إعداد: د.محسن الكندي –
عاش زهو الحراك الاجتماعي والسياسي العُماني وشهد عصر الزعامات والوجاهات القبلية في الربع الأول من القرن العشرين.
ليس هناك وصفٌ أصدقُ من وصفِ الباروني له بقوله: إنه انبرى لإلقاء خطبته الشهيرة وسط محفل احتفائي بهيج فلَقِي استحسانا كبيرا.
ضياع إنتاج الشيخ أفقدنا إنتاجه المعرفي إلا فيما ندر.
كان أحد الذين عُرضت عليهم معاهدة السيب عام 1920م ووقَّع على اطلاعه عليها بالتأييد.
• إهداء إلى الأستاذ النبيل عبد الرحمن المسكري ذكرى مرابع مشتركة وجهد علميّ ما زلت أذكره
خلال اشتغالي المعرفي بوثائق ولاية إبراء بين عامي (1996 -2020) قُدِّرَ لي الوقوف على قَدرٍ كبيرٍ جداً من الوثائق التي تحوي اسم الشيخ سيف بن على بن عامر بن سيف المسكري؛ أو تُظْهر توقيعه؛ إذ لا تكاد خزينة من خزائن أهل إبراء وشخصياتها العلمية والاجتماعية إلا وتحوي عدداً من رسائل المجتمع والصكوك التي كتبها والمراسلات التي أمضاها بيمينه، والوصايا التي اعتمد سبكها بلغته الرصينة وخطِّه الجميل المُعْجب.. كيف لا؟ وهو الكاتب الأول، والخطيب الأشهر، والزعيم الأكثر حضوراً وقبولاً بين الناس في عصره أعني في فترة الربع الأخير من القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين حتى أن لازمة «الأديب الكاتب» اقترنت باسمه وأصبحت دالة عليه، ولعل أبرز هذه اللازمة ما وجدناه في أغلب الأدبيات الناصَّة عليه، إضافة إلى سلسلة من الخزائن الشخصية كخزانة الشيخ ناصر بن سالم بن سلطان وأخيه الشيخ علي بن سالم المسكري، وكذلك متفرقات من وثائق ابن عمِّه الشيخ عبدالله بن زهران المسكري والشيخ عبدالله بن محمد بن حميد المسكري وغيرهما، فهذه كلّها وغيرها فيها تدلُّ على حضور الرجل الكارزمي ودوره العلمي في المجتمع والوطن العُماني بأسره.
نظائره وأقرانه
ومنطلقات حياته
يُجْمِعُ كلُّ من التقيتُ بهم للحديث عن شخصية الشيخ سيف بن علي على أنه يقعُ في الجيلِ الأوسطِ من شخصيات المساكرة ووجاهائهم، وأن حياته امتدت لنحو تسعين عاماً، فهو المعاصرُ بل والنظير المماثل لمن جاؤوا بعده وارتسموا بخطاه بشيء من السمو والتأثر، أو بأولئك الذين كانوا قبله فارتسم بخطاهم وقد عدَّهم صاحبُ كتاب «الدُرر الفاخرة من سير أدباء وأعلام المساكرة» من ذرية الشيخ ربيعة بن علي بن سنان المسكري في نماذج مختلفة ليس أبعدهم: الشيخ ناصر بن أحمد بن ناصر المسكري والشيخ سيف بن خلفان بن سليمان المسكري والشيخ عامر بن سلطان بن سالم المسكري، والشيخ سعيد بن نصير المسكري، والشيخ عبدالله بن راشد المسكري، والشيخ سيف بن عبدالله المسكري ، والشيخ هاشل بن راشد المسكري إضافة إلى بعض الشخصيات المنتمية إلى قبائل أخرى استظلت طوراً من الزمن بمظلتهم القبلية أمثال: الشيخ عيسى بن راشد المغيري، ومن المتأخرين الشيخ ناصر بن علي المغيري وغيرهما».
