من أشهر فلاسفة القرن العشرين، شخصية عامة مألوفة على مدى نحو ٦٠ عاماً، دائماً ما كان مادة دسمة للصحافة تارةً من باب الفضائح، وتارةً أخرى، كمثقف حكيم، جلبت عليه آراؤه مجموعة متنوعة من ردود الأفعال تراوحت بين أحكام بالسجن وجائزة نوبل.
برتراند راسل، الذي لم يجلس منعزلاً في برجه العاجي -كما يفعل بعض الفلاسفة- وإنما نزل إلى الشارع، وتدخل في الأحداث الجارية. كان ذا نزعة إنسانية عميقة، ويهمه مصير الشعوب والإنسانية ككل؛ كان أحد الضمائر الكبرى للقرن العشرين. كان يحس بآلام المعذبين والمضطهدين وكأنها آلامه. من هنا عظمة برتراند راسل وأهميته في تاريخ الفكر. إلى جانب ضخامة الإنجازات التي حققها في مجال فلسفة العلوم والرياضيات والفيزياء والمنطق.
ولد عام 1872 في عائلة أرستقراطية إنكليزية كبيرة، ومات عام 1970 عن عمر يقارب المائة عام! وكان عالماً رياضياً وفيلسوفاً أخلاقياً من الطراز الأول. وهناك إجماع على كونه أحد كبار فلاسفة القرن العشرين. وقد ساهم في تبسيط مبادئ الفلسفة وأفكارها لكي يفهمها الجمهور الواسع العريض. ورغم أصوله الأرستقراطية وغناه، فإنه كان مناضلاً إنسانياً من أجل العدالة الاجتماعية. كما كان منخرطاً في الهموم السياسية والقضايا الكبرى ضد مصلحة الرأسمالية الغربية والقوى المهيمنة. وكان قريباً من الخط الاشتراكي ذي الاتجاه الديمقراطي، لا الشيوعي الماركسي التوتاليتاري. كما أنه شكل المحكمة الدولية “راسل – سارتر” لمحاكمة جرائم الحرب التي ارتكبتها الولايات المتحدة في فيتنام. وكان ذلك بالتعاون مع الفيلسوف الفرنسي الشهير جان بول سارتر.
لكن أعظم إسهاماته والأسس الحقيقية التي قامت عليها سمعته تكمن في النطاقات الفنية المتخصصة لمجالي المنطق والفلسفة؛ فقد كان تأثيره شديداً على مضمون الفلسفة وأسلوبها في البلدان الناطقة بالإنكليزية في القرن العشرين، حتى إنه أصبح يمثل اللحن الأساسي للفلسفة في تلك الفترة. صار الفلاسفة يستخدمون الأساليب والأفكار الناشئة من عمله دون أن يشعروا بالحاجة إلى ذكر اسمه، بالتالي قدم راسل إسهاماً أهم بكثير في الفلسفة مقارنة بتلميذه لودفيغ فيتجنشتاين. لم ينشئ راسل الفلسفة التحليلية بالطبع من دون مساعدة؛ إذ تأثر بعلماء المنطق جيوسيبي بيانو وجوتلوب فريجه وبزملائه في جامعة كامبريدج جي إي مور وإيه إن وايتهيد. وكان من بين مصادر التأثر الأخرى مفكرو القرنين السابع عشر والثامن عشر رينيه ديكارت وجوتفريد لايبنتس وجورج بيركلي وديفيد هيوم. كان أول كتاب فلسفي ألفه عبارة عن دراسة تحمل طابعاً متعاطفاً لثاني هؤلاء الفلاسفة. ولكنه جمع بين مصادر التأثر هذه بحيث أصبحت تقدم نهجاً جديداً للمشكلات الفلسفية؛ مما ساعد في إيضاحها بضوءٍ منطقيٍّ كاشفٍ جديد؛ وبهذه الطريقة أدى دوراً محورياً في تغيير فلسفة القرن العشرين تغييراً جذريّاً في التراث الفلسفي الناطق بالإنكليزية.
