مع اقتراب العودة إلى المدارس للعام الدراسي الجديد في الرابع من سبتمبر، تتجه الأنظار إلى مراكز التسوق ومنافذ بيع المستلزمات والأدوات المدرسية للطلبة، والذي تخيم عليه هذا العام غمامة غلاء الأسعار وارتفاع القِيمة الشرائية للأدوات المدرسية، ما يعني الكثر من الضغوط والالتزامات الأُسرية وبشكل خاص على أولياء الأمور الذين لديهم أكثر من طالب في سن المدرسة بمختلف الصفوف الدراسية، والحاجة إلى تبنِّي مسار التكيف مع هذا الوضع، في ظل استحضار المعادلة الاستهلاكية في حياة الأُسرة المجتمع، وعبر تعظيم قِيَم المسؤولية المجتمعية في إنتاج فرص التغيير وبناء فرص الوعي. ولمَّا كانت المنظومة الشرائية قائمة على الاتساع والشمولية والعمق وحاجتها للتكامل والشعور بالمسؤولية بات اليوم أحد المرتكزات في التقليل من تأثيرها على حياة المواطن وظروفه المعيشية وصحته الجسدية والنفسية فإن تحقيق معادلة القوة في إيجاد ثقافة شرائية متزنة ومسار استهلاكي يراعي كفاءة الموارد والملاءة المالية للأسرة، ويعمل على استدامتها، ويعزز من فرص نموها وإدخالها، في مواجهة الاستهلاك الجائر والاستغلال السلبي يرتبط بمستوى التكاملية والمسؤولية بين الأُسرة والمدارس والمؤسسات التشريعية والضبطية والتنفيذية ذات الصلة بتوفير الخيارات الواسعة من المستلزمات المدرسية في الأسواق من جهة، ومراقبة الأسعار وضبط التجاوزات والانحرافات الحاصلة فيه، بالإضافة إلى تحصين فكر المجتمع بالأولويات والاختيارات المبنية على الحاجة التعليمية ذاتها، فإن تكاملها كفيل برسم صورة أخرى تعبِّر عن حجم التناغم المجتمعي والتمازج بين هذه المنظومات في مساعدة الأُسرة والأبناء في التعاطي مع العادات الاستهلاكية وضبطها، وإيجاد عادات استهلاكية أكثر حكمة وسلاسة، واضعة مبدأ الأولويات والاختيار المراعي لطبيعة الأُسرة وظروفها مع المحافظة على سقف الجودة باعتباره المحك الأساسي في أي اختيار.
وبالتالي كيف يؤسس المجتمع من هذه المواقف والظروف والمواسم محطة لإعادة تصحيح ثقافة أبنائه، وترسيخ ثقافة التوازن الاستهلاكي واتساع أفق هذه الثقافة وحضورها في الممارسة اليومية للأسرة، الأمر الذي يلقي بمسؤوليته على الجميع في مواجهة تعسفية الاستهلاك وتأثيره على الحياة الاجتماعية والاستقرار المعيشي؟ إن الإجابة عن هذا التساؤل في تقديرنا الشخصي يعود بنا إلى التأكيد على أهمية تعزيز وبناء الإدارة المالية في حياة الأُسرة، ومدى وجود تأطير منهجي لهذا المسار في سلوك المجتمع عامة، بمعنى إلى أي مدى تضع الخطط الاقتصادية الخمسية والموازنة العامة للدولة في أجندتها هذا البعد كأحد محكّات التقييم لسلوك المواطن ودوره في تعزيز الاستدامة المالية، واستحضار هذه الصورة في إطار نهج وطنية تقوم على مساعدة الأُسرة في تخطي الإشكاليات المرتبطة بالاستهلاك الموسمي في وقت المناسبات الاجتماعية والدينية أو كذلك مع بدء دوام الطلبة وشراء الأدوات والمستلزمات الدراسية، ويصبح تحقيق هذا التوجُّه مرهونا بتفعيل أجندة الشراكة المجتمعية وإيجاد تناغم مع فكر النشء وقناعاته في الاختيار ومنحه فرص تحديد خياراته (نوعية الحقائب، والقرطاسيات، ومستلزمات الأقلام وغيرها) بنفسه مع اعتماد سقف واضح ومحدد تضعه وزارة التربية والتعليم لتقليل حجم التكاليف والالتزامات الشرائية المترتبة على الأُسرة، فإن النجاح في التعاطي الإيجابي مع هذا الموضوع سوف يضمن إحداث نقلة نوعية في فكر النشء الاقتصادي وقناعاته والتقليل من العادات السلبية للاستهلاك وترقية العادات الحسنة التي تستنطق القِيَم الإيمانية الأصيلة في حياة النشء القائمة على مبادئ الاعتدال في الإنفاق وترسيخ مفهوم الحقوق والواجبات الاقتصادية والمالية في حياة النشء والمحافظة على استمرارية الأُسرة في أداء نشاطها الاقتصادي، ويعمل على بناء منظومة اقتصادية متوازنة حول تقنين الإنفاق والعادات الشرائية والأولويات والادخار والمشروع الاقتصادي والتثمير في الموارد الذاتية، ورفع مستوى التسويق الذاتي للفرد عبر فهم أعمق للتعاملات الاقتصادية وغيرها.
