قضايا عربية عديدة ما زالت عالقة على طول الجغرافيا العربية من محيطها إلى خليجها، ولم يسلم جزء عربي من تصدعات السياسة، فمن حدود المغرب والجزائر غربا مرورا بتونس وليبيا وصولا لوادي النيل ثم الشام الذي يعيش مخاضا لبنانيا، وما زالت سوريا قلب العروبة النابض إحدى أبرز القضايا العربية العالقة، وتبقى فلسطين القبلة الأولى والأخيرة، وانتهاء بالخليج العربي واليمن وعراق ما بين النهرين ضمن دائرة الرمال العربية المتحركة. وللأسف الشديد تغيب المواقف العربية الفاعلة عن جملة هذه القضايا، فالأمة العربية أصبحت متشظية أقصى ما تبحث عنه في دائرتها القطرية رغيف عيشها فقط، ولم تتطلع لأي عمل عربي جماعي يعيد للوطن العربي تمركزه السياسي والحضاري ضمن الخريطة العالمية التي يغلب عليها حالة من الشحوب وغياب الألوان وتتواتر عليها الأزمات والصراعات. وما زال الأداء العالمي عموما يعيش إرهاصات مرحلة تغيير عالمي وتبادل مراكز، وبلا شك هي مرحلة صعبة على العالم أجمع خلَّفتها سياسات القوى العالمية وغياب الشرعية الدولية عن مواجهة تلك الأزمات أو عدم قدرتها على تأدية رسالتها كما ينبغي من الناحية الإنسانية، فبات النظام العالمي المعاصر مهددا في سياق الصراعات وتبادل مراكز الصدارة، وهكذا هو الحال في قضايا العرب التي تعددت وأصبحت عالقة في عقود من الأزمات كحال الذاكرة العربية المرتبطة بمتلازمة داحس والغبراء، وكل الأزمات العالمية والعربية تحديدا بحاجة إلى جهود جماعية دولية معززة بقِيَم إنسانية لعبورها وبالذات قضايانا العربية التي تؤكد عبارة: “كلنا في الهم شرق” أملا في تحقيق تطلعات هذه الأمة الباحثة عن عودة إلى هُويتها وتاريخها المشترك، بل هي في أمسِّ الحاجة اليوم إلى خلق مسارات عمل عربي مشترك يرمم الحاضر، ويرسم المستقبل، وينسج خيوط التلاحم والتضامن المنشود في معالجة قضايا الأمة القومية بكل السبل الجماعية المتاحة، فالمناخ العربي وتغيراته ليس انتقائي الطبع والمزاج، بل هو مناخ عام سيجتاح المنطقة إن لم تعزز قواها الجماعية في مواجهة هذا المناخ الخطير .
قضية سد النهضة التي تنهي عقدا من الزمان، وجاءت على حين غرة، ما زالت حديث الساعة في بلد القاعدة العربية جمهورية مصر العربية التي سماها الأعداء الجائزة الكبرى، ولكنها عصية على الخصوم وستظل كذلك بعون الله، هذه القضية المزمنة التي خرجت من إطارها القاري إلى التدويل رغم الإخفاق الدولي في معالجتها قانونيا ما زالت تتأرجح بين الأفعال وسجال التصريحات المتبادلة، في ظل غياب عربي رسمي ما زلنا نتطلع إليه لإعادة بصيص من الأمل في حراكه طالما يرتبط بالأمن القومي العربي الذي أصبح مهددا في حياته وقوته، وعلى العرب عدم انتظار ماذا سيحدث لاحقا وما هو القادم؟ بل الاستفادة من عبر التاريخ ورهانات الأمم التي عولت على نفسها في ولوج مسارات التغيير، ونحن العرب كحالة جماعية واحدة علينا أن نعمل ضمن سياق العمل العربي المشترك الذي تنادي به جامعة الدول العربية، وهنا تبرز أهمية الأدوار المعطلة ـ للأسف الشديد ـ في هذه الجامعة وكأنها مكتب تنسيق ومرسلات فقط مع الاحترام لهذا الكيان العريق، لكن تطلعاتنا العربية دائما ترنو إليها في رسم خطوط التغيير والتأثير، فمنها يمكن تنسيق عمل عربي جماعي حيال قضايانا الرئيسية، وأهمها اليوم الاستهداف الذي تتعرض له مصر العروبة في مائها وقوتها برفض إثيوبيا الانصياع إلى تلك المهددات الأمنية التي تواجه مصر والسودان معا في قضية سد النهضة، وغياب التنسيق والتفاهم بين الأطراف الثلاثة شركاء هذه القضية، وبعد فشل التدويل السابق ودخول بعض الأطراف الدولية ومنها العربية على خط الأزمة تبعا لمصالح كل منها، تبدو القضية مفرغة من الحضور العربي المطلوب الداعم لمصر والسودان، فعدا تونس التي عرضت مشروع قرار على مجلس الأمن الشهر الماضي ويؤمل تكراره لاحقا، لم نجد أي مواقف عربية جماعية داعمة لمصر والسودان كما ينبغي في قضية سد النهضة .
العرب اليوم أمام مسؤوليات قومية تمسُّ الأمن العربي الجماعي في القضايا الرئيسية، وعلى رأسها قضية سد النهضة، ويمكن للعرب وجامعة الدول العربية الانتقال إلى نقطة فعل جماعية متقدمة، وتوفير غطاء عربي وشراكة جماعية، وأقترح على جامعة الدول العربية الدعوة إلى تشكيل لجنة عمل عربية دائمة من وزراء الخارجية العرب لمتابعة هذه القضية برئاسة مصر، وإعطاء القضية بعدا عربيا جماعيا والتحذير من الإضرار بدولتي المصبِّ مصر والسودان باعتبارها قضية أمن قومي، والتواصل مع جميع الأطراف بهدف الوصول إلى اتفاق مشترك وملزم فيما يتعلق بمسألة ملء وتشغيل السد دون الإضرار بأي من دول الحوض، مع حفظ حقوق إثيوبيا في التنمية الوطنية، علما أن قضية النهر ليست قضية خاصة، بل هي قضية شراكة دولية بين جميع دول حوض نهر النيل العظيم كما هو الحال في بقية الأنهار الدولية حول العالم، كما أقترح تكليف مكتب اتصال دائم في جامعة الدول العربية لمتابعة القضية بشكل مستمر لإعطاء القضية زخما عربيا وتحشيدا دوليا فاعلا .
العرب اليوم أمام قضايا مشابهة في سوريا والعراق تتطلب أيضا بذل جهود جماعية، فالتهديد الأخطر في المستقبل سيكون على المياه، ولا بد من تحشيد عربي وعمل جماعي منظم باستخدام كل خطوط التأثير الممكنة، وإعادة تفعيل العمل العربي الجماعي لمواجهة تداعيات مثل هذه القضايا المصيرية، ونأمل أن يستفيد النظام الرسمي العربي من دروس الماضي لتحقيق تطلعات الشعوب العربية نحو المستقبل وتحقيق الشراكة والتضامن العربي المطلوب لتجاوز القضايا والأزمات المحيطة بالمنطقة .
خميس بن عبيد القطيطي