مكانته ومنزلته
الشيخُ سيف بن علي – كما وُصِفَ لي – صاحبُ رأيٍ ومشورةٍ ليس في إبراء وحدها بل في عُمان بأسرها والديار الإفريقية قاطبة، ومنذ أمدٍ بعيدٍ لا تخطي العين اسمه ظل هذا الرجل الاعتباري «أكثر أهمية في تقديرنا، فهو رجلُ سياسةٍ وقيادةٍ وحكمة له صيته عند الأئمة والسلاطين وشيوخ القبائل والقضاة، وهو من بين الذين عرضت عليهم «معاهدة السيب» الشهرة بعد توقيعها من قبل أطرافها وقد تمَّ بموجبها – كما تقول الدراسات التاريخية : «تقسيمَ البلادِ بين إقليم الساحل (سلطنة مسقط) وإقليم الداخل) إمامة عُمان (وقد وضعت حدًّا للصراع على السلطة بين أنصار الإمامة في الداخل وأنصار السلطنة في الساحل، وقد جرى توقيعها في 25 سبتمبر 1920م ثم وزّعَت منها نسخاً على المشايخ والزعامات القبلية آنذاك لاعتمادها في تواريخ متعددة، وكان حظنا أن اطَّلعنا عليها في خزانة الشيخ سيف بن علي المسكري وقد غلفت بغلاف قماشي حفظها من عاديات الزمن.
المصادر التي أشارت إليه
لم تحطْ المراجعُ الحديثة المعنية بالتراجم والسير بسيرة الشيخ سيف إحاطة كافية، ولم تؤرخ له تأريخاً موسَّعاً يوازي مقدار حراكه وقيمة شخصيته، لفقدان إنتاجه وغروب نجم معاصريه ، ونظن أن أول من تناوله وأشار إليه كتاب «قطع المشاجرة في اتصال قبائل المساكرة « لخميس بن سالم المسكري المؤلف في 1335هـ حيث يقول مؤلفه: « ثم (دخلتُ) تعلم النحو عند الشيخ الوقور سيف بن علي بن عامر المسكري، فأحبّني حبًّا شديداً ، وجعلني أحد أولاده، ولم يجعل لي سدّاً ولا منعاً في بيته ليلا ولا نهاراً» ويذكر عنه أنه لقيته في ثالث يوم من وصوله علاية إبراء ، وبعد ثلاثة أيام (سرنا) عند الشيخ الذي وجدناه في (النبأ) ويقصد به طبعاً الشيخ العالم النبيه سيف بن علي بن عامر المسكري). وتلا هذا الكتاب مخطوطٌ القصائد العُمانية في الرحلة البارونية، فقد أورد خطبته ووصفه «بالرئيس المحترم» وتناول موقفاً من مواقف حياته ظل الباقي حتى اليوم منى سيرة حياته.
أمّا الكتب المطبوعة، فأول من خصّه بمبحث مستقل هو الشيبة محمد بن عبدالله السّالمي في كتابه «نهضة الأعيان بحرية عمان» المؤلف عام 1957 م، وفيه ذكرٌ موجزُ لمسارات حياته اعتماداً على ما خطّه له الشيخ هاشل بن راشد المسكري، ومن ذلك سرد لبعض مناقبه بعبارات تبجيلية احتفائية بليغة اقترنت باسمه من مثل: «أنه كان أكرم أهل زمانه، وأعلمهم بعلوم الآلة، وإليه المرجع في علم الرسم، وكان قارئاً مُجَوّداً حَسَنَ النغمة وخطهُّ مرغوبٌ فيه لحسنه وضبطه».
وكذلك وصفه له ص 405 «أنه كان كثير الحفظ للغة عارفاً بوحشيها ومستعملها، ولم يكن في زمنه من يباريه ويجاريه فيها.. وهو مَثَلٌ في الكرم والذكاء والفطنة، وسرعة البديهة في الجواب إلى حين وفاته «ولا غرو فهذه المناقب والصفات التي نقلها الشيبة من رسالة الشيخ هاشل ولا شك فيها فهي نابعة من تلميذه وقد تلقى العلوم التقليدية عليه «كما تشير الدراسات التي كتبت عنه والحال نفسه ما يذكره خميس بن سالم عنه ويصفه «بالعالم النبيه».
