هيّاف ياسين –
في يوم الموسيقى العربيّة لهذا العام، أطلّت السلطنة بموشّح أصيل من أداء «فرقة البلد»، حَمَل عنوان «يا من هواه» من نظم الشّاعر سعيد بن أحمد سعيد البوسعيدي، وبتوقيع ملحنّه وعازف العود مسلّم الكثيري.
للحقيقة، وبعد الشّعور بالسّعادة والرّاحة عند سماع هذا الإنتاج الموسيقيّ المهمّ، في هذا الزّمن الّذي يحمل الكثير من الصّعوبات الثّقيلة ويرميها على كاهل المواطنين والموسيقيين منهم بطبيعة الحال، لا بدّ من توجيه تحيّة احترام حقيقيّة ومرموقة لكلّ من ساهم في صدور هذا العمل الجميل والمتقن.
وقد جاء تلحين الكثيريّ لقالب الموشّح هذا، موفّقًا إلى حدّ كبير، رغم ندرة البَصْمَة الموسيقيّة العُمانيّة في سياق تلحين الموشّحات، حيث نرجو ألّا تكون هذه التّجربة يتيمة، بل نتمّناها أن تكون فاتحة أمام الموسيقيين العُمانيين الأصيلين، كي يستثمرون مواهبهم الأصيلة في تلحين وغناء وعزف الموشّحات وقوالب أخرى رصينة من تراث عصر النّهضة الموسيقيّة العربيّة.
ولو سريعًا، يتوجّب الذّكر أنّ الموشّح هو قالب موسيقيّ غنائيّ نشأ في مدينة حلب في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، وتمتدّ جذوره إلى قالب «القَوْل» في الفترة العبّاسيّة.
وقد وصل الموشّح إلى مصر في القرن الثّامن عشر مع شاكر الحلبي، واستند عبده الحمولي (1843-1901) مؤسّس النّهضة الموسيقيّة العربيّة عليه في عمليّة صناعته لتلك الموسيقى الجديدة آنذاك، حيث قام بتلقيح بين أربعة أنماط موسيقيّة، منها الموشّح، الّذي اعتبر فيما بعد رُكنًا أساسيًّا في المرحلة الأولى من «الوصلة» (القالب الموسيقيّ الأكبر والشّامل والعَلَنيّ الخاصّ بعصر النّهضة).
ويمكن إدراج موشّح «الكثيريّ» في سياق التّطوّر من داخل في منظومة الموشّحات، بمعنى أنّ التّلحين أتى مُحافظًا في مضمونه على ذلك النّحو الموسيقيّ العميق الخاصّ باللّسان الموسيقيّ المقاميّ العربيّ المنبثق عن عصر النّهضة، كما أتى مُجدِّدًا لجهة قُدرتِه على إيجاد وتوليد ألحانٍ جميلة تشابكت فيما بينها لتصنع هذا الموشّح الجديد «يا من هواه».
ويمكن التطّرق سريعًا إلى ذكر بعض العناصر الموسيقيّة الأصيلة الّتي تمسّك بها الملحّن، فساهمت في ترسيخ هذا الموشّح في سياقٍ منظومة الموشّحات التّقليديّة بشكل طبيعيّ، وأهمّها:
1- المحافظة على الشّكل التّقليديّ المعروف للموشّح، فهو قد أتى على شاكلة دور أوّل، ثمّ دور ثانٍ، فخانة، فاسترجاع للدّور الأوّل بدل القفلة المعهودة وهذا متاح على غرار موشّح «حبّي ملك» المعروف من مقام راست السُّوزنَك على ضرب السّماعي اليّورُك، حيث يُستعاض عن القفلة باسترجاع الدّور الأوّل.
2- تشبيكه اللّحن مع دورة السّماعيّ الدّارج الإيقاعيّة الثُّلاثيّة النّبض الأصيلة والمرجعيّة، حيث تُوقّع أعداد كبيرة من الموشّحات على هذه الدّورة الإيقاعيّة الثّلاثيّة لدلالتها الرّمزيّة العميقة والمهّمة، فهي الدّورة الإيقاعيّة الثّلاثيّة المرجعيّة في بلاد الشّام ومصر (إلى جانب قريبَتَيْها السّماعي الطّائر والسّماعي اليّورُك)، وخير مثال في هذا السّياق يُؤخذ هو الموشّح الخالد «يا غصن نقا» نظم «أبي بكر ابن زهر الأندلسيّ» والمجهول التّلحين من مقام السّيكاه (أو الهُزام).
