تغادر بصمت مستفز وفي داخلك ضجيج أزعم أني أسمع كثيرا منه .. تغادر لتعيش حياة التقاعد التي أتمنى أن لا تقعدك عن المواصلة ، حتى تظل صداحا بصوتك العجيب ، وأن تعيشها من اليوم كما تشتهي أنت لا كما تفرضه عليك الظروف .. تغادر ذلك المبنى الشامخ الذي ستظل جدرانه وتفاصيله الصغيرة والكبيرة تردد صوتك الذي يتصدر مقدمات البرامج ودعاء الأذان والإعلان عن دقات ساعة برج الصحوة التي ستتبعها بنشرة أخبار من الطراز الفخم ستتلوها وترتلها على المسامع التي لن تملك إلا الانصات ، وما زالت المكتبة الصوتية للإذاعة تحفظ لك ولنا ولهم لآليء ستعود الأجيال القادمة للفوز بها وفك بعض شفراتها ..
ما زلت أتذكر جيدا يا ( ابو سالم) أنك أول مدير للدائرة التي قضيت فيها سنواتي المهنية الأولى (دائرة الأخبار والشؤون السياسية) . وما زلت أتذكر من صيف 1982/م دخولك مكتب المدير العام للإذاعة بدشداشتك التي لم يغرك لون آخر غير بياضها الى اليوم يتصدرها دائما قلم أنيق ، والشماغ الأحمر ذي الأهداب الذي غيرته لاحقا الى العمائم البيضاء الوقورة – أتذكر ونحن مجموعة من المراهقين الذين التحقوا بالعمل حديثا نتلقى التعليمات والتوجيهات الأولى لأبجديات العمل الاذاعي – أننا تهامسنا فيما بيننا ونحن في دهشة : (هوه هذا حسن سالم بو نسمعه في الأخبار) غير متخيلين أننا خلال مدة قصيرة ستصبح الزميل حسن سالم ، لأنه لا يعنيك أن تضع بينك وبيننا جدارا خرسانيا فنحن سنصبح جزءا من أسرتك الاذاعية ، وسوف نناديك (حسن) فقط في زمن كنا نشعر فيه أن كلمة أستاذ تضع بيننا ذلك الحاجز وأنها كلمة تطلق فقط على الزملاء الأجانب .. ما زلت أتذكر كيف أصبحنا زملاء مهنة بعيدا عن الفروق الادارية لنلتقي فجرا أو مساء ونكتفي ببراتا ودال وكرك من أي مطعم آسيوي يقابلنا ، ونتهيأ للنقل المباشر الذي سيرعاه المقام السامي ، وأنت تشكو أنك لم تنم البارحة من القلق وأن القولون العصبي يتحرش بك ، فالمناسبات الكبيرة تستحق أن تقلقنا لتزيد حرصنا لأن كل كلمة سننطقها سيضعها المتلقي في الميزان ويجب أن نكون نحن رمانة ذلك الميزان ، وكيف نتحفز لبداية النقل بينما ندس نسخة حصلنا عليها قبل الآخرين ولن يطالها حتى عفاريت الجن من الخطاب الذي سيحمل الفرح و المفاجآت الوطنية .. كثيرة هي المناسبات التي تقاسمنا متعتها وصعوباتها وأسرارها ..
سأختار – ولو في خيالي – أحد استديوهات الإذاعة لأضع على بابه لوحة كتب عليها (استديو حسن بن سالم الفارسي) وسأضع داخل أبرز زواياه جهاز الراديو الكبير ذي المسطرة والشعرة وموجات ال Am و Mw و Sw وبجانبه سماعة الأذن الكبيرة السوداء التي بدأت أطرافها تتهتك وميكروفونا قديماتقشرت صبغة مقبضه من كثرة الاستخدام ، وسأضع بجانب هذه الأدوات صورة حديثة لك ، سأكتب تحتها : اليك مع التقدير .
محمد المرجبي
5/يوليو/2019/م