من الضروري إجراء حديث هادئ موضوعي ما بين شعوب الأمة العربية، والشعب الألماني الصديق، بشأن سوء الفهم الذي حدث وأثار ضجة كبيرة أثناء زيارة رئيس الشعب الفلسطيني العربي، ولن نقبل دخول أية جهة أخرى، تحت أي إدعاء أو مبرر، في هذا النقاش الودي في ما بين الأمتين.
إذا كنا نحن العرب قد استعملنا مراراٌ المقارنة ما بين الديمقراطية الألمانية والممارسات الديمقراطية في مختلف بلاد العرب، وقارنا أحداثاً كثيرة في التاريخ الألماني بأحداث في تاريخنا، وقارنا توجهات وأفكار فلسفية ألمانية بما طرحه الفلاسفة العرب عبر العصور، ولم يصدر أي اعتراض ألماني على مثل تلك المقارنات، ومئات أخرى غيرها، فلماذا يعترض بعض الألمان على استعمال كلمة الهولوكوست كتعبير عام موجود ومعرف في القواميس وكتب التاريخ؟
فالتعريف يقول إنها قتل للمدنيين، وعلى الأخص قتل النازيين لليهود، ولا يقول إنها حكر على حادثة تاريخية معينة فقط، من هنا تشير بعض القواميس إلى أنها كلمة متقاربة في معناها لكلمات، مثل الإبادة أو المذبحة أو القتل الجماعي أو الجحيم وغيرها من كلمات كثيرة أخرى. وإذن فمحاولة البعض جعل هذه الكلمة لها خاصية شبه مقدسة، تمس فقط حادثة تاريخية، ما بين جزء من الشعب الألماني وجزء من شعب واحد آخر، بينما في الحقيقة مست أجزاء مدنية من شعوب أوروبية عدة، يبدو نوعاً من التعنت اللغوي والتاريخي، الذي لا يليق بشعب عظيم عقلاني كالشعب الألماني الذي نكن له كل الاحترام. هذا من ناحية الجانب اللغوي، فإذا انتقلنا إلى منهجية التطبيق لهذه الكلمة، فإن حرق مدن أو أحياء أو جماعات بشتى صنوف الحرق، قد حدث مراراً في التاريخ الإنساني، ولذا فإن ممارسة الإبادة أو الهولوكوست كانت وستظل بأشكال ومصادر متنوعة. فمثلاً، ألم يكن استعمال الأمريكيين لسلاح النابالم لحرق الأخضر واليابس والساكنين في فيتنام كانت نوعاً من الإبادة الهولوكوستية؟ ثم من قال إن الحرق في الأفران، على بشاعته وإجراميته، أكثر إيلاماً وعذاباً من نشر الأمراض الفتاكة القاتلة بين قبائل الهنود الحمر، الذي استعمله الجنس الأبيض الأوروبي عند غزوه للقارة الأمريكية؟ ألم ينته ذلك الاستعمار الإبادي البشع بقتل عشرات الملايين من الأطفال والنساء وكبار السن والشباب من الشعوب الهندية الحمر، هل حقاً أننا لا نستطيع أن نسمي كل ذلك بالهولوكوست الأمريكي تجاه تلك الشعوب؟ وهنا دعنا نعرج على ما وصفه الرئيس الفلسطيني بالهولوكوست تجاه الشعب الفلسطيني العربي. ألم يكن قتل كل الأطفال والنساء والكبار من شعب دير ياسين وتهجير الناجين منهم مشياً على الأقدام، نوعاٌ من المذبحة أي الإبادة الهولوكوستية؟ هل أن عدم استعمال الأفران يجعلها معركة صراعية عادية وليست إبادة جماعية؟ هل القتل الممنهج لأطفال ونساء وكبار وشباب فلسطين عبر سبعين سنة، تحت شتى الذرائع الأمنية المفتعلة، لا تصدق عليه كلمة إبادة هولوكوستية؟ فقط لأنه يحدث رويداً رويداً (بالقطارة كما يقول المثل العربي) ولم يحدث خلال بضع سنوات كما حدث في ألمانيا النازية والدول الأوروبية المحتلة؟
هل إبادة ستة ملايين أو مليونين، كما كان يؤكد المفكر والمؤرخ الفرنسي غارودي هي وحدها التي تحتكر كلمة الهولوكوست؟ أما إذا كانت الإبادة لعشرات الملايين، كما حدث للهنود الحمر في قارة أمريكا، أو عشرات الألوف كما حدث للشعب الفلسطيني، فإن كلمة الهولوكوست لا تنطبق على ذلك الجرم، الذي لا يقل في بشاعته عما فعله النازيون.
نحن نتفهم حساسية الشعب الألماني وشعورهم بالذنب تجاه ما فعله النازيون الألمان بالعديد من شعوب أوروبا، ولكننا لا نتفهم الإصرار على احتكار كلمة الهولوكوست وغضبهم الشديد عند وصف قتل الآخرين الممنهج بالهولوكوست. إن ممارسة الهولوكوست تجاه أي جماعة وأي مجتمع، مهما كان كبيراً أو صغيراً، يجب أن لا تكون حكراً على أحد، وكفانا القدسية التي يستعملها محتلو فلسطين لتبرير احتلالهم لفلسطين وتهجير أهلها وقتل وسجن كل من يقاوم ذلك الاحتلال. نحن نربأ بالشعب الألماني الصديق أن يسمح لنفسه بأن يجر إلى تلك الهلوسات الدينية التي تستعمل لإبادة الشعب الفلسطيني خطوة خطوة وقطرة قطرة.
24/8/2022
د. علي محمد فخرو