عمّان- “العمانية”: يقرأ الناقد د. محمد عبيد الله في كتابه “بلاغة المنفى”، قصيدةَ الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش “منفى: نهار الثلاثاء والجوّ صافٍ” المنشورة في مجموعته “كزهر اللوز أو أبعد” عام 2005. وبحسب المؤلف، فإنّ اختياره درويش للدراسة، جاء “لاعتبارات متعدّدة؛ في مقدّمتها مكانة تجربته الشعرية وتطوّرها فيما يزيد على أربعة عقود، شهدت تحوّلات مُركّبة مُتداخلة، حيث بذل جهدًا غير خفيّ لتحقيق التوازن بين الوظيفة الجمالية ومتطلبات اللحظة السياسية والوطنية”. وانطلق عبيدالله في سبيل تحليل القصيدة نقديًّا، من أن الدراسة الحقّة “لا بدّ لها أن تهتمّ بمبنى الشعر وأدائه الفنّي؛ أي أن توجّه اهتمامها إلى الشعر بوصفه جنسًا أدبيًّا له قوانينه الخاصّة، وله طريقته النوعية في التعبير عن المعنى”، مشيرًا إلى محاولته التقريبَ بين المناهج والاتجاهات التي عُنيت بدراسة الشعر دراسة داخلية، دون أن تنغلق على البعد التقني والتصويري، ذلك أن الهدف من الشعر “ليس الصور، بل معرفة العالم ومعرفة الذات”.
واهتم الناقد في الفصل الأول (سيمياء العنوان) بتحليل العنوان ودلالاته، إيمانًا بأهمية ظاهرة العنونة في الشعر الحديث. وأبرز في الفصل الثاني (بين الغنائية والسردية) طبيعةَ الجدل بين الغناء والسرد في قصيدة “منفى” التي رأى أنها تمزج بين الحقلَين، وإن يكن نسيجُها الأساسي غنائيًا، أفاد من اتساع القصيدة لعدد من السمات السردية التي أثْرتها وسمحت لها بالانفتاح على عالم الحياة اليومية، وعلى مواد مستعادة من الذاكرة. ويكشف فصل (بناء القصيدة) حرصَ درويش على بناء قصيدته بناء منظمًا، وأنه من شعراء البنية المتّسقة لا الفوضوية، وأنه ينحاز إلى البناء المتماسك الذي يفضي إلى وحدة القصيدة وإلى ضروب من العناية بمعمارها وهندستها. واستند عبيدالله فيه إلى مفهوم “البنية الرحمية” لتحديد بؤرة القصيدة وجوهرها البنائي الذي نسبَه إلى مبدأ الرحلة والترحال والمشي، كأن الشاعر الحديث يعيد إنتاج رحلة الشاعر القديم برؤية ولغة جديدتين. وأبرز الناقد في فصل (البنية الإيقاعية) التزام درويش بشعر التفعيلة وبالإيقاع المنظم، متوقفًا عند محاولات التجديد المتاحة ضمن هذا الخيار بعيدًا عن خيار القصيدة النثرية، ومتعمّقًا في تحليل إيقاع القصيدة. وتضمّن الكتاب الذي صدر أخيرا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، فصلًا بعنوان (البنية المعجمية) لتحليل دور الكلمة في الشعر وعلاقة معجم القصيدة ومفرداتها بالبناء العام لها، ولجأ عبيدالله فيه إلى بعض أدوات الأسلوبية الإحصائية التي طورها الناقد والأسلوبيّ المصري سعد مصلوح، لاستكشاف أنواع الكلمات وقياس تنوعها. ووجد أن نسبة التنوع في المفردات نسبة عالية، خصوصًا عندما تقارن باستعمال المفردات في النثر الأدبي.
أما فصل (البنية التركيبية)، فأفرده الناقد لدراسة الجمل، منطلقًا مما سماه (جدل النحوي والبلاغي) واعتمد فيه على خلفيات من نظرية النظم للجرجاني والنظريات الأسلوبية والبنائية المعاصرة التي تركز على الجملة الشعرية. ودلّ الإحصاء فيه على غلبة الجمل الفعلية في القصيدة، وهو ما ساعد على إظهار الخيوط السردية. وعُني الفصل كذلك بإبراز دور التراكيب الحجاجية التي تَميز بها منطق درويش الشعري، كما اهتم بتحليل تراكيب النفي وربط في دراستها بين النفي في اللغة والنفي في النحو، مستنتجًا أن دلالة النفي في اللغة تلتقي مع دلالة النفي في حياة الشاعر وتجربة الشعب الفلسطيني بعامة. وخصص عبيد الله الفصل الأخير للاهتمام بـ(البنية التخييلية) عبر التركيز على الجانب التصويري في القصيدة وإلى جانب إبراز مفهوم الصورة الشعرية، قدّم دراسة كمية للصور ودرجة الاستعمال، كما تأمّل نوعية الصور من خلال: التشبيه، والاستعارة، والصور المركبة، والصور العنقودية، ملاحظًا اجتهاد الشاعر في اختراع صور جديدة غير نمطية، وسعيه إلى تجديد الصور النمطية.