عبدالرزاق الربيعي
وسط واحات النخيل السمائلية، تساءلت مع نفسي: يا ترى من نبت قبل الآخر في هذا المكان، الشعر؟ أم النخل؟ أم كلاهما شبّ بصحبة الآخر، في مكان وجدنا -حين زرناه- الزمان يفيض على ضفتي القصيدة في لحظة جامحة لا تكون فيها كما وصف برنارد مالامود «ثمة أبواب أو نوافذ تقود إلى المكان، فقد يخترق الجدران كي يصل إليه»، وهذه واحدة من إملاءات المكان العماني الذي يغمرنا بعطفه، وجماله، وسرديّاته التي تمثّل عنصرا جاذبا، لمن يتوغّل فيه، فالمكان بدون تلك السرديّات يمشي متعثّرا، بل على قدم واحدة، فهي من (لزوميّاته)، وجماليّاته التي تجتمع فيها الأبعاد الشاعرية، والتاريخية والاجتماعية، وصرت كلّما تكرّرت زياراتي لبعض الأماكن العمانيّة، أشعر أنّني أقترب أكثر من روحه، فهو لا يمنح صفاته زائره في أوّل مصافحة جغرافية، وحين يعود إليه، يشعر أن لكلّ مدينة، وزاوية، وركن، هويّة، ولونا، ورائحة، هذه الصفات تتجلّى من خلال امتزاج الأمكنة بالسرديّات، لذا حين سار بنا مضيّفنا د.محمود السليمي إلى مرقد الصحابي الجليل مازن بن غضوبة السمائلي الذي قيل إنه أوّل من أسلم من أهل عمان، قرأنا على جداره الأبيات التي قالها في حضرة الرسول الكريم (ص) بعد أن سمع صوتا من الصنم، تزامن مع وصول خبر حمله رجل جاء من الحجاز ناقلا عن ظهور رجل، يقول لمن أتاه «أجيبوا داعي الله» فسار إلى الصنم الذي كان يُعبد في (سمائل)، ويُقال له (باجر) فكسره، وقدم إلى الرسول منشدا:
إِلَيــكَ رَســولَ اللَهِ خَــبَّت مَـطـيَـتـي ** تَجوبُ الفيافي من عمانَ إِلى العَرجِ، لتـشـفـعَ لي يـا خَيرَ من وَطئَ الحصا ** فــيـغـفـرَ لي ربـي فـأَرجـعَ بـالفَـلجِ
ثم انتقلنا إلى المسجد الذي بناه، وكان أوّل مسجد في عمان، وأعيد ترميمه قبل سنوات، وهو واحد من حوالي ( ٣٠٠) مسجد في الولاية، وفي كل مكان نزوره كان السليمي يروي لنا حكاية، وحوادث تاريخية، وينشد ما يتّصل بها مما يحفظ من أشعار، وهو يحفظ الكثير، وحين سألته عن شهرة المدينة بالأدب والشعر أجاب «هذا يعود إلى مجالس الأدب والشعر، وما لهذه المجالس من أثرٍ كبيرٍ في التنشئة، وأبرزها مجلس أمير البيان الشيخ عبد الله بن علي الخليلي، الذي كان يرتاد مجالسه «أبو سرور» الجامعي، وموسى بن عيسى البكري، وعلي بن منصور الشامسي، وحمد بن عبيد السليمي، وخلفان بن جميّل السيابي، ومحمد بن راشد الخصيبي، وسالم بن حمود السيابي رحمهم الله جميعًا»، كان الطريق محفوفا بالنخيل، وظلالها الممتدّة على البساط الأخضر، فقال الدكتور سعيد الزبيدي مرتجلا:
فكم منح الحياة بها جمالا
وزاد بهاءها فيها قرينُ
وبالشعراء والتاريخ تزهو
بفضل مرابع هذي السنين
أثرن بنا لواعجنا فسالت
بما نهوى وفاض بنا الحنينُ
حين نزلنا، غسلنا أقدامنا في مياه أحد الأفلاج، ويقال إنه في (سمائل) يجري ستة عشر فلجا، سألت د. نائل حنّون،: هل صحيح ما يقال عن اعتقاد السومريين أن المرض يأتي من مياه العالم السفلي، وعليه فإن اغتسال إله الشفاء (ننكشزيدا) بهذا الماء يقتل الأمراض والأوبئة؟ «، صمت، ثمّ أجاب» لم يكن هناك اعتقاد بوجود مياه في العالم السفلي وإنما على العكس يفتقر ذلك العالم إلى المياه كما تصف النصوص المسمارية. وكان هناك نهر يحيط بالعالم الأسفل (نهر خبر) الذي وصف في النصوص ولا علاقة له بالأمراض وإنما ليعزل ذلك العالم. أما عن اغتسال ننكشزيدا في مياه العالم الأسفل فلا وجود له في النصوص المسمارية كونها في العقائد القديمة من آلهة العالم الأسفل وصهر تموز وليست إله الطب»، قاطعنا الشاعر سعيد الصقلاوي: لندع مياه العالم السفلي جانبا، ونستمتع بتدفّق مياه الفلج، ونمضي بالدكتور نائل إلى حصن سمائل، وهو واحد من الحصون التي كتبت عنها في موسوعتي» القلاع والحصون»، قال السليمي « نعم، وفي الولاية حوالي (115) حصنا وقلعة، لكن أهمها حصن سمائل» فتوجهنا إليه، ولكي نصل ارتقينا مرتفعا جبليا في ولاية تحيط بها الجبال من كلّ صوب، واصلنا تجوالنا بين الأماكن التاريخية التي وجدناها محافظة على هيئتها الأثرية بفضل الصيانة المستمرّة، وعمليات الترميم، بمواد مستخدمة سابقا كالطين، وجذوع النخيل وأخشاب الكندل والبامبو، لكي يحافظ على شكله، وهويته، قال د. نائل» من العجيب أن كل ّ هذه المساجد والمواقع التاريخية توجد في ولاية صغيرة»، فعلّق السلمي: هناك أماكن أخرى نكملها في زيارة قادمة بعونه تعالى.
فغادرنا (سمائل) مودّعين النخيل والجبال والقصائد التي نبتت في المكان، كما يخيّل لي، منذ الأزل.