب في الله تبارك وتعالى، كذلك إعمار الأرض محبة، تربية وهداية الإنسان محبة، وهذا يتحقق من خلال وجود مصلحين يصلحون أي اعوجاج.
من هنا، إن العقبات التي تعترض مسيرة الإصلاح واسعة والتي تلقي بظلالها على المجتمعات، خاصة في عالمنا العربي والإسلامي، فهي تمثل طبقات تختلف مسمياتها من شريحة إلى أخرى داخل المجتمع في كل عصر من العصور، كطبقة الأثرياء غير المتدينين على سبيل المثال، هذه الطبقة تبني ثروتها على السحت والحرام، لا مكان للمصلح لدى هذه الطبقة والتي ترفض رفضاً باتاً التدخل في شؤونها، ولدينا دائماً وأبداً طبقة منفلتة على القيم والمبادئ والأعراف وهي طبقة موروثة في مجتمعاتنا، لم تستطع المجتمعات التخلص منها، وهذا بكل تأكيد خلل ابتلينا به، ومن انواع الخلل الأخرى التي ابتلت بها المجتمعات، إنتاج قادة لا يروق لها الإصلاح والأسباب كثيرة وجلّها معروفة، لكن بالمحصلة هم نتاج ثقافة مجتمعية موروثة، ولأجل ذلك، يجب أن يكون عكاز المصلح قوي ليقدر على الصمود في وجه الرياح العاتية التي سيصطدم بها او تصطدم به، فالعكاز الذي يتمسك به المصلح والخيّر لينجح هو عكاز القيم والمبادئ والمُثل العليا التي دائماً ما تواجهها هذه العقبات المجتمعية الموروثة من البيئة العتيقة وإلى يومنا هذا.
كذلك من العقبات التي تواجه أهل الخير والمصلحين، النفاق الذي هو داء موجود سواء على مستوى التعامل مع الدين، أو على المستوى الاجتماعي كالغيبة والنميمة، وهو ما يمكن تسميته بالنفاق الاجتماعي، وهو بالطبع غير النفاق الاعتقادي كمن يظهر الإسلام ويبطن الكفر، أو العملي، كمن يعد ويخلف، أو عاهد فغدر، أما النفاق الاجتماعي فهو موروث اجتماعي كداءٍ خطير، لم تستطع شعوب الأرض أن تتخلص منه للأسف، وهي عقبة تواجه المصلحين، فإن استطعنا التخلص من عقبات هذا الموروث المجتمعي يستطيع المصلح أن يسوق مجتمع كما المدينة المنورة في عهد النبوة ولكن هيهات.
بالتالي، إن الداعية إلى الله والمصلح الاجتماعي والديني، الذي اختار هذا الطريق، عليه أن يفكر برضى الله تبارك وتعالى، ولا يرضي الخلق، ويبتعد عن مغريات الدنيا ولا يلتفت إلى ردود من يحاول تحطيم رسالته، بل يحاربهم بتطوير رسالته وأدواته وتطوير مهاراته، ويبحث عن القواسم المشتركة بين الناس ليقربهم من بعضهم البعض حتى وغن اختلف معهم في الدين والعقيدة والمذهب، ونحن عقيدتنا عقيدة حب وديننا ومنهجنا منهج حب، وهذا يتحقق عندما يتم أخذ العلم من أهله، مثل الإمام محمد عبده، والسيد جمال الدين الأفغاني المجدد العظيم، والإمام محمد رشيد رضا الذي سنفرد له قراءة موضوعية عن نشاطه الدعوي والفكري والثقافي ومجلته المنار التي كتب الله تبارك وتعالى لها القبول إلى هذه اللحظة، حيث ما زالت تطبع وتنشر، وذلك اعتماداً على عباقرة الكتابة الموضوعية كالدكتور محمد عمارة الذي كما أسلفت أنصف الأفغاني في موسوعته المؤلفة من أربعة مجلدات، فمن يريد التبحر الدكتور محمد عمارة خير معين.
خلاصة القول، إن أي إنسان صاحب رسالة كما أسلفنا في طيات المقال، المصلح عليه أن يترفع عن الصغائر لأن ما يناله من حملات التشهير من المغرضين على مواقع التواصل الاجتماعي أو المواقع الرسمية بقصد النيل من المصلح أو أي شخصية عصامية، ما هي إلا حقيقة ساطعة بأنه يسير على النهج الصحيح، وأنا الذي اعتبر إلى الآن أني لا زلت طالب علم، نالني ما نالني من المغرضين وضعاف النفوس، لكن الفائز من يظفر برضى الله تبارك وتعالى، ولا يمكن للعمالة الرخيصة أن تؤثر على مكتسبات العلماء الكبار التي أعتبرها زادي واستمد القوة منها، لذلك مستمرون على طريق الحق، مهما صعب مسلكه.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.