وضحنا في موضوعات سابقة الفروقات الكثيرة بين أحكام الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، وبينا أن الأخيرة لمواكبة العصر تحتاج إلى تعديلات تتناسب والواقع الراهن مع تطور الأدوات ودخول التكنولوجيا ورسم معالم قانون جديدة لكن مستقاة من روح القانون والشريعة الإسلامية.
ولكن على الرغم من ذلك، بدا أن هناك بعض العيوب التي لم تنجح القوانين الوضعية في تجاوزها، لها صلة بفرض العقوبات التي هي سبب تضييع للأموال والجهود وإفساد للنفوس والأخلاق والصحة، وليس بعد ذلك إلا ازدياد الجرائم وجرأة المجرمين، والإخلال بالأمن وتوهين النظام، وذهاب هيبة الحكومة وسطوتها وفرض سلطان الأشقياء والمجرمين على السكان الآمنين، ولا خلاص من هذه النتائج المحزنة إلا بالتخلص من النظام كله، وإن في بعض هذه النتائج ما يكفي وحده لإلغاء هذا النظام. وإذا كان الناس لا يلغون أنظمتهم بسهولة ولو تيقنوا من فسادها إلا إذا وجدوا خيراً منها، فإن لدينا نظاماً هو خير الأنظمة التي عرفها البشر وأقدرها على حماية الجماعة ومكافحة الجريمة وإصلاح المجرم، ذلك هو النظام الإسلامي الذي أثبتت التجربة نجاحه في كفاح الجريمة والقضاء على الإجرام، ما يعني هناك فرق بين نظام إسلامي قادر على أن يضبط مجتمع صحي، ونظام دولة لا يستطيع القضاء على الفساد ما يسبب خللاً كبيراً في القدرة على ضبط مجتمعه بشكل عام والقضاء على الجريمة بشكل خاص.
وليست ميزة النظام الإسلامي الوحيدة في أن التجربة أثبتت نجاحه وصلاحيته، ولكنه يمتاز أيضاً بأن الأسس التي يقوم عليها كفيلة بأن تقضي على العيوب التي تصحب العقوبة الوضعية، كما هي كفيلة بأن توفر على العالم المجهودات العظيمة التي تبذل لتخفيف أضرار هذه العقوبات والأموال الكثيرة التي تنفق في سبيل تنفيذها، وهنا نركز أن ذلك يتعلق بالجرائم الخطيرة وعلى ضوء ذلك يجب أن تكون العقوبات رادعة، وأول عيوب النظام الوضعي أنه يؤدي إلى تعطيل العقوبات الأصلية وتخفيفها، وفي الشريعة ما يحول دون ذلك في الجرائم الخطيرة التي تمس كيان الجماعة، حيث تفرض الشريعة لهذه الجرائم عقوبات مقدرة معينة ليس للقاضي أن ينقص منها شيئاً أو يستبدل بها غيرها مهما كانت ظروف الجاني؛ لأن مصلحة الجماعة في هذه الجرائم الخطيرة توضع فوق كل مصلحة وتتغلب على كل اعتبار، أما الجرائم التي لا تمس كيان الجماعة فيجوز للقاضي فيها أن ينظر إلى شخصية الجاني ولو أدى ذلك لتخفيف العقاب ما دام يؤدي إلى إصلاح الجاني في الوقت نفسه، والعيب الثاني للنظام الوضعي أنه يفرض في معظم الجرائم عقوبات لا تتنوع هي الحبس الذي يختلف شدة وضعفاً بحسب نوع الحبس، والذي يؤدي تنفيذه إلى وضع عدد كبير من الرجال الأصحاء القادرين على العمل في المحبس والإنفاق عليهم دون أن يؤدوا عملاً مجدياً فتخسر الأمة من جهتين، تخسر المال الذي تنفقه على المحبوسين، وتخسر ما كان يمكن ينتجه هؤلاء لو لم يوضعوا في المحابس، ولكن هذه الخسائر تنتفي لو نفذ النظام الإسلامي؛ لأن الشريعة لا تعرف الحبس في جرائم الحدود والقصاص، وهي كما بينا تبلغ ثلثي الجرائم بطبيعة الحال.
