خلال الشهر الماضي أصدر الرئيس الأمريكي أمرا تنفيذيا يحدد هدفا بعينه هو وجوب أن تكون “50% من كل سيارات الركاب الجديدة والسيارات الخفيفة التي تباع في عام 2030” كهربائية
استجابة للسياسات الحكومية، خصصت شركات صناعة السيارات عشرات البلايين من الدولارات خلال الأعوام العشرة القادمة للتطوير
دانييل يرجين – بوليتيكو
ترجمة قاسم مكي
قبل عقد ونصف العقد، أدلى الرئيس التنفيذي لشركة جنرال موتورز وقتها ريك واجونَر في حديث له مع لاري بيرنز مدير الأبحاث والاستراتيجية بالشركة بالملاحظة التالية “قليلة هي الصناعات التي تظل كما هي (بدون تغيير) لمائة عام”. وأضاف واجونر مع شيء من القلق، من بين هذه القلة صناعة السيارات. فنموذج عملها هو نفسه الذي استحدثه هنري فورد بسيارته طراز “تي” قبل قرن. إنه نموذج السيارة التي “تعمل بالوقود وتدار بمحرك الاحتراق الداخلي وتستخدم أربعة عجلات.” ثم تساءل “كيف ستبدو سيارة المائة عام القادمة؟”
مؤخرا ذكَّرتُ واجونر بذلك الحوار. رد قائلا “التركيز وقتها كان على تحسين محرك الاحتراق الداخلي.” ثم تساءلتُ ” لنفترض أننا بدأنا صناعة السيارات اليوم فقط، ما الذي سيكون مختلفا حينئذ؟”
الإجابة الواضحة جدا لذلك التساؤل جاءت الشهر الماضي من الرئيس الأمريكي جو بايدن عندما أصدر أمرا تنفيذيا يحدد هدفا بعينه هو وجوب أن تكون “50% من كل سيارات الركاب الجديدة والسيارات الخفيفة التي تباع في عام 2030” كهربائية.
في الأمر التنفيذي المذكور، وجه بايدن الجهات الحكومية بتطبيق السياسات الإجرائية اللازمة لتحقيق ذلك الهدف. وقال “هنالك رؤية للمستقبل تبدأ الآن في التحقق.”
من الواضح أن هذه الرؤية لا تتعلق بتحسين أداء محرك الاحتراق الداخلي.
استجابة للسياسات الحكومية، خصصت شركات صناعة السيارات عشرات البلايين من الدولارات خلال الأعوام العشرة القادمة لتطوير السيارة الكهربائية.
قد تكون الأهداف المرسومة محفِّزة. لكن مهما كان حجم المال الذي يتم إنفاقه فإن إحداث تحول لنظام صناعي واستهلاكي ضخم وأساسي للاقتصاد يواجه تحديات كبيرة. وسيترتب عن هذه التحديات (التي تواجه التحول عن سيارة محرك الاحتراق الداخلي) أن تكون نسبة مبيعات السيارات الكهربائية الجديدة بحلول عام 2030 حوالي 25% (وليس 50% كما في خطة بايدن) على الأرجح. فالتحديات ستظل ماثلة وستلزم مواجهتها حينها.
في عام 2008 لمعت الومضة الأولى لما يشكل الآن رؤية بايدن مع ظهور “تيسلا رودستر”، أول سيارة كهربائية تجارية في العصر الحديث. وقتها بدت سيارة رودستر، الكهربائية بكاملها، حدثا جديدا (بدعة في عالم السيارات).
إلى ذلك، كان ظهورها صدفةً، نوعا ما. فقبل خمسة أعوام من ذلك التاريخ كان شاب متحمس لفكرة السيارة الكهربائية اسمه جي بي ستروبل يتناول الغداء مع إيلون ماسْك في مطعم سمك بمدينة لوس آنجولوس ويحاول أن يقنعه بجدوى الطائرة الكهربائية.
وعندما لم يُبدِ ماسك اهتماما تحول ستروبل إلى الحديث عن السيارة الكهربائية. كانت تلك فكرة روَّج لها أصلا توماس إديسون قبل أكثر من قرن لكنها فشلت في مواجهة سيارة محرك الاحتراق الداخلي طراز فورد “تي”. غير أن ماسك احتضن الفكرة في عام 2008 . وبعد سنوات لاحقا قال ماسك لولا وجبة الغداء تلك ” لما وُجِدَت سيارة تيسلا أساسا.”
سيارة تيسلا رودستر التي يبدأ سعرها بأكثر من مائة ألف دولار ليست تماما سيارة السوق الواسعة النطاق. لكن سرعان ما ظهرت سيارات جديدة. فشركة نيسان التي كان يعكف مهندسوها على تطوير سيارة كهربائية لأكثر من عقدين طرحت طراز نيسان ليف عام 2010. وهو نفس العام الذي دشنت فيه شركة جنرال موتورز سيارتها الكهربائية “شيفي فولت”. ثم أعقبتها في عام 2016 بسيارتها “بولت”.