3- والبناء اللّحنيّ مع المقدّمة العزفيّة السّريعة تمّ تناولها من مقام الرّاست، مع إفساح المجال في الخانة لبروز نغمة الجهاركاه (أو العجم)، وهذا التّلوين المقاميّ الموجود في الخانة، كثيرًا ما يعتمد بشكل طبيعيّ في سياق تلحين وصناعة الموشّحات، والأمثلة كثيرة وبديهيّة فلا داعي لتكرارها.
4- كما قصد الملحّن الابتعاد عن تلك الجمل اللّحنيّة المطوّلة «النّمطيّة»، وهذا حقّه، إذ لِفَنِّ صناعة الموشّح الكثير من الأساليب، إنّما قصد أيضًا إظهار حيّز من الأداء التّرنّميّ (mélismatique) في أغلب الأحيان، (بمعنى إفساح المجال أمام إقحام عدد من النّغمات في مقطع لفظيّ واحد)، مظهرًا بذلك جُملًا بسيطةً سلسلةً، مُرسّخًا أسلوب السّهل الممتنع.
وللحقيقة فإنّ هذا الأسلوب يظهر كفاءة الملحّن من جهة أولى، ويؤكّد ابتعاده عن الاستعراض المعقّد من جهة ثانية (وهو قادر على ذلك لو أراد)، هذا الأسلوب نجده في أمثلة كثيرة من رصيد الموشّحات في عصر النّهضة، ونأخذ على سبيل المثال الموشّح الخالد «والّذي أسكر» لأبو الموشّحات أحمد أبو خليل القبّانيّ (1833-1903 سوريا) من مقام البيّاتيّ العجميّ (وله صيغة منتشرة أيضًا من مقام البيّاتيّ الحُسينيّ) على ضرب السّماعي الدّارج الثّلاثيّ (ومرّات يستبدل بالسّماعي اليُورُك)، حيث نجدُ لحنَ الكلام موقّعًا بشكل مقطعيّ (Syllabique) على الضّرب الإيقاعيّ بعيدًا عن كلّ أوجه التّرنيم من هنا أو هناك.
5- أَدرَجَ الملحّن عبارات «أمان» و«يا لا لالي» التّقليديّة، المعتَمَدَة بكثرة في صناعة الموشّحات، وذلك إفساحًا للمجال لإضفاء الطّابع اللّحنيّ التّرنميّ بعيدًا عن ذكر أيّ نصّ كلاميّ، وهو الأسلوب الأكثر شيوعًا في كارِ الموشّح منذ «قول يا مليكًا» العبّاسيّ وحتّى أيّامنا هذه.
6- وفي العودة إلى تقييم أسلوب الأداء، نجد أنّ هناك إفساحًا في المجال أمام البطانة (الجوقة) للمشاركة في غناء مُوحّد جَماعيّ، خُصوصًا في الدَّورَين والقفلة، وهذا ما دأبت عليه كلّ التُّخوت الموسيقيّة المحترفة في مطلع القرن الماضيّ في مصر وبلاد الشّام ولم تزل، إذ أنّ بطانات الشّيخ سيّد الصّفتيّ (1867-1939 مصر) والمطرب سيّد شطا (1897-1985 مصر) والمطرب صالح عبدالحيّ (1896-1962 مصر) والشّيخ صبري المدلّل (1918-2006 سوريا) والعديد غيرهم، نجدهم قد دأبوا على هذه العادة، إذ أنّ دور البطانة مساندة المطرب في أدوار الموشّح من جهة أولى، وفي مذاهب الأدوار (الدّور المصريّ) من جهة ثانية، ومجاوبة المطرب في «الهنك» إن وُجد في خانة الموشّح، أو في غصن الدّور.
7- كما أنّ نقطة المحافظة على المونوديّة اللّحنيّة بعيدًا عن الهارمونيا، مع أداء هيتيروفونيّ بعيد عن البوليفونيا وعن قدسيّة النّصّ الموسيقيّ الحَرفيّ، ووجود خليّة صغيرة من الموسيقيّين على شاكلة تخت، كلّها نقاط قوّة لجهة تعزيز الأصالة في تلحين وأداء هذا المولود الجديد.
في الختام، ندعو لفرقة البلد بالكثير من التّوفيق والازدهار والانتشار، كما نتمنّى أن نسمع المزيد من دُرَرِ الألحان الخاصّة بالملحّن مسلّم الكثيري وغيره من الموسيقيين العُمانيين الموهوبين، على أمل أن تبقى في الوطن العربي مساحة حقيقيّة للفنّ العربي الأصيل مع كثير من الإبداع والتّجدد في آن.
______
*رئيس قسم الموسيقى العربيّة في كليّة الموسيقى وعلم الموسيقى (الجامعة الأنطونيّة – لبنان).