تلقى راسل جائزة نوبل عام 1950 تقديراً لمنجزاته في مجال العلوم والفلسفة، ثم بشكل أخص تقديراً لانخراطه في المجال السياسي الإنساني التحرري. وبالتالي، فقد جمع المجد من كل أطرافه مجد العلم الرياضي الفيزيائي، ومجد الفلسفة، ومجد السياسة وخدمة البشرية، هو أحد مؤسسي علم المنطق الحديث. كما أنه الأب الشرعي للفلسفة العلمية أو التحليلية، وهي المضادة لفلسفة هيغل، ومجمل الفلسفة المثالية الألمانية القائمة على المفاهيم التجريدية العويصة الغامضة غير الدقيقة، بحسب رأيه. إنها قائمة على الشطحات الفلسفية العمومية، لا على العلم الفيزيائي أو الرياضي، بحسب زعمه. وهذه وجهة نظر يمكن الدفاع عنها ونقدها في الوقت ذاته. فلا أحد يشك في أن هيغل كان أحد عمالقة الفلسفة على مدار التاريخ، ولا يستطيع برتراند رسل أن يطيح به، ومن المعروف أن الفلسفة الإنكليزية تختلف كثيراً عن الفلسفة الألمانية والفلسفة الفرنسية، فهي فلسفة علمية إذا جاز التعبير، أي تابعة للعلم الفيزيائي الرياضي، وليست مستقلة بذاتها. ويبدو أن المشكلة الأساسية التي كانت تهمه هي التالية: هل يمكن للإنسان أن يتوصل إلى المعرفة اليقينية المطلقة في هذا العالم؟
الميزة الجميلة أن راسل كان يكتب مؤلفاته بلغة بسيطة واضحة قابلة للفهم. وكان يفعل ذلك عن قصد بغية نشر الفلسفة العقلانية الهادفة إلى تحقيق السلام والمحبة في شتى أرجاء المجتمع، والعالم ككل إذا أمكن. وبالتالي، فالرجل كان ذا نوايا طيبة من دون أدنى شك، بالتالي، كان راسل فيلسوفاً بالمعنى الشعبي؛ أي كحكيم ومعلم للبشرية، وبالمعنى الأكاديمي المهني، لا عجب من ذلك فلقد ورث هذا الحس الفلسفي عن والديه اللذين كانا زوجين غير عاديين ومثيرين للجدل؛ إذ كانا ملتزمين بالقضايا التقدمية مثل تنظيم الأسرة وحق التصويت للنساء، رغم أنهما توفيا قبل أن يتعرف عليهما راسل، كان راسل كثير السفر في خمسينيات القرن العشرين إلى أستراليا والهند وأمريكا مرة أخرى، وكذلك أوروبا والبلدان الإسكندنافية وكان يُلقي محاضرات هناك طوال الوقت، وكان يحظى بشهرة كبيرة هناك. حوَّلت الأسفار وجولات إلقاء المحاضرات إلى كتب، كدأب راسل دوماً.
راسل عاش حياة كاملة بشكل هائل، بالإضافة إلى عمله الفكري الرائد في المنطق والفلسفة التحليلية فقد أشرك معظم حياته في السياسة، وفي وقت مبكر من عام 1904 تحدث بشكل متكرر لصالح الأممية، وفي عام 1907 ترشح للبرلمان ولكن دون جدوى، وعلى الرغم من أنّه وقف كمستقل فقد أيد البرنامج الليبرالي الكامل لعام 1907، كما دعا إلى توسيع نطاق الامتياز ليشمل النساء بشرط أن يتم إدخال مثل هذا التغيير السياسي الجذري من خلال وسائل معترف بها دستورياً، وبعد ثلاث سنوات أي عام 1910 نشر كتابه القلق المناهض للعضوية، طوال معظم حياته رأى راسل نفسه في المقام الأول على أنّه كاتب وليس فيلسوفاً، حيث وضع كلمة المؤلف على أنّها مهنته في جواز سفره، وكما يقول في سيرته الذاتية: “لقد عقدت العزم على عدم تبني مهنة ولكن على تكريس نفسي للكتابة”، وعند حصوله على جائزة نوبل للآداب عام 1950 استخدم راسل خطاب القبول مرة أخرى للتأكيد على الموضوعات المتعلقة بنشاطه الاجتماعي.
على الصعيد الشخصي، تزوج راسل أربع مرات في حياته، وتخلل معظم زيجاته برود استمر لسنوات وعلاقات خارجية متعددة مع نساء أخريات، لكن كان من المحافظين على نقاء السلالة بحسب التربية الدينية التي تلقاها في طفولته في قصر جديه لأبيه، خلال مسيرته المهنية نشر راسل العديد من المقالات في الفلسفة والمنطق والرياضيات، كما أصدر العديد من الكتب المهمة مثل كتاب “ملادئ الرياضيات”، و”مشاكل الفلسفة”، و”تاريخ الفلسفة الغربية”، ويعتبر من علماء الرياضيات المهمين بمساهماته في نظرية المجموعات ونظرية الأنواع و”مفارقة راسل”، عارض راسل الحرب العالمية الثانية بداية إلا انه غير رأيه لاحقاً عام 1940، حيث وجد أن تمدد هتلر في أنحاء أوروبا تهديد دائم للديموقراطية وفي هذه الحالة المتطرفة جداً فالحرب هي الخيار الأقل شراً.
بالمحصلة، في كل مرة كان يدفع ثمن مواقفه السياسية الجريئة. وربما لهذا السبب أطلقوا عليه لقب فولتير، الذي ضُرب به المثل على “المثقف المنخرط” في قضايا العصر، بالتالي، إن منظور الزمن من شأنه إما أن يضخم من شأن من شغلوا المشهد العام وإما أن يقلل منه. ويتضاءل السواد الأعظم من هؤلاء ويظلون في السفوح، فيما يسمو قلائل إلى قمم الجلال. ويظهر راسل صرحاً منيفاً بين القمم، رغم أننا لا نلتقي ولا نتفق مع كثير من آرائه حتى وإن كان العلم معياراً لها.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان