تُجهد نفسك في أمر عام، قد يُفيد الوطن والمجتمع، إما بنصيحة أو فعل خير، أو حتى طرح فكرة أو مقترح، وقد تنبّه به مسؤولًا أو حتى مواطنًا عاديًا، وربما تكتب مقالة في جريدة محلية، وأقل ما في الأمر، أنَّك تؤكد على وجود سقف مرتفع من حرية الرأي والفكر والكلمة؛ فهذه الحرية يمارسها الإنسان العُماني في وطنه، لتؤكد بذلك أن المسألة تتجاوز وجود الحرية في التشريعات الوطنية وحسب، وإنما تمارس حقًا وحقيقة على أرض الواقع.
مثل هذا التفاعل اليومي، يخدم الرأي العام في البلاد، ويحد من فساد المسؤول والفرد، ويكشف الممارسات الخاطئة، ويرشد إلى مواضع الخطأ، ويساعد على دفع عجلة التنمية وتقدمها، فلا عمل كامل إلاّ بالنقد المخلص والصادق. وأنت تفعل هذا، ليس انتظارًا لأن يؤخذ برأيك أو لا يؤخذ به، لكنك تشعر أن عليك واجبًا فتؤديه، وأنت بذلك تؤجر على قول كلمة الحق، والحديث الشريف يقول: “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”، ولا يُقصد هنا من مصطلح “المُنكر” أن يكون فسقًا بالله أو كفرًا به، وإنما المنكر هنا يقصد به الشيء المخالف للمألوف، أو حتى القيم والأعراف الوطنية والتقاليد ربما، فالمرء عندما لا يستطيع أن يُغير شيئًا بيده، ولكنه يُعلن رفضه الشيء الخطأ بالقول أو الكتابة، فهو قد عمل بالمتوسط من التغيير.
وأنا ككاتب لعمود أسبوعي، أتحدث في عمودي هذا، عن مواضيع مختلفة، ظنًا منيّ أنني أقدم خدمة لوطني ومجتمعي، وأرهق نفسي بالكتابة والالتزام بها دون مُقابل مادي، ففي هذا أعتقد أن فيه عزم وإقدام منيّ، فقد ينطوي الموضوع على نصيحة لمن هم في مستوى فهمي وثقافتي. أما من هم في مستويات أرفع منيّ، فأنا لا أقدم لهم شيئًا جديدًا، ومع ذلك فإنَّ مُحيطي الثقافي فيه أناس كثر وهم ليسوا أقلية، وإنما الأقلية تكون في المحيط الأكثر رقيًا وتقدمًا وتعلمًا وفهمًا وثقافة. إذن جمهوري أنا وأمثالي، إن استفادوا ولو بمعلومة بسيطة أو كلمة، أو أخذوا بنصيحة واحدة بمرور الأيام، ففي ذلك مكسب كبير لي ولهم، ولي فيه ثواب عظيم سأحصل عليه من خالقي ولو حسنة واحدة.
ولكن بمرور الأيام اكتشفت أن هناك أناسًا مُحبَطِين ومُحبِطين في نفس الوقت، لا يترددون في العمل على كسر الهمِّة، لدى غيرهم من خلق الله، فتجدهم يُسِمُّون بدنك بأقوال مُحبِّطة مثل: “لقد أسمعت لو ناديت حيًّا، ولكن لا حياة لمن تنادي”، ويقال: “على من تقرأ زبورك يا داوود”، ويقال: “لا تتعب نفسك، تراه ما حد يسمعك”، ويقال: “تراها خربانه.. خربانه”، وغير ذلك الكثير من الكلام المُحبِط، الذي لا طعم له ولا رائحة كما يقال، وأحمدُ الله أنني آليت على نفسي أن أتحمل تعب الجهد الجسدي والذهني، ولكن ألاّ أفتح بابًا يتسرب منه الملل إلى وجداني وذاتي.