يقيمُ الشيبة ونظيره خميس المسكري هذه الصفات بناءً على ما اطلعا عليه، فمكتبته الأولى العامرة في ولاية بدية ومخطوطاته ووثائقه التي ورثها عن أبيه فيها ما يذكي صفاته التي صبغها على الشيخ المسكري وأضفاها عليه، والأكيد أن صيته العلمي قد وصل إليه مبكراً لكثرة اتصالاته بالعُلماء والفقهاء في محيط كيانه (أعني بذلك تحديداً القابل وما حولها) حيث مرتعُ العلم ومكمنه في شرقية عُمان كلها في ذلك الوقت، وكان الشيبةُ قطباً من أقطابها ولطالما تردد عليها وعاش في عرصاتها ونهل من مناهل علمها.
وفيما يتصل بالكتب التي وثقت الحضور العُماني في الشرق الأفريقي واتساقاً مع دور الشيخ سيف بن عامر ومكانة أجداده، فإننا نعتقدُ أن أول إشارة تضَّمنها اسمه وردت في كتاب «جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار» للشيخ سعيد بن علي المغيري ، ومما جاء فيه صفحتي 322 ، 389 أنه «كان ممن آزر السيد خالد بن برغش في ثورته على الإنجليز سنة 1314هـ، وحاول الاستيلاء على الحكم بالقوة بعد وفاة السيد حمد بن ثويني، فألقت الحكومة الإنجليزية القبض عليه بعد معركة دامية، وزجّتْ به في السجن، ولم يكن له مالٌ ليفدي نفسه كغيره، فرحل إلى عُمان وعاش فيها لحين وفاته، وفيها شيّد بيته المعروف «ببيت الخروس».
وعدا تلك الإشارات الطفيفة لا نجد شيئاً ذا بال يحقق شأفتنا المعرفية عنه سوى تكرار للمعروف والمعتاد والموثق سلفاً فصاحب « نشر الورى بخبر إبراء» للشيخ علي بن سالم المسكري الذي خُطَّ في أواخر سبعينيات القرن العشرين يذكرُ الصفات نفسها ويزيد عليها بذكر ثقافته التقليدية واهتماماته بالأدب والثقافة، وأنه « كان يحفظ مقامات الحريري كلّها». والشيء نفسه يذكره مؤلف كتاب «الدرر الفاخرة»، وكذلك مؤلف كتاب «معجم أعلام الإباضية» وسائر التغريدات المفردة المنشورة عنه في وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية. وهي لا تلبي متطلبات الدراسة الموسّعة عنه ففيها من التكرار ما لا يفيد.
صفاته ومناقبه كما روتها المصادر المكتوبة والمروية.
ليس أبلغُ وصفاً للشيخ الزعيم سيف بن علي المسكري مما ذكره عنه المؤرخ الشيبة في كتابه « نهضة الأعيان بحرية أهل عُمان « ص 404 من أنه «الشيخ اللسن البليغ الألمعي الصيَّب. الزعيم. كريم مسكرة، «وهذه الصفات مثالية حقيقٌ بها؛ فالرجلُ بما أتي من مناقب ومحامد تؤهله لمكان الوجاهة في مجتمعه وبين بني قومه، والزعامة هنا ليست الزعامة القبلية وحدها، وإنما الزعامة العلمية والمعرفية والفقهية، إضافة إلى ما استمعنا إليه من صفات الوقار والدهاء والحصافة والقيادة والكرم ومساندة الضعفاء. والقيام بالواجب الاجتماعي ومناصرة الحق. زان كلُّ ذلك تميزه بالأخلاق الفاضلة، والإحاطة بالقضايا السياسية الواسعة، والدراية بعلوم الفلك والأدب والآلة، وبسعة الحفظ وغزارة العلم وجودة الخط وسرعة البديهة.