كما أن الشريعة تفضل في التعازير عقوبة الجلد على عقوبة الحبس، ولا تفضل عقوبة الحبس إلا إذا كان حبساً غير محدود المدة حيث يبقى المجرم بعيداً عن الجماعة مكفوفاً شره وأذاه حتى يموت، ولا يحكم هذا النوع من الحبس إلا في الجرائم الخطيرة أو على المجرمين العائدين، ومن عيوب عقوبة الحبس في القوانين الوضعية أنه تقتل الشعور بالمسؤولية في نفس المجرم، وتحبب إليه التعطل، وتزين له أن يعيش عالة على الناس يبتز أموالهم بالتهديد والتخويف، وفي عقوبة الشريعة علاج هذا كله، بل إن علاجه في عقوبة الجلد وحدها؛ إذ الجلد يحط من قدر المجرم في عين نفسه فلا يعود لجريمته، كما يحط من قدره في عيون الناس فلا يهابونه ولا يخافون سلطانه ولا يكبر المجرم في عيونهم حتى يزاحم بسلطانه سلطان الحكومات.
تعدد العقوبات
تتعدد العقوبات كلما تعددت الجرائم، وتتعدد الجرائم كلما ارتكب شخص جرائم متعددة قبل الحكم عليه نهائياً في واحدة منها، وهذا هو المعنى الفني للتعدد، وتعدد الجرائم إما صوري وإما حقيقي، فهو صوري إذا ارتكب الجاني فعلاً واحداً يدخل تحته صور شرعية مختلفة، ويحدث ذلك كلما انطبق على الفعل أكثر من نص واحد، كضرب الموظف أثناء تأدية وظيفته، فالفعل يمكن أن يكون ضرباً ويمكن أن يكون كل واحد منها جريمة مستقلة، ويختلف تعدد العقوبات عن العود، ففي تعدد العقوبات يرتكب الجاني عدة جرائم قبل أن يحكم عليه في إحداها. أما في العود فيرتكب الجاني جريمته الثانية بعد أن يعاقب على جريمته الأولى، ويقضي المنطق بأن لا يعاقب المجرم في حالة تعدد الجرائم على كل جرائمه ولو أن ارتكابه لهذه الجرائم المتعددة يدل على ميوله الإجرامية؛ لأنه عندما عاد لارتكاب الجرائم لم يكن عوقب على أية جريمة سابقة وأخذ درساً عنها، فهو يختلف من هذه الوجهة عن العائد الذي سبق عقابه وأنذر بهذا العقاب أن يسلك سلوكاً مستقيماً، وقد عرفت القوانين الوضعية ثلاثة طرق في تعدد الجرائم:
الأولى، طريقة الجمع: ويأخذ بهذه الطريقة القانون الإنكليزي، ومقتضاها أن يوقع على الجاني مجموع العقوبات المقررة لكل الجرائم التي ارتكبها، وعيب هذه الطريقة الإفراط في العقاب؛ لأن الجمع بين العقوبات قد يؤدي إلى أن تبلغ العقوبة حداً مفرطاً في الشدة، فالحبس – وهو عقوبة مؤقتة – إذا تعدد أصبح عقوبة مؤبدة، والغرامات إذا تعددت قد يؤدي إلى مصادرة تامة لأموال المحكوم عليه.
الثانية، طريقة الجب: ومعنى الجب أن تقضي العقوبة الأشد على غيرها من العقوبات، فمقتضى هذه الطريقة أن لا يوقع على الجاني سوى أشد العقوبات المقررة للجرائم التي يرتكبها، وعيب هذه الطريقة التهاون والتفريط، فالشخص الذي يرتكب عشر جرائم مثلاً يعاقب بعقوبة الجريمة الأشد فقط دون غيرها من العقوبات، ومعنى هذا أن من يرتكب جريمة خطيرة يعاقب عليها بعقوبة شديدة يكون في حل من ارتكاب الجرائم الأبسط منها طالما أنه لم يعاقب على جريمته الخطيرة.
الثالثة، الطريقة المختلطة: وقد عولجت عيوب الطريقتين السابقتين بهذه الطريقة الثالثة وتدعى بالمختلطة أو المتوسطة. وتعني بالجمع بين الطريقتين الأوليين أو بتقييد إطلاقهما. فهي تجيز الجمع بين العقوبات على أن لا يجاوز مجموعها حداً معيناً، وتعيين الحد الأقصى للعقوبة قصد منه منع الإفراط في العقاب، وهي تعالج طريقة الجب بتشديد العقوبة الواحدة التي يحكم بها.
وقد جمعت أكثر التشريعات الوضعية الحديثة بين طريقة التعدد والجب مع تقييدهما.
وسنرى في المبحث القادم القانون المصري وموقفه من التعدد، التي أخذ بها وجعلها من إحدى مواده القاونية، إلى جانب نظرية تعدد العقوبات في الشريعة الإسلامية.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان