واجهت الأمة العربية والإسلامية خلال تاريخها الطويل الكثير من الأزمات والمواقف المستعصية، ولعل أشدها وقعا حالة التفرق والتشرذم والاختلاف بين أبنائها وهو ماثل اليوم مع الأسف الشديد، والعبارة الشهيرة “فرق تسد” هي واقع الحال منذ كامب ديفيد حتى اليوم، فقد ركزت القوى المعادية للأمة على هذه القاعدة كعنصر مهم في إطار المواجهة وسعت لتكريس هذا الواقع باعتباره أهم خطوط التأثير على الأمة، حيث قامت بمحاولات مضنية لاستقطاب بعض القيادات العربية وجرها إلى اتفاقيات ثنائية بهدف فصلها وإبعادها عن محيطها العربي، وقد حدث ذلك بالفعل مع الرئيس أنور السادات بعد انتهاء حرب أكتوبر/تشرين عام 1973م، حيث نجحت “إسرائيل” في ذلك عندما وقع الرئيس المصري الأسبق أنور السادات اتفاقية كامب ديفيد عام 1978م والتي تبعها معاهدة السلام التفصيلية في واشنطن عام 1979م، فكان ذلك أول خرق للتضامن العربي منذ زرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، وبسبب هذه المعاهدة بدأ الانقسام العربي وتمت مقاطعة مصر القوة الأهم والشقيقة الكبرى، وانتقلت جامعة الدول العربية من القاهرة، وابتعدت الدول العربية عن مصر بسبب تلك الاتفاقية المشؤومة، ثم تبع ذلك متغيرات سياسية وتحولات خطيرة على الساحة العربية بتوقيع اتفاقات ثنائية أخرى بين الكيان الصهيوني ودول عربية أخرى كاتفاقيات أوسلو مع السلطة الفلسطينية التي لم يجنِ منها الفلسطينيون أية نجاحات تذكر، ثم اتفاقية وادي عربة مع الأردن، كل ذلك حدث في ظل أوضاع عربية سادها الانقسام والانشقاق وظروف صعبة أدت إلى ذلك، وزادت الأحوال سوءا بعد الغزو العراقي للكويت ثم حصار العراق لمدة ثلاثة عشر عاما انتهت بعدوان أميركي واحتلاله عام 2003م، وأخيرا أطل على المنطقة مخطط مشبوه عرف بالربيع العربي الذي جلب الخراب للأمة العربية وانتهت العلاقات العربية إلى مزيد من التدهور والاختلاف، والمؤسف له مساهمة دول عربية في هذا الخراب من خلال جلب الإرهاب ودعمه بالمال والسلاح، وعكفت منابر دعاة السوء على اللعب بعقول الناس ومارس الإعلام تأثيره الخطير في دفع الشعوب العربية إلى المطالبة بالتخلص من أنظمتها الحاكمة، وانطلقت شعارات إسقاط النظام لكي تبقى الدول العربية بلا نظام يتقاتل على السلطة فيها أزلام الإرهاب مع استمرار الفوضى وعدم الاستقرار، وهو ما يمثل نجاحا للأجندة الصهيونية في المنطقة، وتحالف خفي من دول الرجعية العربية في تدمير دول عربية أخرى توافقا مع المشروع الاستعماري في المنطقة، فاستخدمت بعض الأنظمة العربية كأداة في يد قوى الاستعمار ما زالت تتحكم فيها وتتحكم في قرارها السيادي مستفيدة من حالة الضعف والانقسام العربي، فبات ذلك أمرا مألوفا وواقعا لا مزايدة فيه، بل وصل الأمر في نهاية المطاف إلى اعتبار العدو الصهيوني حليفا رئيسيا لتلك الأنظمة وأصبح العمل معه في نطاق الشراكة والتحالف الاستراتيجي حول مسائل مصيرية تستهدف الأمة وحقوقها التاريخية، وما هو قائم اليوم من جهود مشتركة لتبني ما يسمى “صفقة القرن” التي خطها الصهيوني نفسه مثال واضح يحمل من الخبث والمكر والخديعة ما يسقط حقوق العرب، ويكرس مزيدا من الاحتلال، ويسقط حق العودة، ويقسم فلسطين التاريخية إلى أكثر من قسم، ويسقط قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس. والأغرب في هذه الصفقة أن تفرض تكاليفها على حساب العرب أنفسهم، وهذا ما يندى له الجبين فإلى أي مدى بلغ بنا التشرذم والاستعداء والذل في مرحلة سيئة غاب فيها الوعي العربي .
ما يهمنا اليوم ليس حالة العرب المستعصية أو تحالفاتهم مع قوى الأعداء، فهذا أمر قرر العرب الانخراط فيه بعد مراحل من التراجع والانقسام، ولكن كل الخطايا التي ارتكبت في حق الأمة لا بد أن تعود على فاعليها والأيام لا شك تدور، وما يهم الأمة اليوم هو توحيد قوى المقاومة وإزالة الشوائب العالقة بين هذه القوى العربية التي ترسم المشهد العربي بدماء المقاومين، وما يثلج الصدر أن قوى المقاومة في فلسطين تعاود الاصطفاف في كل مواجهة مع العدو الصهيوني وحققت الانتصار في جميع مواجهاتها الأخيرة. ولكن يبقى على القوى السياسية الفلسطينية أيضا أن تعاود الاصطفاف وتحقيق المصالحة التي نناشدهم بها من خلال هذا المنبر الإعلامي العربي، فالضرورات تفرض نفسها على المشهد العربي لمواجهة الأخطار المحدقة، كذلك هو الحال بالنسبة لعودة العلاقة مع أضلاع المقاومة العربية التي كانت معهم في خندق واحد وقدمت لهم الدعم والاحتضان في مراحل سابقة من النضال، فهناك مشتركات جامعة وعناصر متشابهة تجمعهم وإن فرقت بينهم الأحداث، فمن المهم اليوم عودة العلاقات الطبيعية بين سوريا قلب العروبة النابض وحركة حماس، ولذلك ينبغي تقدير ظروف المرحلة الآنية وإدراك تلك المشتركات القومية والظروف المصيرية لتجاوز الخلافات ودفع عجلة المقاومة إلى الأمام، علما أن الأخطاء التقديرية واردة في عالم السياسة، ولكن الأهم يفرض نفسه على الساحة والأهم هنا هو مستقبل تلك المقاومة وتوحيد جبهتها والتصدي للأخطار المحدقة بالأمة، ومواجهة الأهداف الصهيونية الخبيثة، ولا بد من الالتزام بميثاق شرف بين هذه القوى لتجاوز الماضي والسمو فوق الخلافات من أجل أهداف عليا تفرضها ظروف المرحلة الراهنة، لذا نكرر مناشدة هذه القوى في الداخل الفلسطيني والجوار العربي لتجاوز خلافات الماضي، وإعادة ترتيب أوراق المقاومة؛ فالآمال معلقة بها ولا شك هي منتصرة بعون الله .
خميس بن عبيد القطيطي