كيانه الاجتماعي
وأفق حراكه فيه
المعلومات التوثيقية عن كيان الشيخ سيف المسكري شحيحة جداً، وكلُّ من نعرفه وأدركه لا يكاد يوفرُ لنا شيئاً كبيراً سوى وصف لهيئته و(كراماته الميتافريزيقة) وقصصاً سمعناها عن أناسٍ كانوا معه، وهي لا تلبي شغفنا الكتابي عنه، وكل ما وجدناه في «قطع المشاجرة» و«نهضة الأعيان» و«نشر الورى» وسواها إشارات طفيفة وردت على سبيل الإحاطة بمجتمعه ونسبه وبكامل اسمه : والابتداء بكنيته أبي علي سيف بن علي بن عامر بن سيف بن علي بن عامر بن سيف بن ربيعة بن علي بن سنان بن أحمد بن إبراهيم بن سيف المنتمي إلى بني سليمة بن مالك بن فهم الأزدي، وأنه عاش زهاء تسعين عاماً « ، وأنه رتع في باكورتها في ظل ملوك زنجبار، فكان كاتبا لهم ومقرباً عندهم، وأنه عاش في كنف والده الذي كان أحد قضاة السيد برغش في زنجبار، وعمل كاتباً للسلطان برغش، وبعد وفاته أجبر على مغادرة زنجبار إثر خلافات سياسية في عهد السلطان خالد بن برغش .
أمّا مجتمعه، فالجوانب التوثيقية فيه تقودنا إلى الحديث عن أسرته الكبيرة وقبيلته «المساكرة» وجماعته في ولاية إبراء وأحفادهم في دولة الإمارات العربية المتحدة، فقد اشتهر أبوه الشيخ علي بن عامر المسكري بالنسخ ومما وجدنا له نسخاً جميلاً لكتاب «بيان الشرع» وقد كان قاضيًّا في عهد السلطان وله مكانته الاعتبارية، و ذكره الشيبة في النهضة بأنه «وقد وصفه الشيبة في «النهضة « ص 405 « بأنه من الأجِلَّاءِ المحترمين لدى ملوك زنجبار» وأفاض كتاب «الدرر الفاخرة « في ذكره وتعداد صفاته ص 45 وأنه «وجد وثيقة من السلطان برغش موجهة إلى كافة مرتادي البحر وربما يقصد بهم ربّان الأساطيل الأوربية تفيد بتوجه مركب هذا الزعيم إلى زيارة بلده عُمان، وتطلب منهم عدم اعتراض سبيله، وتقديم ما يحتاج إليه من دعم ومساندة» وما ذلك إلا تقديرا لمكانته. ومن رموز أسرته كذلك أسماء يدخل فيها عمّه زاهر بن عامر المسكري، وابن عمّه زهران بن زاهر وابن ابن عمّه عبدالله بن زهران وكلهم وجاهاتٌ وشخصياتٌ معتبرة في مجتمعه وكذا الحال ابنته الشيخة عزا بنت علي التي حظيت بعده بحضور نسويٍّ مبكر نجمَ عنه شخصية تربوية ومجتمعية اهتمت بالنفع العام وخدمة العلم، وقد ولدت في زنجبار، وعاشت في كنف أبيها، وتلقت تعليمها في زنجبار وقد وجدنا لها مراسلات بينها وبين بعض خواصها وأقاربها وعقدنا لها مدونة خاصة بذلك.
اتسمت الشيخة عزا بقوة الشخصية، واضطلعت بدور تربوي، حيث سيَّرت بعثة تعليمية إلى بغداد وأنشأت في الأعظمية مدرسة باسمها، وكانت تضمُّ – كما قيل لي قرابة خمسين طالباً وكان اليوم منهم من حمل لواء التعليم والتنمية والمشاركة في خدمة الوطن العُماني بأسره.
أقامت الشيخة عزَّا بعد ذلك في دولة الإمارات العربية المتحدة في ضيافة الشيخ زايد، حيث أنعم عليها بما يليق بمقامها وبتاريخ والدها، وكان مقرها منزل فاره بمنطقة «الخالدية» بإمارة أبوظبي وعاشت فيها طيلة حياتها. قابلت الشيخة عزا عدداً من رؤساء الدول العربية، أمثال الرئيس عبدالكريم قاسم والرئيس أحمد حسن البكر والزعيم جمال عبد الناصر والشيخ زايد وغيرهم، كما نالت كثيرا من المساعدات المالية من حكام الخليج الآخرين وبالذات الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة لدعم برامجها التعليمية والخيرية. توفيت في إحدى سفراتها الاعتيادية في مطار البحرين عام 1981م، وقد ذكر كتاب «الدر الفاخرة « لها ص 97 وعدَّد مناقبها بقوله «أنها كانت عونا للمئات من المغتربين العُمانيين في المغتربات..».