اليوم، شركات صناعة السيارات حول العالم تتسابق للحاق بتيسلا ولطرحِ تشكيلة كاملة من السيارات الكهربائية .
فشركة جنرال موتورز وضعت هدفا هو التحول الكامل إلى صناعة السيارات الكهربائية بحلول عام 2035. وخططت شركة مرسيدس لتحقيق قفزة بالاقتصار على إنتاج السيارات الخفيفة التي تدار بمحرك كهربائي في عام 2030.
وذكر أُولَا كالينيوس، الرئيس التنفيذي لشركة مرسيدس، في شهر يوليو الماضي أن “وتيرة الانتقال إلى إنتاج السيارة الكهربائية تتسارع…. ولحظة التحول تقترب…. هذه الخطوة تشكل إعادة تخصيص عظيمة الأثر لرأس المال.”
العامل الأول الذي يسرِّع التحول إلى السيارات الكهربائية هو الحكومات. فالاتحاد الأوروبي يقترح إجراءات قاسية ضد انبعاثات ثاني الكربون من السيارات التي تصنَّع أو تباع في أوروبا. وهي إجراءات من شأنها أن تحظر فعليا مبيعات السيارات الجديدة المزودة بمحرك الاحتراق الداخلي بحلول عام 2035.
على نحو مماثل أعلنت ولايتا كاليفورنيا وماساتشوستس عن طموحات تتعلق بحظر السيارات الجديدة التي تستخدم محرك الاحتراق الداخلي في عام 2035. ورفع بايدن الآن الرهان بفرضه على شركات صناعة السيارات هدف تحقيق نسبة ال 50% من السيارات الكهربائية بحلول عام 2030.
كما تحضُّ الحكوماتُ حول العالم أيضا على اقتناء السيارات الكهربائية بتقديم حوافز ودعومات سخية للمشترين. وصارت معايير انبعاثات ثاني أكسيد الكربون أكثر صرامة.
ففي هذا الشهر فقط اقترحت إدارة بايدن معايير أكثر تشددا بشأن كفاءة الوقود بالولايات المتحدة. وهذا سيزيد من تكلفة السيارات التقليدية بهدف دفع المزيد من المشترين للسيارات الجديدة إلى التحول للسيارات الكهربائية.
وفي الصين تقدم سلطات مدينة شنغهاي لوحات سيارات مجانية لما تدعوه بيجينج “سيارات الطاقة الجديدة”. هذا في حين يلزم المستهلكين الدخول في مزاد للحصول على لوحة ترخيص سيارة مزودة بمحرك تقليدي.
سيستغرق تبني السيارات الكهربائية بعض الوقت لكي يكون له أثر كبير على الانبعاثات لأن السيارات تظل قيد الاستخدام على الطرقات لفترة طويلة ( متوسط مدة استخدام السيارة في الولايات المتحدة 12 عاما). لكن أسطول السيارات الكهربائية سيكون له، في مجموعه، أثر مباشر على الانبعاثات. فالسيارات الخفيفة مسؤولة عن حوالي 16% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التي يطلقها البشر في الولايات المتحدة ( وحوالي 6% حول العالم).
لكن مع تسارع الانتقال إلى استخدام السيارات الكهربائية تبرز ثلاث تحديات كبيرة. أحدها التعدين وسلسلة التوريد اللازمين لدعم هذا الانتقال. فالبطاريات تتطلب الكثير من المواد المعدنية وذلك يعني الكثير من التعدين ونقل المواد.
وبحسب خبير التعدين والطاقة مارك ميلز تتطلب بطارية السيارة الكهربائية التي تزن ألف رطل إزالة 550 ألف رطل من التربة في أثناء عملية التعدين. لكن تكاليف البطارية انخفضت كثيرا. وسيقود تسريع أبحاث الحكومة والقطاع الخاص إلى المزيد من الخفض في التكاليف وتحسين الأداء.
ستكون هنالك حاجة إلى سلاسل إمداد جديدة معقدة وكبيرة جدا للحلول محل تلك التي تزود سائقي السيارات بالوقود السائل.
العديد من سلاسل التوريد هذه تهيمن عليها اليوم الصين التي من الواضح أن التوترات معها تتصاعد. فهي مثلا تسيطر في الوقت الحاضر على 80% من سلاسل توريد بطارية الليثيوم. ولخفض الاعتماد الشديد الحالي على الصين تنشئ شركات صناعة السيارات الأمريكية مصانع بطاريات في الولايات المتحدة. (جنرال موتورز في شراكة مع شركة إل جي الكورية للكيماويات وفورد في شراكة مع إس كيه الكورية للابتكار).
كما تدخل فورد أيضا في شراكة تصنيع سيارات كهربائية واستثمار بنصف بليون دولار مع شركة ريفيان الناشئة والتي تنتج سيارات نقل كهربائية صغيرة لشركة أمازون وشاحنات كهربائية صالحة للسير في كل الطرق ومركبات دفع رباعي “إس يو في” هذا العام. وعلينا توقُّع إحلال شعار “أمن الطاقة” الذي هيمن على السياسات لنصف قرن بشعار “أمن البطاريات” مع تمتعه بدعم سياسات الحكومات.
