كلما وطأنا أسوار الوطن وتدنّى علوها، كلما كان ذلك سهلًا لتغلغل الأشرار بيننا، فسد الذرائع يجعل غزو المتطفلين لعقول البسطاء صعبًا، إن لم نقل مستحيلًا، وإنَّ التراخي والتسويف والمماطلة، أمور تعطي الفرصة لشياطين الإنس للولوج إلى النفوس الرمادية.. بسهولة ويسر كبيرين، ونحن بالذات أصبحنا نُمثل هدفًا مهمًا لهؤلاء الأشرار، الذين ما فتئوا يتربصون بعُمان الدوائر، فتغيظهم اللحمة الوطنية، ويقلقهم هدوؤنا واستقرارنا، وينغّص عيشتهم وحدتنا، وتسامحنا مع الذات ومع الآخرين، ويقضُّ مضاجعهم سياستنا الثابتة، والمحترمة من قبل العالم أجمع، ونهجنا المستقيم تجاه القضايا الدولية.
فحلمهم أن يكون حالنا من حال بقية العرب، فشل وتقاعس وحروب، وتطاحن مذهبي وطائفي ومناطقي، وحلمهم أن نكون مثلهم في الصباح موقف، وفي المساء موقف آخر، وأن يكون للبلد الواحد عشرين رأسًا ورأس، وأن يكون لنا في العلن موقف، وفي الباطن موقف مُختلف جدًا عن واقع الحال. فإذا كانوا يضنون على المواطن العُماني، بدعوة للعلاج في الخارج ومِنة ما بعدها مِنة، ويزعمون أنَّ في ذلك رفاهية بالسفر، وينتقون بعض الأشخاص، ويعرضون عليهم كرمهم الحاتميّ، بعلاجهم في الخارج أو عندهم، ويخصّصون لهم طائرات خاصة لتنقلهم لغرض الدعاية والشماتة، وتنطلي الحيلة على البعض، ويملأون تويتر مدحًا للمتربص من أجل الفتنة والشقاق، وفي المقابل يذمّون الوطن ومن في الوطن، لأنَّ الآخر له فضل وكرم عليهم كما يزعمون.
وينتقي أولئك الأشرار من بني الإنس، بعض السّذج ممن يتصفون بفلتات اللسان، وكثرة الهرج والمرج، فيقدمون لهم صحون الكرم والجود، ويشغّلُونهم مزاميرَ لهم في وسائل التواصل الاجتماعي للذم والقدح والفتنة، ويحرّضونهم على أن يصنعوا منهم معارضين سياسيين، وهم لا في العير ولا في النفير من السياسة، وبينهم وبينها بعد المغربين والمشرقين عن بعضهما، فتتم ترضية البعض على أمل أن يعود إلى رشده. ولكن للأسف، الرشد قد بيع في مزاد علنيّ في أول مرة، وما يزال هناك من ظل ينعق بدون هُدى، لأنه من الأساس بلا هدف أو معنى يحتسب له أو عليه.
وما زال شياطين الإنس يتسقَّطون السواقط، وهم للهفوات خير لاقط، فمنهم من يقتات على التشغيل والتوظيف، وهذا وتر حساس ودائم الترنم به، وهو موجود حتى في البلاد ذات الثراء الفاحش، فليس يُعقل أن تشغل الحكومات كل الشعوب والمجتمعات في وظائف حكومية، ومثل هذا أمر مُستحيل التحقق، لذلك ستظل أسطوانتها دائرة كرحى الماء.
ولا ينفك شياطين الإنس عن البحث والتربص بالثغرات للولوج من خلالها إلى المفاصل المؤلمة للآخر، طالما ظلت هناك مساحات رمادية في عقول ونفوس الناس، ومرة أخرى يجدون ضالتهم في وضع المتقاعدين، فيخرجون علينا ببيانات غير معلومة المصداقية، فيشيعون أن المتقاعدين معهم قد أدخلوا جنات النعيم في الدنيا قبل الآخرة، وحتى صفاتهم قد غيرت، وصارت لهم ميزات وصفات جديدة، وكرامات لها بداية.. ولكن ليس لها نهاية، وهكذا يعزفون قيثارتهم المزعجة على ثغورنا، وتحت ظلال أسوارنا، وهي معزوفات تطرب السامعين غير المركزين على القصد، والله العالم بكنهها الحقيقي، ودسها الخبيث.