أمّا ابن عمّ أبيه الشيخ عبدالله بن زهران فقد أقام طيلة حياته في علاية إبراء ولم يغادرها وترجمة حياته التي مدّنا بها ابنه الشيخ أحمد بن عبدالله تفيد بأنه «ولد قرابة عام 1920م، وعمّر طويلا، وكان طيلة حياته يعملُ في مختلف المهن والحرف السائدة في عصره كالزراعة والتجارة، مما أكسبه عصامية شأنه شأن أبناء مجتمعه الأبرار الأوفياء. كما أوكلت إليه مهمة جباية الزكاة في قرى إبراء، وقام بدور ملموس في هذا الجانب بمثل ما قام به من جهود في أمور وكالة الوقف والمساجد وإصلاح ذات البين والأعمال الخيرية، ولم يتلق الشيخ عبدالله تعليماً نظاميًّا، ولم يواصل تعليمه التقليدي، وقصارى ما أجاده فك الخط ومعرفة الأبجديات الأولى في الكتابة والقراءة ، وقد تحصَّل عليهما من لدن معلمي القرآن والمجالس الاجتماعية ومرافقة المتعلمين.
كان الشيخُ عبدالله من أوائل الشخصيات التي حظيت بالمسؤولية في مجتمعه علاية إبراء، فقد عيّن شيخا في مطلع سبعينيات القرن الماضي، ومارس وظيفته بكلِّ نشاط وحيوية؛ فاشترك في أغلب الاجتماعات الرسمية التي تعقد في الولاية، ولبَّى أغلب الدعوات الرسمية التي وجهت إليه لحضور مناشط وفعاليات السلطنة بما يقتضي عليه واقع الحال، وخاصة المشاركة في الأعياد الوطنية وافتتاح المشاريع بالولاية، وكانت مبادراته المجتمعية شبيهة بأقرانه شخصيات المرحلة والمجتمع، وقد توجت مبادراته المجتمعية وفق أطر طبيعة المرحلة التحولية بالسلطنة. توفي الشيخ عبدالله في علاية ابراء يوم 13 من مارس من عام 2013 م، ودُفن في مقبرة العلاية الجديدة.
ترك الشيخ عبد الله إرثا وثائقيًّا مهماً؛ جمع فيه وثائق ومخطوطات أهله وأجداده ومجتمعه ولاسيّما مراسلات الشيخين زاهر بن عامر وسيف بن علي. كما وجدنا في خزانته أعداداً هائلة من المراسلات والصكوك والوصايا وعقود القِران له ولغيره، وقد احتفظ بها كودائع وأمانات من منطلق مكانته الاعتبارية وثقة المجتمع فيه.
دورُه الاجتماعي
والعلمي.. وبزوغ نجمه
يحظى الشيخ سيف بن علي كغيره من مشايخ عُمان ورموزها بمجد الذات في مجتمعه المحلي، فهو كاتبه والمشارك المتفاعل مع أحداثه، ولا تكاد تخطئ العين وثيقة من وثائق الربع الأول من القرن العشرين إلا وقد خطها وصاغ ديباجتها وذيلّها بعبارة :« سيف بن علي» كما أن مثلها وأكثر؛ توجد منها في الديار الإفريقية وخاصة الأرشيف الزنجباري وسِجل المحاكم الشرعية ولدى الناس عامة وخاصة، فهذا في تقديرنا لا شك فيه مفيدا للدراسات المجتمعية استناداً إلى مقام شخصيته واعتبار مكانته التي توارثها من أبيه القاضي في بلاط السلاطين ..، ورغم أن شخصيته العلمية كانت متحققة إلا أننا لم نجد ما يلبى شغفنا للكتابة العلمية عنه؛ ويعود ذلك لفقدان وثائقه الخاصة ومخطوطاته وكتبه وتناثرها رغم أنه من المرجح أنه ترك كتبا كثيرة وصفت لي بأنها «قدرُ حَمْلِ ثلاثة جمال توزعها جماعته وأوصيائه إبان موت أحدهم، وما وجدناه كتباً قليلة في أصول الفقه وبيان الشرع والعقيدة ودواوين الشعر عليها توقيعه واسمه وتقييدات اجتماعية في أغلفتها.