من هنا يقع على الأُسرة اليوم الكثير من الالتزامات في استنهاض هذا السلوك في كيانها ومكوِّناتها وإقناع أبنائها وبناتها، حول نوعية التجهيزات والأدوات المدرسية التي يحتاجها الطالب ومستوى الواقعية فيها بحيث تراعي ظروف ولي الأمر وإمكانياته والحالة الاقتصادية التي يمرُّ بها، خصوصا أن بدء العام الدراسي يرتبط في عرف المجتمع بالكثير من الالتزامات المالية والطلبات المستمرة للمعلمين والمعلمات التي لا تنتهي إلا بانتهاء العام الدراسي ومعنى ذلك ان الحالة الاستهلاكية ستستمر والازدحام في شراء المستلزمات في هذه الفترة يمكن تجاوزه ببعضها، بما يقلل من الضغط على الأُسرة ويوفر لها ملاءة مالية تعينها على إدارة أيامها المقبلة، واستشعار هذا الأمر وإدراكه وتفهم هذه الظروف، والحدِّ من حالة الشغف المرتبط بالأدوات المدرسية وإلزام ولي الأمر ورب الأُسرة بشراء هذه المستلزمات جميعها في وقت واحد، على أن اتساع الرغبات الشخصية في مجتمع الطلبة وعبر القنوات الترويجية والإعلانات والدعايات التي تصل إليهم عبر المنصَّات الاجتماعية والواتس أب والانستجرام، الأمر الذي يضع الطالب أمام تحدٍّ آخر مع الأُسرة في اتساع الرغبات الصعبة لديه، فيزهد فيما هو معروض في مراكز التسوق المعتادة ليتجه إلى طلب هذه السلعة والأدوات عبر التسوق الإلكتروني بأسعار قد تفوق ما هو معروض في الأسواق، يستدعي اليوم مزيدا من التناغم في الأفكار والتقارب في الرؤى بين الأبناء والآباء والأمهات، وما إذا كانت تتوافر في الوقت نفسه أدوات مثلها بأسعار تنافسية وقِيمة شرائية تتناسب مع ظروف الأُسرة وتستجيب لها.
وعليه، باتت هذه المعطيات تطرح اليوم على الإعلام والمدارس والمؤسسات ذات الصلة مثل: هيئة حماية المستهلك، وغرفة تجارة وصناعة عُمان ووزارة الإعلام ومؤسسات التعليم في تقديم برامج توعية وتثقيفية للطلبة في الاستهلاك الرشيد والاختيار المبني على أولويات الاستطاعة مع التأكيد على أهمية الجودة والمعايير في الاختبار باعتبارها سقفا أساسيا لا يمكن التنازل عنه، فإن بناء هذه الثقافة واتساع دائرة الحوار الأُسري وتفاعل المؤسسات واهتمامها بهذا الأمر، ومساعدة الأُسر على تخطي هذه الظروف وعبر جملة من البدائل والمحفزات والحزم التحفيزية التي من شأنها أن تقلل الأعباء والتكاليف الاقتصادية والنفقات المترتبة على الأُسرة، بما يلقيه هذا المعنى الأخير على المؤسسات التموينية والاستهلاكية ذاتها (المولات ومراكز التسوق ومنافذ البيع) من مسؤولية تبني مبادرات جادة في تقديم الدعم والحوافز المجتمعية للأسر محدودة الدخل والأُسر التي يعيلها أب متقاعد أو كذلك للأسر التي يزيد عدد أبنائها في المدارس الحكومية عن اثنين، وعبر توفير قسائم شرائية توفر لمستخدميها بعض الميزات الشرائية ذات الصلة بالمدارس، في سبيل إيجاد صورة تكاملية مجتمعية في التعاطي مع المستلزمات والأدوات المدرسية، سواء من خلال العروض الاستهلاكية والتخفيضات الواقعية والبيع بسعر الجملة وغيرها من المبادرات والفرص التي تضمن الحدَّ من استنزاف سلة ولي الأمر.