فإن كل هذه الثغرات والمثالب التي أتى ذكرها بعاليه، لها حلول ممكنة ومعقولة، عندما تكون النوايا سليمة والقصد شريف، وذلك ببعض الإجراءات والخطوات غير التقليدية، فعلى سبيل المثال، فإن الدولة لن تعجز عن مُعالجة مواطنيها، وهو واجبها كشيء من الحقوق للمواطن، وقبل ذلك فهي ناحية إنسانية محضة، فالخدمات الصحية قد تراجعت في بلادنا، وذلك بوضعها على قارعة الطريق من عدم المبالاة، والإهمال والمماطلة، وللدفع بالناس قسرًا نحو مستشفيات الابتزاز والتجارة في القطاع الخاص، وربما لأجل إثراء علية القوم من الأغنياء، لأنه من المؤكد لا يقدر على فتح مستشفى أي شخص عادي من عامة الناس.
أما التوظيف والتشغيل، فهي حكاية الأوائل والأواخر، وحكاية غير معلوم لها بداية، وستظل عبر العقود والقرون القادمة، وبالطبع لن تقوى أي حكومة على وجه الأرض على استيعاب كل الشعب كموظفين في الحكومة أو حتى القطاع الخاص، ولكن تحل هذه المعضلة بطريقة النسبة والتناسب، ويجب أن تعزف الحكومات على وتر التشغيل بنسبة أكبر؛ لأنَّ التشغيل يعني وجود وسائل للدخل بين التجارة والصناعة ويدخل من ضمنها السياحة والزراعة وصيد البحر، وأن يُسمح للناس بإنشاء الجمعيات، وأن تدعمها الحكومة والقطاع الخاص بالخبرة الفنية، ورأس المال والحماية، وافتعال الأسواق الموازية، بحيث لا يلغى شيء من الأسواق القائمة.
وأن تنشأ مجالس مشتركة من الباحثين عن عمل، والمختصين من وزارة العمل، ووزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار، وغرفة تجارة وصناعة عُمان، والمناطق الصناعية، والأسواق الحرة، ووزارة التراث والسياحة، وكل من له علاقة بالتشغيل، فإن هم وضعوا خططًا ناجعة ومثمرة تطبق، وإن عجزوا فإن اللائمة ستقع عليهم أنفسهم بعجزهم.
أما المتقاعدون؛ فإن قضيتهم أصبحت قضية تراكمية، وإن لم تبادر الحكومة بحلها، ستتفاقم بمرور الأيام، وسينشأ عن ذلك عجز متكرر عن حلها، وبالطبع لن تحل هذه المعضلة، إن لم يشرك المتقاعدون في حلها، لأن المقولة الحكيمة تقول: “لا يشعر بالشيء شعورًا قويًا إلا من يجربه”، فطالما ظل الموظف هو الذي يفصِّل للمتقاعد ملبسه، فلن يوفق في معرفة حاجة هذا المتقاعد. ومن جانب آخر فلا توكلوا شأن المتقاعدين إلى بخيل أو حاسد أو أناني، أو جاهل بما قدم الرعيل الأول للوطن، فعندئذ سيظل المتقاعد “ملطشة” في أيدي موظفي اليوم، وسيظل يُنظر إليهم كقطعة غيار انتهت صلاحيتها، واستُبدلت بأخرى، فقبل كل شيء توضع قيمة تزن المتقاعد بميزان الحق، وإن كل من يتنكر للمتقاعدين سيبخسهم حقهم، وهو سيكون متنكرًا لنفسه، لأنه بالغد القريب سيكون في محلهم، وسيقال له أبكي حقًا ضائعًا لم تحافظ عليه بنفسك، يوم كان الأمر بيدك.
إذن.. علينا أن نتعامل مع الأمور بجدية وحزم، وألاّ نوطِّئ أسوارنا أمام الأعداء، وكذلك عبيدهم ممن يعيشون بين ظهرانينا، ويتغنون بالغريب من شياطين الإنس، فيقال لهم إما احترامًا للوطن، وقيمه ورموزه، وإما الرحيل إلى من رفعتم شأنهم فوق شأن الوطن ورموزه، فلا يجوز أن تكون رجِل هنا، وأخرى هناك، فاجمع رجليك في مكان واحد واستقم، حتى نعرف من أنت؟ ومع من تكون؟ فالتسامح والتواضع لهما حدود واضحة ومعقولة.. هذا وبالله التوفيق والسداد.
حمد بن سالم العلوي