ومن جانب آخر وفي روايات استثنائية يقيم العامة عنه شهادات مروية تتصل بمعرفته وممارسته لعوالم الأسرار والروحانيات ولا ضير في ذلك فالشخصيات العُمانية كثيراً ما تلبس بما التبست به الشخصيات العربية التقليدية من اهتمام بالأساطير والميتافيزيقا ومعرفته بالتعاويذ وممارسة للطب الشعبي، وهو مبحث طويل لم نرد تتبعه لعدم قناعتنا به لمخالفته لمنطق العلم ونسق المنهج والتنوير.
مصادر حياته
تكوينه ومرتكزات ثقافته
استلهم الشيخ سيف بن علي المسكري، مصادر ثقافته من قراءاته الذاتية في التراث العربي، وتتلمذه على علماء عصره في زنجبار وشرق أفريقيا، ومنهم أبوه قاضي القضاة في عهد السلطان برغش، فالدلائل التاريخية تشير إلى أن الرجلَ تكوّن تكويناً علميًّا عميقاً، فقرأ متون الكتب، ودواوين الشعر، وجاب الآفاق، وعرف دهاليز السياسة، وسعى إلى ارتياد الآفاق راحلاً ومُرْتحلاً، واستلهم ثقافته من تلك البيئة العلمية الزاهرة بالشرق الأفريقي، وليس بدعاً، فالرجل حظي بمكانة مجد الذات في علاقتها بالآخر، وكما هو معلوم أنه كان من رجالات السيد ماجد الذي اختلف مع أخيه إبان فترة الاضطراب السياسي وانقسام الإمبراطورية العُمانية، فقد دفع ضريبة موقفه السياسي وانحيازه هذا الاختلاف، فعاد إلى وطنه تاركا ذلك المجد، مودعاً تلك البقاع، والمعاهد الخصبة المعطاءة، وحطّ رحله في وطن آبائه وأجداده، علاية إبراء العامرة، وكان ذلك في أواخر عهد إمامة سالم الخروصي، وبداية إمامة الإمام محمد بن عبدالله الخليلي، ففي هذه المرحلة المحملة بوهج السياسية والتنافرات القبلية كان الشيخ سيف محط ثقة الإمام الخروصي لما عرفه عنه من قيمة اعتبارية في الشرق الإفريقي فكان معتمده ومحل ثقته في الديار الإبرائية إليه توجه الرسائل ومنه تصدر والحال نفسه في عهد الإمام الخليلي.
لقد قدّره هؤلاء الأئمة أعظم تقدير، وأحاطوه بعنايتهم، ورأوا فيه الصورة النمطية التي يرغبونها، لذا أولوه أمور الفقه والعلم والفتيا في محيط إقامته، علاية إبراء وما حولها، وكان مقصد العلم والمتعلمين، يؤم مجلسه الكائن بموضع محلة «الخُرُوسْ» كلُّ صادر ووارد، فهذا يقرأ، وذاك يكتب، وذاك ينشد أشعارا، وهذا يصدح بخطبة، والشيخ متربع مجلسه يوجّه ويعلّم وينثر درره ولآلئ معارفه، هكذا كان الشيخ سيف بن علي رجلا وقوراً وشخصية مرموقة، شُهِدَ لها بالتميز المطلق من لدن كلّ من عاصرها وسمع عنها، فهو الشخصية الوحيدة التي لم نسمع فيها رأيا آخر، فكل ما سمعناه أنه شخص علم، ورجل معرفة، وصاحب حكمة وسداد رأي، وقد نزّه نفسه عن ما اعتمل في مجتمعه من أشكال التخلف، وأمور التعصب القبلي ونذر نفسه للإصلاح والتنوير، والقيام بأمور المجتمع قولا وفعلا، وقد عاش أوج التعصب القبلي وورث الزعامة عن عمّه زاهر بن عامر المسكري، وكان الزعيم القبلي الكبير في عصره، وفي عهده كما هو معلوم نشبت الحرب البغيضة، المعروفة بحرب القطبي، التي لاكتها الألسن دون تدوين لأزمان طويلة، مسجلة بطولات أسطورية، تخرج أحياناً عن حدود العقل والمنطق، مُغلّبة العاطفة والحميّة على الدين والقيم الإنسانية، فلم نكن نسمع عن هذه الحرب وما دار فيها إلا أنباء محزنة تتصل بالقتل والاقتتال وسيلان الدم، وزهق الأرواح، والزهو بالانتصار البغيض غير المبرر، والمتخاصمون أخوة في الدين والنسب، وقد سجل تفاصيلها الوثائق والأدبيات الاجتماعية شأن مخطوط « قطع المشاجرة في اتصال قبائل المساكرة «… ولكن الشيخ سيف بن علي لم يدخل طرفاً في هذا السجال القبلي البغيض.