لكن يجب عدم التقليل من تقدير حجم ما هو مطلوب.
فبناء نظام إمداد يدعم 600 ألف سيارة كهربائية جديدة سنويا في الوقت الحالي وتحويله إلى نظام كاف لدعم هدف بايدن بتحقيق مبيعات حوالي 9 ملايين سيارة كهربائية بحلول عام 2030 سيكون مهمة بالغة الضخامة. وبلوغ هدف بايدن (نسبة 50% من السيارات المزودة بمحرك كهربائي في عام 2030) سيستلزم زيادة حجم الإنتاج السنوي من السيارات الكهربائية بحوالي 15 ضعفا خلال فترة زمنية قصيرة لا تتعدى ثماني سنوات.
التحدي الثاني تأمين البنية التحتية التي تدعم السيارات الكهربائية في حقبة ما بعد البنزين. ذلك يعني تشييد بنية أساسية واسعة الانتشار للشحن الكهربائي وتحديث وتوسيع شبكة الإمداد بالكهرباء. يجب أن تكون الشبكة أيضا موثوقة تماما (100%). وهذا مطلب تؤكد على أهميته الانقطاعات الواسعة النطاق في الإمداد الكهربائي مؤخرا في ولايتي كاليفورنيا وتكساس. وكما أوضح المستقبلي (خبير علم المستقبل) بيتر شوارتز فإن نظام الكهرباء بأكمله يتحول إلى جزء من سلسلة إمداد السيارات الكهربائية.
هذه المتطلبات مضمَّنة في مشروع قانون البنية التحتية الجديد الذي أجازه مجلس الشيوخ الأمريكي لتوِّه. وفي تأييده للتشريع المقترح، يؤكد البيت الأبيض على المنافسة مع الصين. فَحِصَّة الولايات المتحدة في سوق السيارات الكهربائية ” تساوي فقط ثلث حجم سوق الصين”، ويرى وجوب أن “يتغير ذلك”.
لأجل بلوغ هذه الغاية خصصت الحكومة الأمريكية 73 بليون دولار لتحديث ومَدِّ شبكة الكهرباء والطاقة النظيفة. كما وضعت جانبا 7.5 بليون دولار “لتشييد شبكة وطنية لمحطات تزويد السيارات الكهربائية بالطاقة وذلك كجزء من هدف الحكومة في “التعجيل بتبني السيارات الكهربائية”.
وتقدمت مجموعة من الديمقراطيين بمجلس النواب الشهر الماضي باقتراح لزيادة هذا المبلغ (7.5 بليون دولار) بأكثر من عشرة أضعاف إلى 85 بليون دولار. لكن النظام الحالي الذي يزود سيارات محرك الاحتراق الداخلي (محطات الوقود) تولى تطويره القطاع الخاص بدون دعم من الحكومة. ويحتاج نظام شحن بطاريات السيارات الكهربائية الناجح في الأجل الطويل إلى نموذج عمل يرتكز أيضا على القطاع الخاص ومستقل عن الحكومة الفيدرالية والسياسات المتغيرة.
التحدي الثالث يتعلق بالجمهور أو عموم الناس الذين يشترون السيارات. بالنسبة لمعظمهم أكبر إنفاق رأسمالي لهم بعد بناء منازلهم يخصصونه لشراء سياراتهم. لذلك، ببساطة، الوقت لم يحن بعد لمعرفة إلى أي حد سيتخلى المتلهفون لاقتناء السيارات الكهربائية (باستثناء من سارعوا إلى شرائها )عن شيء اعتادوا عليه (سيارات محرك الاحتراق الداخلي) إلى شيء جديد بالنسبة لهم (سيارات المحرك الكهربائي).
وهذا صحيح حتى مع التحسينات التي شهدتها تقنية البطارية وزادت من طول المسافة التي تقطعها السيارة الكهربائية ( قبل نفاد طاقتها).
لكن اطمئنان الناس لاقتناء السيارات الكهربائية سيزداد مع مشاهدتها في الطرقات وفي مداخل منازل جيرانهم ومع تكاثر أنواع الموديلات وتعدد خصائصها ومع تعزيز شركات صناعة السيارات لجهودها التسويقية من أجل دفع المشترين إلى التحول للسيارات الكهربائية.
مرَّت 18 سنة فقط منذ أن دشَّنت وجبةُ غداء بمطعم السمك في لوس آنجلوس مع إيلون ماسك فكرةَ السيارات الكهربائية.
وهكذا فصناعة السيارات التي بدا أن نموذج عملها غير قابل للتغيير ومن المستبعد أن تفعل ذلك (في مئويتها الثانية) ستتغير في المستقبل. إلي أي حد سيكون هذا التغيير سريعا؟ هذا ما سيتضح فقط في السنوات القليلة القادمة.
* الكاتب نائب رئيس شركة “آي إتش إس ماركت” ومؤلف عدة كتب حول النفط والطاقة آخرها “الخارطة الجديدة – الطاقة والمناخ وصدام الأمم.”