ثم إنِّك تجد هؤلاء المُحبِطين أو بعضهم، إذا ما وجدوا شائعة، أو كذبة ساذجة أو نكتة ماسخة عن وطنهم.. أو أحد مسؤوليه، سائحة في وسائل التواصل- وحتى إن كانت مجهولة المصدر- فتجدهم يتناقلونها كتناقل النار في الهشيم، ويتم التعامل مع تلك الكذبة، وكأنها حقيقة دامغة، وإذا انبرى البعض في التصدي لها، وجدوا من يؤنبهم ويقول لهم، لا تدافعوا أو لا تطبلوا للحكومة، وكأن الحكومة المقصودة هي حكومة الأعداء، والدفاع عنها خيانة!!! ترى متى سيكون الوطن عند هؤلاء ذا قيمة مقدسة؟! ألا يأخذون العبرة من غيرهم، ممن فقدوا أوطانهم؟! وصاروا سلعة مشاعة بين البلدان، لا استقرار ولا أمان ولا كرامة؟!!
هنا أعود للتذكير بالحديث الشريف الذي أوردته أعلاه، فإن لم تستطع التغيير لا بيدك أو لسانك، فغيّر قرارك بقلبك، وأصمت عن التّحبيط والتخذيل للآخرين.. واكسب حسنة، وتوقف عن نشر الروح السلبية والانهزامية، وأنظر بإيجابية للأمور، وأحسن الظن بغيرك، وقد تكون قدرات الآخرين غير تلك التي اختمرت في نفسك، وذلك بدون وعي منك ربما، فما تراه أنت سيئًا، فقد يكون فقط بمقياسك الشخصي للأمور، فدع غيرك يفعل ما باستطاعته فعله، فقد ينفع الوطن بكلمة أو رأي، والناس لم يخلقوا متطابقين في الفكر والرؤية- وفي ذلك مُعجزة ربانية- وقد قال تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (الحجرات: 13) ومن لم يقرأ هذه الآية، ظن أنَّه خلق للشجار والتهاوش.. وليس للتعايش.
إنَّ الفئة المتلكِئة التي ديدنها التحبيط والتخذيل، أجزم أنها تظن بأن بلدان العالم الأخرى، تعيش في قطع من الجنة، والمدن الفاضلة، وأن هؤلاء يأخذون معلوماتهم من وسائل التواصل وحدها، وحتى إن سافروا يغضون الطرف عن أشياء كثيرة، فرحين بسفرتهم، ومغلقين أعينهم وعقولهم عن المثالب الكثيرة التي يواجهونها.
ذات مرة كنت ضمن وفد رسمي إلى دولة عربية، ولكن الطيران الدولي، يفرض علينا أن نمر بدولة أوروبية، فمررنا بمدينة النور، وفي أحد شوارعها المشهورة، تعرّض أحد زملائنا إلى عملية سلب محفظة نقوده، ولما سار خلف المجرم، أستل له ذلك المجرم سكينًا وهدده بها وأمام النَّاس، وعندما ذهب لإبلاغ الشرطة، لم يجد هو ومن رافقه أي اهتمام منهم، وقال واصفًا حالة الشرطة قائلًا: حتى القلم الذي يكتب به الشرطي البلاغ- وكان يكتبه على مضض- فكان القلم خالياً من الغطاء الخارجي، وكان يمسك بمصران القلم الذي يحمل الحبر بداخله، وإلى اليوم لم تظهر المحفظة المسلوبة، وأنت عندما تسمع عن مدينة النور، تظل تحلم أن تزور هذه المدينة، وهذه دلالة على أن ليس كل الذي تسمعه هو الصحيح.
ففضلًا منك “أيها المُحبِط” لا تظن أننا في عُمان لا نستحق التطور والتغيير؛ بل نحن من أرقى الشعوب بشهادة سيّد الثقلين فينا- عليه الصلاة والسلام- وكن عزيزًا بنفسك لترى الوجود من حولك جميلًا، وتوقف عن التحبيط والكلمات السلبية التي تضر ولا تنفع.
حفظ الله وطننا عُمان وشعبها الأبيّ وسلطانها المعظم.
حمد بن سالم العلوي