إنتاجه المعرفي.. طوته الأيام وأضاعته عربات الزمان:
إنتاج الشيخ سيف المكتوب – مع الأسف – ضاع أغلبه إبان معيشته في زنجبار وانتقاله إلى عُمان، فلم تكد الذاكرة الثقافية تحتفظ له بشيء من التأليف سوى قصيدة يتيمة وخطبة ألقاها في محفل قدوم الباروني عام 1922م.يبينُ ذلك ما عثرنا عليه في خزانته من مخطوطات ومراسلات ومجاميع، ودفاتر وأوراق مفردة، بلغ عددها مما يقرب ثلاثمائة وثيقة منها وثائق مهمة احتفظ بها الشيخ علي بن سالم المسكري وهي لوالده وجده، بعضها يعود إلى أكثر من مائة عام من مثل وثيقتي توكيل كتبهما الشيخ سيف بن علي بن عامر المسكري بتاريخ الأول من صفر 1362 هـ وبتاريخ الخامس من ربيع الأول سنة 1337 هـ حول قبض أموال وإبرام عقود. وقيمتهما أنهما توضحان السياق الرسمي للجوانب الاقتصادية والقانونية التي يتعامل بها المجتمع وقت كتابتهما، كما أنهما تفصحان عن أسماء شهود لهما من الأهمية بمكان في التاريخ الاجتماعي المحلي.عُرِف عن الشيخ سيف بن علي، براعته في الخطابة، ونسجّل هنا خطبته الشهيرة التي ألقاها في حضرة الزعيم الباروني، عندما حلّ ضيفا على علاية إبراء في زيارته سنة 1343 هـ، وقد قدّم لها القاضي عيسى بن صالح الطيواني بمقدمة احتفائية جاء فيها مصوّراً المشهد الذي ألقيت فيه احتفاء بمقدم الباروني وصحبه:
«وما كدنا نصلُ إليهم حتى فتحتْ مدافع حصن علاية إبراء أفواهها، …، واشتعلت نار الحميّة في صفوف الرّجال، فظلت تطلقُ بنادقها بانتظام، واختلط الحابلُ بالنابلُ، فلا تسمع إلا زلازل
المدافع من اليمين والشمال، فاضطرب القوم من شدة الفرح؛ ونادى المنادي قائلا: استقبلوهم، استقبلوهم، فلوت الخيول أعناقها والرجال صفوفهم، وباشروا في إطلاق بنادقهم، ونزل المتبارون بالسيف والترس والخنجر إلى الميدان فترى الشيخ الذي لا توجد في لحيته شعرة سوداء يقفز في الهواء، والسيف في يمينه والترس في شماله هاجماً على خصمه كأنه باز منقضٌّ على الجو، فكان المنظر مهيباً، وأخيراً وقف الشيخ المحترم سيف بن علي بن عامر المسكري الأزدي ، وتلا الخطاب الآتي فقوبل بالاستحسان والتكبير .. « كما نسجّل له أيضاً جملة من الأشعار وردت في ثنايا هذه الخطبة المنصوصة في كتاب» القصائد العُمانية في الرحلة البارونية، ص 132 والناصّة على ما يلي:
« الحمد لله الذي شهدت الكائنات بوجوده، وشمل الموجودات عميم كرمه وجوده، والصلاةُ والسَّلام على نبينا محمد أفصح من نطق بالضَّاد، ونسخ هديه شريعة كلَّ هاد، وعلى آلة وصحبه الذين منهم من سبقَ وبدر، وصابر وصبر، ومنهم من آوى ونصر، وقاتل وقهر أمّا بعد: –