وتبقى الإشارة إلى أن الرقابة في أي عمل إنما تأتي بحياة الضمير وصدق المسؤولية وحس المواطنة، غير أن التدخل البشري وغلبة المصالح الشخصية وحالة الجشع والاحتكار التي ترافق النفوس المريضة للتجار وأصحاب محال التسوق وغيرهم من الذين يجدون في هذه الفترة التي تسبق دوام الطلبة في المدارس فرصة لترويج بضاعتهم وتحقيق أرباحهم، لذلك كانت الحاجة إلى دور الجهات الرقابية والضبطية ومن بينها هيئة حماية المستهلك في العمل على مراقبة الأسعار وتقييم الحالة الاستهلاكية، وتطبيق الإجراءات والقوانين والآليات النافذة في قانون حماية المستهلك بكل مهنية ومصداقية، مع العمل على توفير التقارير اليومية عبر المنصَّات الإعلامية وغيرها حول الأسعار ومستوى الثبات والتغيير فيها، بما يستدعيه ذلك من الخروج من الدائرة المغلقة التي تقتصر على المراقبة العامة والزيارات المفاجئة وتقصي أحوال السوق إلى الاستجابة الفورية والمباشرة لنداءات المواطنين أو ما يطرحونه من نقاشات عبر المنصَّات الاجتماعية ومراكز الاتصالات في الوقوف على هذه الثغرات والحل الفوري والسريع لها.
أخيرا، فإن نجاح كفاءة المعادلة الاستهلاكية لا يرتبط بالبُعد المالي الصرف فحسب، بل بتحقيق أبعاد أخرى اجتماعية ونفسية وثقافية غير منظورة تعكس نمط التفاعل المجتمعي والحس الاجتماعي وأهميته في حياة المجتمع، في تنازل على أنانية المصالح الشخصية والكسب السريع، وتعبِّر عن مسار يجسِّد قوة المجتمع وتلاحمه وتكاتفه وتكامل أجندته في البحث عن كل ما من شأنه التقليل من هاجس الصورة الذهنية السلبية الأخرى التي يقرأ فيها أولياء الأمور والأُسر بدء العام الدراسي الجديد في ارتباطه بحجم ما ينفقه على التجهيزات والأدوات المدرسية، فإن تغيير هذه الصورة وإسعاد الأبناء والفرح معهم باقتناء المستلزمات الدراسية وإشعارهم بأهميتها لتحقيق تعلُّم عالي الجودة يبنى على توافر هذه الأدوات، ارتفاع سقف العامل النفسي والقناعة الذاتية وصدق التعلُّم والجدّ والاجتهاد باعتبارها ممكنات أولية أساسية في حياة الطالب الدراسية، كما يصنع من خلالها حافزا إيجابيا وسلوكا نوعيا في شغف إقباله على الدراسة، واستشعاره حجم التقدير الذي يبذله ولي الأمر لوصول أبنائه إلى مقاعدهم الدراسية بكل أمان وسلام واطمئنان، فما يحمله الأبناء من حقائب ودفاتر وأقلا، معينات تحفظ له مسار تعلمه، وتصنع له مساحة شخصية في رد هذا الجميل الأبوي والرعاية الوالدية لتعلمه بمزيد من الجدِّ والاجتهاد والمثابرة والتحصيل العلمي.
د. رجب بن علي العويسي