مسعود الحمداني
بعث لي بعض الإخوة مقاطع يوتوبية لشخص (خليجي لا أعرف جنسيته) اسمه محمد البشري يرد على مقال “خليجكم يغرق أيها الخليجيون” والذي نشرتُه قبل أسبوعين تقريبًا في جريدة الرؤية، وانتشر بشكل جيد في وسائل التواصل الاجتماعي، وتلقفّه المذكور بنهمٍ كبير، وشهيةٍ مفتوحة للشتم والردح، وأفرد له حلقتين في قناته على اليوتيوب ليرد ويفنّد ما ورد في المقال، ولكن بأسلوب رخيص وهابط، كعادة بعض الذين يجيدون “الهياط” على لهجة أشقائنا السعوديين، محاولاً أن يستعرض بعض عضلات المعلومات المنقوصة، والمغالطات الهشّة.
الحقيقة أنني لم أستطع تكملة نصف الحلقة الأولى من الفيديو لأنه ممل أولاً، ولأنني لم أخرج بجملة مفيدة يمكن أن تضيف لي معلومة جديدة، ولم أشاهد الجزء الثاني من الحلقتين، ورغم أنني آثرت عدم الرد في البداية، إلا أنني وجدتها فرصة سانحة لتبيان بعض المواقف العامة، والمنطلقات الثابتة التي أنطلق منها شخصيًا، وينطلق منها كذلك بعض الكتّاب العمانيين الذين يتناولون الأوضاع الخليجية الراهنة، والتي لا تسر لا صديقًا ولا عدوا منصفًا، من باب حكاية السفينة التي أحدث فيها ركّابها ثقبًا، فإن تركهم ركّابها الآخرون– وهم شركاء فيها– غرقت وغرقوا، وحتى تكون الرؤية واضحة فالمقصود بـ“الركّاب” هنا هم من يعيشون على ضفتيّ الخليج كلتاهما… ولذا..
فإننا حين نتناول– نحن العمانيين– في مقالاتنا وكتاباتنا الخليج العربي وأزماته ومشاكله فنحن نتحدث عن بلداننا المشتركة في الحدود والتاريخ والمصير، وعن أهلنا، وأصهارنا، وأبناء عمومتنا الأزليين، ونناقش في كل ذلك ما يهم شعبنا الخليجي الواحد الذي أصبح مقسّما ومنهكا ومنتهكا بين عشية وضحاها، ونتكلم من منطلق الحرص على أمننا واستقرار أوطاننا التي لا تتجزأ ولا تنفصل لا جغرافيا ولا تاريخيًا، وحين نتناول ما يدور حولنا فنحن نناقش أمورا تمسّ جميع بلداننا بالدرجة الأولى، ونحاول مع كل ذلك أن نكون وسطا في غابة من الفتن، وأن لا ننحاز إلى طرف ضد طرف، وأن لا ننتصر لفريق دون آخر، فقدرنا أن نتعايش مع كل من حولنا، وأن نكون على الحياد، هذا ما تعلّمناه من سياسة سلطاننا الحكيمة والمتزنة والعاقلة، ولكن..
هناك من الغوغاء والسوقة من يفسّر ما نكتبه على أنه انتصار لفريق، وانحياز لطرف، وأن ذلك معناه– بالنسبة لهم– أنَّ العمانيين يتخندقون مع “العدو“، ويتنكّرون لخليجيتهم “العربية“، وإخوانهم، ويصطفون ضدهم، وفي هذا قصر نظر من هؤلاء، الذين ينظرون إلى الأمور من زوايا ضيقة للغاية، ويحاولون أن يثيروا الزوابع، ويصبّوا الزيت على النار، في وقت يحتاج الخليجيون فيه إلى الوحدة والتقارب أكثر من أي وقت مضى، وأن ينتبهوا إلى ما يكيده لهم أعداؤهم الحقيقيون الذين يلبسون ثوب الحمل وهم الذئاب التي تتحيّن الفرص لاصطيادهم، ولكن..
