محمد بن سعيد المعمري
فاطمة – ذات الأربعين عامًا- تجلس وحيدة في السجن، بعدما أعياها تعب الوقوف على شبح الأفكار، قدماها مثقلتان لا تحملانها، وملف قضيتها ينمو بسرعة هائلة، ففي كل يوم تُحشر في جوفه أوراقا جديدة، ابتدأت بأوراق جمع الاستدلات من الشرطة مرورا بقرار الإحالة من الادعاء العام، الذي طالب بتطبيق حكم الإعدام بحق فاطمة -المتهمة بقتل زوجها- وما زالت أوراق أدلّة الثبوت تُساق وتُعرض لعدالة المحكمة قبل تكديسها في أحشاء الملف!
ظلّت فاطمة جالسة ، تراقب الأرض، تبكي تارة، وتفكر في طفولتها وشبابها حين تتعب من البكاء.
تذكرت مدرستها وصديقاتها ومعلماتها، وكل الأشياء التي أُكرهت على مفارقتها.
تذكرت كيف كبرت بسرعة، كما لو أنها قد ركبت قطارا سريعا عبر بها محطات السنين دون أن يتوقف، إلى أن أوصلها إلى محطة لم تكن تقصدها، ولم يكن لديها خيارٌ سوى النزول أو مواصلة الرحلة في قطار ليس له وجهة محددة.
في هذه المحطة كان ينتظرها رجلٌ برابط قدسي، تزوجها وانتقل بها إلى العاصمة، وأنجبت بنتين وذكرًا واحدًا.
في السنة الأولى؛ كحال معظم المتزوجين سكينة وهدوء، بين الحين والحين تهانٍ وابتسامات، ونبرة صوت تقترب من قلبها، تبادلا معا أطراف الحنين، ووجدا عند بعضهما الراحة والطمأنينة والاستقرار، وفي اجتماعهما السكن والاكتفاء، والمودّة والرحمة.
وفي مساء يوم آفل – ذلك اليوم الذي رسم خرائط التيه لكلاهما- حين تسلّل الشكّ إلى قلب الزوج، وراح يترجم شكوكه بتصرفات وأقوال قاسية، كما لو كان قد ضبط زوجته متلبسة في خيانة زوجية.
حاولت جاهدة الدفاع عن نفسها أمام اتهاماته، ذكّرته بتضحياتها، فعلت كل ما يمكن فعله لتخمد نارًا شبت فجأة في ذهن زوجها من أسباب واهية!
ظنّت فاطمة أن تلك الحادثة ما هي إلا مشكلة تافهة ولن تحتفظ بها الذاكرة. لكن الشقاق تفاقم مع زوجها. يخلق خلافا لمسألة محل اختلاف لا خلاف، ثم تطور الأمر عندما صفع وجهها تاركا لهبا وغيظا، لأنها ردت على اتهاماته بلهجة لم يعتد سماعها من زوجته الخاضعة .
لم تحتمل الصبر أكثر، سارعت إلى ملاذها_ أبيها_؛ فاتصلت به، وشرحت له كل شيء، وما هي إلا ساعات ووالدها معهم في المنزل، تحدث معهما طويلا، وفاطمة كانت مُصْغِية تهزُ رأسها ، في تلك اللحظة تذكرت أنها سمعت هذا الكلام من قبل، عندما حدثت مشكلة لأختها الكبرى، فقالت في نفسها: “لعل هناك كلمات محفوظة يستخدمها الناس في حل الخلافات بين زوجين ومشكلتنا لا تختلف عنها “.
اطمأنّت قليلا؛ لأن أختها عاشت بسلام بعد ذلك الموقف.
مضت الأيام والأشهر والزوج يزداد سوءاً، بل أنه لم يعد يحترم أحدا، واعتاد على السب والشتم وبذاءة اللسان.
طلبت فاطمة من زوجها الطلاق، فاستشاط غضبا، واعتدى عليها بالضرب المبرح، تدخل والدها وأمها وأخذاها معهم إلى البيت.
وبعد أسابيع؛ جاء الزوج بمعية والده، وطلبوا عودة فاطمة إلى بيتها، مع تعهّد الزوج بإمساكها بالمعروف، وعدم تكرار الإساءة لها.
رجعت فاطمة بآمال جديدة، يدفعها الحنين إلى احتضان أطفالها، وبضغوط من أهلها، الذين ذكّروها بكابوس الحالة المزرية التي تنتظرها لو دخلت خانة المطلقات في المجتمع!
عادت إلى حياتها كالمعتاد، رغم الخوف الذي ينهشها من الداخل، مارست حياتها ولم تطلب تحقيق وعود قطعها زوجها أمام أهلها، أرادت العيش بهدوء فقط مع زوجها وأطفالهما.
ولأن الطبع يغلب التطبّع، بالكاد يمرّ الشهر الأول حتى عاد الزوج إلى قبح صنيعه، وأقسى من السابق، ورغم تكرار الخلافات بشكل يؤكد استحالة العشرة بينهما، كان أهلها يطلبون منها الرجوع إلى بيتها، لسان حالهم يقول: “ماشي عندنا بنات يدخلن محاكم وهذه مشكلات صغيرة بين أي زوجين تنحل بسهولة “، وفي كل مرة تعود فاطمة. بينما تحّول زوجها إلى شخص سادي يتلذذ بإيذائها: بالاعتداء، وبفاحش القول، واستمرأ ذلك على الدوام.