فلنا الهناء العظيم بهذا العيد الأكبر، واليوم المبارك الأزهر، الذي جمع الله فيه شملنا بورود الإنسان الكامل، الكميّ الباسل ،أعز عزيز نزلَ بساحة حضرة الإمام والسلطان ، وأجلّ وافد، وأمهر قائد أورث الذل أعداءه بمواقف الميدان ، بديع الزمان، ويتيمة عقد الأعيان، المتصرف بالسيف والقلم واللسان، البطل الشهير في كل مكان ،الشيخ سليمان باشا الباروني ؛الذي رسمت آيات مفاخرة على ظباة السيوف، ومفارق البنادق، وثغور المدافع، من شهدت له بذلك الأعداء، والفضل ما شهدت به بلا مدافع، الجدير بأن ينشد في حقه قول العربي الهمام الشاعر أبي تمام:
وقد ظلت أعناق أعلامه ضُحى
بعُقبانِ طيرٍ في السَّما والنواهلِ
أقامتْ مع الراياتِ حتى كأنَّها
من الجيشِ إلا أنَّها لم تقاتل
وماذا أقول فيمن خَرَسَتْ ألسنُ الفصحاء عن شرح مآثره السنية، وأعْجَزت البلغاء عن وصف هممه العلية، لكنني أرجو أن أكون منتظماً في سلك القائلين، حتى لا أعَدّ في حزب المقصرين، تطير بأرج هذا الثناء الطيور الحمدية، وتحمله إجلالا لحضرة الهمام المتحلِّي بالحلل المجدية، وترفرف على رأسه الشريف بأجنحة الشكر وتعود، كما خفقت عليه بطرابلس الغرب أعلام النصر والبنود. ثم أنشد:
إلى الهُمامِ الذي لا زال مرتقياً
لذروة المجدِ مُرتاداً معاليها
إني أقولُ وخير القولِ أصدقهُ
فيك العوالمُ قد جاءت وما فيها
هذا – يا رعاكَ الله – ما انتخبته القريحة الجامدة التي أيقظتها معاليك العلية، بما حظيت به من مقابلتي لطلعتك النورانية؛ التي أحييت منا الهمم وأطلقت ألسنتنا بين الأمم: –
جاءت البشرى فميسوا طرَبَا
موكبُ العزِّ يزفُّ الشُّهبا
يا له من مَوْكبٍ في شرفٍ
يحملُ المجدَ ويزهو عجبا
أدام الله لنا أيامك، وجعل جامعة الخير حيث حللت أمامك، وصحف مفاخرك في كلِّ محفلِ بكل لسان تنشر، كما جعل اسم إمام المسلمين على كل منبر يتلى ويذكر… انتهى.
ويبدو من هذه الخطب والأسئلة الفقهية خصائص جودة السبك، وإحكام الجملة، والقدرة على إيصال المعنى، والتأثير في المتلقي بحس يُحيل إلى معاني مجيدة كالوحدة، ولم شمل المسلمين، والدعوة إلى إصلاح المجتمع والاحتفاء بالآخر المستنير، وكل تلك المعاني، لا يدركها إلا من تمايزت شخصيته وامتزجت بها، فهي جزء منه ومن روحه وعقله، وشخصيته الاعتبارية.
وفاته وانطفاء شمعة حياته
توفي الشيخ سيف بن علي المسكري في بيته بمحلة « الخروس « بعلاية إبراء بتاريخ 26 محرم 1355، الموافق لـ 18/ 4 / 1936م. ومثلَّت وفاته ثلمة لا تسدّ، والأكيد أنه هناك من رثاه شعراً؛ لأنه وجِد في زهو الشعر وازدهاره، ولكننا لم نعثر على قصيدة واحدة مما قيل في تأبينه ورثائه، ولعلنا نجد ضالتنا في قادم الأيام مع تكرار البحث والتقصي في ذخائر المحفوظات والوثائق العُمانية.