يذهب بعض أدعياء الكتابة والمتلصصين على الإعلام بدون وعي أو تفكير بمفاهيم البسطاء نحو الهاوية، وبدلاً من أن يعينوهم على الرؤية الصحيحة، ويفتحوا أبوابا للحوار، ويناقشوا الأمور بعقلانية وحيادية تجدهم يصرخون بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولا يجدون سلاحًا لهم سوى الزعيق العالي، والردح الإلكتروني لكي يزيدوا عدد متابعيهم، وليُظهروا لغيرهم من الرعاع أنهم حريصون على وطنهم، وأن هناك من تطاول عليه، لأن شخصاً ما من بلد ما انتقد وضعًا “عاما” معينا، وانتصر لمن يعتقدون أنه عدوهم اللدود، وبالطبع في ظل هذه اللوثة العقلية يزجّون بالمذاهب، والطائفية والعشائرية وكل ما تطاله عقولهم القاصرة والتي تربّت على مثل هذا الحشو والتصنيفات الجاهزة، والتي يظنون أنهم معها يملكون الحقيقة المطلقة، وأن كل من يخالفهم مذهبيا أو طائفيا إنما هو ضالٌ مصيره إلى النار وبئس المصير.. ولكن..
لو أنهم خرجوا من قوقعة التفكير الضيقة التي حبسوا أنفسهم فيها لوجدوا أن العالم يتسع للاختلافات، والخلافات، لأنَّ كل إنسان في هذا الكون يعتقد أنه صاحب حق، وقليل من هؤلاء من يعترف بخطئه ويعدل رأيه إن وجد نفسه على غير جادة الصواب، ويحاول بناء قناعاته الجديدة على أرض صلبة، ومنهج أكثر عقلانية وتدبّر، أما الأكثرية فيظلّون على ضلالتهم، يمشون على غير هدى، ولا كتاب مُنير، ولذلك فمن الغباء أن يضيّع المرء وقته وجهده في نقاش سفسطائي عقيم، لا أول له ولا آخر، يُهدر فيه الجهد والفكر، لأنَّ من تخاطبه عبارة عن “لوح” لا يفهم، ولا يستقيم، وهم يعتقدون أن “الهياط” الذي يمارسونه، والأكاذيب التي تربّوا عليها ويبثونها، والذباب الإلكتروني الذي يتابعهم– والذين ثلاثة أرباعهم بالطبع أسماء وهمية– تنقذهم من الغرق، وتخفي جهلهم، وعنصريتهم البغيضة..ولكن..
على كل هؤلاء الغوغاء والمرتزقة الرخيصين أن يعلموا أنهم ليسوا أكثر حبًا منّا– نحن العمانيين– لدول الخليج العربية وشعوبها، وأننا لم نكن ضد أحد يوما، وأن ما نكتبه أو نعلنه ما هو إلا وعي منِّا بأن ما يمس أيّ دولة خليجية إنما يمس جميع دوله، لذا لا يجب أن يستأثر أحد– دولة أو فرد– بقرارات مصيرية قد تجر المنطقة كلها إلى كارثة تحرق الأخضر واليابس، ولا ينجو منها أحد تحت ذريعة حجج متخيّلة.. وليعلم صائدو المياه العكرة أننا– نحن العمانيين– ندافع بشتى الطرق الحوارية والسلمية عن خليج يغرق ويحترق ولكن بالعقل والحكمة والموعظة الحسنة، وليس بمنطق السلاح، واستدعاء الغريب، والتدخلات الأجنبية، والمزايدات الكلامية الجوفاء، ولأننا نعرف قدر أنفسنا كدولة فإننا نقف عنده.. وليحفظ الله الخليج وأهله من كيد الكائدين، ومن شر أولئك الذين لا يملكون إلا لسانا يقذف الفتنة المنتنة، وأقلاما مأجورة لا تكتب إلا الدعوة لإشعال الحرائق.. ومرة أخرى “خليجكم يغرق أيها الخليجيون“.. فانتبهوا