بعد سنوات؛ وبينما هي في المطبخ تُعدّ طعام العشاء، دخل عليها زوجها وعيناه لا تحملان إلا الشر، كان غاضبا من كل شيء، وكارها لكل شيء.. تحدث عن أشياء لا تعرف عنها شيئا، أشياء حصلت معه: كخسارته الرهان في لعب القمار مع أصدقائه ليلة البارحة، أراد أن يعاقب نفسه، بالصراخ على فاطمة بأعلى صوته، واحتفظت هي بهدوئها مواصلة ما انشغلت به قبل مجيئه.
تعب من صراخه واستراح على كنبة الصالة، وقربت له فاطمة العشاء، وضعت الطعام على السفرة، ثم عادت متجهة إلى المطبخ، ونادها بعبارة نابية لكنها لم تلتفت إليه، كرر عليها النداء: “فاطمة يا بنت…”. دلفت إلى المطبخ، وتبعها كوحش ينتصر لنفسه، شدّ شعرها وجذبها نحوه، وهو يهزأ بها، ثم دفعها نحو رفّ الأطباق وأدوات المطبخ، لتسقط على الأرض دون أن تصرخ أو تبكي في هذه المرة.
عاد إلى الصالة، وجلس لتناول العشاء، أما فاطمة ظلت جالسة، شاخصة بعينيها نحو سكين سقطت أمامها، تدور في رأسها فكرة واحدة.. فكرة الخلاص!
حملت السكين بيدها، تأملتها قليلا، ثم وقفت كشخص آخر لم يشبهها يوما، بدأ كل شيء ينهض في كيانها، حثّت خطاها نحو الصالة، واقتربت منه على مهل، لم يشعر بها إلا بعد أن أصبحت أمامه مباشرة، حاول الوقوف فسارعته بطعنة غرستها في خاصرته، أرادت بطعنتها أن تدخل معاناتها إلى جوفه دفعة واحدة!
تقف اليوم فاطمة أمام العدالة، تواجه حكما بالإعدام..
ألصقت ظهرها بجدار سجن المحكمة ، خرجت تنهيدة مسافرة من أعماقها، حملقت في أرجاء المكان المعتم. تفرست ملامح الوجوه حولها، مسحت بعينيها تفاصيل المكان، والرائحة الوحيدة المتاحة هي رائحة التعرق الكريهة ورائحة الجوارب، رائحة السجن تشبه رائحة المراحيض..
يبدو أن قطار العمر توقف هنا.. عند محطتها الأخيرة ، عادة إلى مشاهد مرت بها تتجلى هذه اللحظة في نشوة التأمل، فمنذ تلك الليلة صارت تتذكر أدق تفاصيل حياتها، سرٌ ما يلف طفولتها البعيدة.. شيئا شفافا وكأنه حلم مرّ في النوم مرة واحدة لكن حُفر في الروح. سرحت بعيدا.. بعيدا..لكنها عادت الى واقعها بين جدران سجن المحكمة عندما نادت الشرطية …….(فاطمة)، قبل أن تقتادها نحو قاعة المحاكمة.
بعد تلاوة قرار الإحالة، سألها القاضي:
– ” فاطمة يتهمك الادعاء العام بأنك اقدمتي على قتل زوجك المدعو …، ما ردك على هذا الإتهام ؟ ” .
ما إن سمعت السؤال حتى ارتبكت.
رجعت إلى الخلف قليلا ورفعت رأسها محدقة في سقف القاعة الخفيض.
لبثت دقائق في وضعها المضطرب، وعادت تنقل نظراتها الخائفة بين الهيئة القضائية ومحاميها ، ثم قالت شيئا.
ـ “نعم” دون أن تضيف كلمة واحدة!
استكمل القاضي التحقيق مع المتهمة، في إطار الاستنطاق التفصيلي، فلا يكفي اعتراف المتهم لبناء حكم الإدانة، بل إن المحكمة تأخذ باعتراف المتهم متى اطمأنت إلى صدقه ومطابقته للواقع.
بعد مرور ساعة رفعت الجلسة في اليوم الأول ، وعقدت المحكمة جلسات أخرى على فترات متواصلة، استمعت فيها إلى كل أوجه المرافعات من الإدعاء العام، ومحامي الدفاع عن المتهمة، واطلعت على أوجه الدفاع والدفوع.
أسدل الستار أخيرا على القضية، وفي يوم النطق بالحكم ازدادت فاطمة ترقبا مشوبا بالتهيؤ لسماع المصير، كانت تقبع خلف القضبان الحديدية وتمسك فيها خوفا من سقوطها، وهي تترقب حكما قد يقضي بالإعدام .
حضر جمهور غفير في اليوم المحدد للنطق بالحكم،
استحضرت فاطمة مرة أخرى من السجن المخصص للنساء، حضرت الهيئة القضائية وممثل الادعاء، و وقف محامي الدفاع بجوار القفص،يهمس ببعض الكلمات لموكلته.
-“نادي على القضايا المحجوزة للحكم” القاضي يأمر الحاجب.
_(فاطمة بنت……)
” حكمت المحكمة حضوريا بإدانة المتهمة بالتهمة المسندة وقضت بمعاقبتها بالسجن خمسَ عشرةَ سنةً…”
عندما سمعت الحكم ؛ تماسكت_رغم ما استبد بها من ألم_ وكان يبدو عليها الندم .
سببت المحكمة حكمها، بالنظر إلى ظروف المتهم وملابسات القضية وتنازل ولي الدم، اعتبرته المحكمة من الاسباب المخففة التقديرية.